ابحث عن موضوعك في موقعي هنا

||

ترجمة/Translate

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

المشرق العربي في العصر الروماني



المشرق العربي في العصر الروماني
(حوار حضاري؟)
              حكم الرومان المنطقة ستة قرون ونيف (كانت الدولة بيزنطية منذ أوائل القرن الرابع). وكان الاحتلال على فترات متفاوتة، امتدت من القرن الأول قبل الميلاد حتى أوائل القرن الثاني بعد الميلاد. لكن القسم الأكبر منها (مصر وبلاد الشام وجزء من الجزيرة الفراتية) كان قد خضع للرومان خلال نحو مئة سنة منذ مجيء بومبي سنة 63ق.م.
              لا يختلف قدوم الرومان عن قدوم اليونان من حيث الغاية-التوسع والاستعمار وضمان الطرق التجارية مع آسيا والمحيط الهندي.
              حمل الرومان معهم إلى الشرق فن المعمار بكل تطوراته الإغريقية المتأخرة والرومانية المبكرة. وليس من شك في أن العمارة الرومانية زادت صنعة ورونقا واتقانا بعد التجربة الرومانية في إمبراطوريتها الواسعة. وهذه التقنية المعمارية الفائقة تألقت بشكل خاص في الهياكل الضخمة وعمدانها الممشوقة ودور التمثيل وما فيها من تنسيق للممثل والحاضر التمثيل وفي الكنائس التي أقيمت بعد أن اعتنق الرومان المسيحية رسميا!
              على أن أحد نواحي التفوق عند الرومان هو هذه الطرق التي رصفوها تيسيرا لنقل الجيوش، فأفاد منها التجار فائدة قصوى. واهتمام الرومان بالتجارة وسبلها وأسبابها وأسواقها حرية بالاهتمام.
              وحمل الرومان معهم أحد مظاهر عبقريتهم وهو القانون الروماني.
              وكان من الطبيعي أن تكون لغتهم اللاتينية لغة الإدارة والقانون.
              لكن اللغة اللاتينية لم تنتشر في البلاد إلا في منطقتين هما بيروت وبعلبك بسبب التمركز الإداري والعسكري أولا وبسبب مدرسة الحقوق التي أقيمت في بيروت والتي ظلت حتى الزلزال الكبير سنة 551م، فقد كانت اللاتنينية لغة التعليم فيها.
              وظلت اللغة الفينيقية منتشرة في المناطق الساحلية، والآرامية لغة الداخل من بلاد الشام ومنطقة الجزيرة الفراتية ومركزها إديسّا (الرها) وظل لليونانية ما كان لها من انتشار شبه عادي في أماكن محدودة.
              على أن الأمر الذي طرأ على المنطقة في الفترة الرومانية هو ظهور المسيحية، التي لقيت، حتى قبل أن يشتد ساعدها، الاضطهاد من خصوم ثلاثة أشداء: اليهودية والهلينيستية والدولة الرومانية.
              ولد المسيح في بيت لحم (سنة 4ق.م.)، ونشأ وترعرع ودعا إلى المسيحية في فلسطين. ومن المرجح أنه وصل جنوب لبنان في رحلاته التبشيرية.
              فما هي هذه الدعوة الجديدة التي قضت مضجع الخصوم؟
              كانت اليهودية قد ادعت، وبدلت في التوراة (من أسفار العهد القديم) ما شاء لها أن تبدل في سبيل تثبيت ذلك، فقالت أن يهوه هو الإله الحي الوحيد وأنه اختار شعبا خاصا به هو إسرائيل (أي اليهود بشكل عام) وأنه وعد هذا الشعب المختار بأرض المعياد أي فلسطين. ومع أنه قامت فرق يهودية متعددة وتباينت آراؤها في أمور تتعلق بالعبادات والطقوس، فان الكل أصر على هذه الأمور على أنها أساس العقيدة.
              وقالت المسيحية بأن أساس عقيدتها أقانيم ثلاثة متوحدة هي الله، وأن المسيح واحد من الأقانيم، وأنه مساو للآب. ولم تقبل المسيحية بأن يخص الله بشعب واحد؛ وقالت أن ملكوت الله للبشر أجمعين، وأن الحصول عليه يتم بالتوبة – بالطهارة القلبية – بالولادة الثانية.
              وانتشرت المسيحية على أيدي تلاميذ المسيح وآخرين قبلوا الإيمان وعملوا على نشره. وكتاب المسيحية هو الكتاب المقدس، ولكن التشديد هو على العهد الجديد. وأسفار العهد الجديد تشمل الأناجيل الأربعة التي كتب ثلاثة منها تلاميذ المسيح (بين سنتي 65 و 90م). وكتب يوحنا الإنجيل الرابع في العقود الأولى من القرن الثاني للميلاد. أما أعمال الرسل (أي المبشرين) والرسائل فإنها تحوي أخبار أعمال التبشير في الفترة الأولى من الزمن المسيحي (تقريبا إلى حول 100م).
              كانت خصومة اليهودية للمسيحية واضحة في الدورين. الأول يشمل العقود الأولى. فقد اعتبر اليهود في القدس أن هؤلاء المسيحيين فرقة خارجة من الدين اليهودي وعليه، ولذلك وقع اضطهاد كبير على المسيحيين. والدولة الرومانية لم يكن لها يومها موقف، إذ اعتبرت الأمر انقساما داخليا بين أبناء دين واحد.
              لما ثار اليهود على الحكم الروماني وقضى تيطس على الثورة سنة 70م، غضب اليهود حيث كانوا يقيمون، وحزنوا ومزقوا الثياب حدادا على تدمير الهيكل. ولأن المسيحيين لم يهمهم الأمر، اتضح أنهم لم يكونوا فرقة يهودية خرجت عن القطيع، بل أنهم أصحاب دعوة جديدة.
              وكانت المسيحية خلال ذلك تنتشر في فلسطين وحوران وشمال سورية والساحل الشامي. وأصبحت للمسيحيين شخصية معينة ولو أنها لم تتضح تماما للحكام الرومان. فالأرشيف الروماني في القرن الأول م مثلا، لا إشارة فيه إلى المسيحية أو المسيحيين.
              وإذا نحن أخذنا سنة 100م نقطة لتدبر الأمور التي كانت قد تمت وجدنا أن المسيحية كانت قد ثبتت مواقعها في فلسطين والساحل الشامي من جهات غزة (غزة لم تدخلها المسيحية إلا في القرن الرابع) إلى صور وصيدا وفي إنطاكية وما حولها وإديسّا، ثم في بيثينيا وبنطس (آسيا الصغرى) وقبرص وكريت والإسكندرية وفي أرمينية.
              لكن النجاح الذي حققته المسيحية في الفترة التالية، أي في القرن الثاني الميلادي، هو الذي جلب عليها النقمة الكبيرة من خصومها. وهؤلاء الخصوم كانوا اليهود في كل مكان؛ والجماعة الهلينيستية، أي أولئك الذين كانوا من أتباع الفلسفة والفكر اليونانيين، والذين ظهروا في العصر الروماني؛ ثم الدولة الرومانية نفسها.
              اليهود هاجموا المسيحية لأن المسيح (1) قضى على العهد المزعوم بين يهوه والشعب (الشعب المختار وأرض الميعاد). (2) تخطى الشريعة اليهودية فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بالطقوس الدينية. (3) دعا إلى مساواة الابن للآب. وأضاف اليهود إلى ذلك أن المسيحيين يختفون وقت الصلاة (لأنهم يمارسون طقوسا شائنة).
              واتباع الهلينستية كانوا يخاصمون المسيحيين على مستويين: فالمتعلمون كانوا يعتبرون خصومهم جهلة، لأنهم لا يفهمون الفلسفة. والبعض كان يتهمهم بالتعصب وضيق الأفق العقلي. ومعنى هذا أنهم يقبلون إلها واحدا، فيما كانت الفلسفة والديانات الشرقية الأصيلة تقبل بتعدد الآلهة والأسرار المرتبطة بالآلهة.
              وفي مطلع القرن الثاني الميلاد دخلت الدولة الرومانية على خط الخصومة. وكانت شديدة لأنها اعتمدت الاضطهاد والعقوبات القاسية التي كانت تتصف بالوحشية. ومع أن نيرون، الإمبراطور الروماني 37-68م، كان أول من اضطهد المسيحيين، فإن القرن الثاني والثالث هما اللذان شهدا العنف والظلم يقع على المسيحيين. وقد كان سبب ذلك أن المسيحيين رفضوا تقديم القرابين للإمبراطور (على أنه إله)، إذ أن هذه كانت العبادة الرسمية في الإمبراطورية. ومن يرفض تقديم القرابين يعد ثائرا على الدولة ومن ثم حقّ عليه العقاب.
              فضلا عن ذلك فقد صدرت نشرات رسمية تذم المسيحية وتتهم المسيحيين بإتيان الموبقات أثناء تجمعاتهم السرية (أي أوقات عبادتهم) من قتل وشرب دم وتحلل خلقي.
              ولن نتابع قضية الاضطهاد هذه، بل نكتفي بذكر بعض الشهداء الأوائل الذين كانوا من كبار أهل العلم والقلم في تفسير المسيحية والدفاع عنها أمام الدولة والناس. وهم اغناطيوس (115م) كان أسقف (أي رئيس كنيسة من الدرجة الأولى) إنطاكية ثم أصبح أسقف رومه؛ ويوستين (165م) وهو مبشر بالمسيحية أصله من نابلس (فلسطين) لكنه استشهد في رومه؛ وبوليكارب (165م) الذي استشهد في أزمير. لكن كان إلى جانب هؤلاء الأفراد اضطهادات شملت جماعات كبيرة، وقد قتلت بأساليب شرّيرة.
              من المهم أن نتنبه إلى أن المسيحية نشأت وتطورت في الأدوار الأولى في جزء من العالم كان متباين النزعات الأدبية والفلسفية والدينية، وإنه كان يرث تجارب حضارية عمرها آلاف السنين. وإن هذا الجزء من العالم كان سكانه مختلفي الأرومة واللغة. ففي الجزء الشرقي منه كانت السريانية (أي الأرامية الجديدة المتطورة) لغته، وكان الأراميون سكانه، مع كثير من الشعوب السامية التي سبقت. أما غرب بلاد الشام وآسية الصغرى وبلاد اليونان والإسكندرية فقد غلبت عليها اللغة اليونانية. وقد تزامنت المسيحية مع فترة إحياء الفلسفة الأفلاطونية فيما عرف باسم الأفلاطونية الحديثة.
              فمن المتوقع إذن أن تقوم داخل المسيحية بدع تمثل اتجاهات مختلفة. فثمة محاولة للتوفيق بين الفلسفة والمسيحية، بشكل دعوة إلى الأفلاطونية الحديثة. كان فيلون (20ق.م.-50م) اليهودي الاسكندري قد حاول التوفيق بين فلسفة أفلاطون والدين اليهودي، وتابعه في ذلك المؤرخ اليهودي يوسيفوس (37-100م) لكن ذلك لم يكتب له النجاح (وما كان لُيكتب له نجاح!) وعادت هذه الفلسفة مجددة نفسها على يد أفلوطين (تو 270م) وكانت قد تأثرت بالتصوف الهندي الذي غزا الإسكندرية مع التجار الهنود الكثر. هذه هي الأفلاطونية الحديثة. ولا بد أنها امتصت بعض آراء من الديانة المصرية القديمة.
              كان ثمة في الإسكندرية مدرسة لاهوتية، هي الأقدم في تاريخ المسيحية. ومع أننا لا نعرف تاريخ إنشائها فالمعروف أنها كانت قائمة سنة 190م. وكان أعضاؤها هم المسؤولون عن صياغة الأفكار المسيحية اللاهوتية وعن وضع التفاسير للكتب المقدسة. ولكن مما يلفت النظر أن هذه لم تقتصر على تعليم اللاهوت المسيحي بل كانت تُدرّس فيها الإنسانيات (أي جماع الأدب والفكر القديم وأكثره من اليونانية) والعلوم والرياضيات.
              وكان في الإسكندرية بطْرِيَرك على نحو ما كان في رومه وإنطاكية (وكل يدير الكنيسة في المنطقة التي كانت من قبل ولاية رومانية). وقد ظلت مدرسة الإسكندرية حرة حتى سنة 231م، إذ تبعت للبَطْرِيَرك، وذلك لما تخلى عن رئاستها اوريغون (تو 254 في قيسارية قيصرية/فلسطين).
              والكتّاب المسيحيون كثر، ولكن لن نتوقف عندهم. إنما نود أن نشير إلى أن أسلوب الجدل والمناقشة كان أساس الحوار. ومن هنا صدرت يومها كتب توضح المسيحية أولا على شكل حوار بين وثني ومؤمن. وممن فعل ذلك أرسطو وهو مواطن من فِحل (بلاّ) في غور الأردن.
              ولكن كان ثمة من يكتب ردا مباشرا. فقد وضع كِلْسوس (سنة 180م) كتابا شنع فيه على المسيحية فادعى بأن انتشارها زعزع أركان الإمبراطورية الرومانية وقال بأن المسيحيين قوم محتالون وما يتبع ذلك من كلمات السوء. فرد عليه اوريغون مفندا أخطاءه موضحا الفضائل التي تدعوا اليها المسيحية مع شرح واف للعقيدة نفسها.
              ولنعد إلى إديسّا للتذكير فقط. كانت هي المدينة الأهم للمسيحية في العالم الارامي أي شرق بلاد الشام وأرض الرافدين؛ ومدرستها اللاهوتية كانت ذات شأن كبير في صياغة المسيحية الشرقية.
              هذا الجو المعقد ذو الوجوه المختلفة، وبعضها متنافر، وذو الخبرات العقلية والروحية المتنوعة، وأكثرها متخاصم، هو الذي نمت فيه المسيحية وتطورت ومن ثم تباينت الكنائس رأيا. ولعلنا نستطيع في هذه القرون المسيحية التي تمتد من أوائل الثاني حتى السادس للميلاد أن نقع على معنى الحوار الحضاري على نحو واضح، بعد أن ما عثرنا عليه قبلا كان تبادلا واقتباسا حضاريا.
              يمثل القرن الرابع الميلادي نقلة مهمة بالنسبة للمسيحية. ذلك أن قسطنطين (حكم 305-337م) اعتنق المسيحية. وفي أيامه اعتبرت المسيحية دينا من أديان الإمبراطورية الرسمية (لم تصبح المسيحية دين الإمبراطورية الرسمي إلا في أواخر القرن الرابع).
              يتوجب علينا أن نوضح هنا بضع كلمات كان لها في القرن الرابع الميلادي وما بعده دلالة خاصة.
              لما اتخذت الكنيسة النظام الروماني الإداري من حيث تقسيم الولايات والوحدات الإدارية الأصغر أساسا لها، حتى في القرن الثالث، أصبح للكنيسة قوامون على أمرها. فالولاية الكبيرة كان يرئسها بَطْرِيَرْك – وكان ثمة في بادئ الأمر بطاركة وهم بطريرك رومه (الأول منـزلة) ثم بطريرك الإسكندرية، ويلي هذا بطريرك إنطاكية. فلما اعتنق قسطنطين المسيحية أصبحت البطريركيات أربعا: رومه والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية. وأعيد ترتيبها فأصبحت على الترتيب التالي: رومه والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية (أما القدس فلم تصبح بطريركية إلا سنة 451م). أما الأسقف فكان رئيسا لكنيسة هي جزء من الولاية كأن تكون محافظة مثلا.
              وكانت القضايا الكنسية تعالج عند الحاجة في مجلس أسقفي وهو الذي يدعو إليه البطريرك، ويدعى إليه رجال الدين من البطريركية نفسها ولا يتعداهم. وتبحث هذه المجالس في شؤون أكثرها إدارية. أما القضايا اللاهوتية الكبرى فكانت تعالج في مجمع مسكوني (أي من المسكونة المسيحية). وقد دعي أول مجمع مسكوني سنة 325، وكان الداعي إليه قسطنطين بالذات. (لكن كان يجوز لبطريرك ما أن يدعو أخوته البطاركة إلى مجمع مسكوني).
              وثمة أمر هام يجب توضيحه قبل التحدث عن القضايا التي اختلف فيها المسيحيون وتحاوروا (وحتى تخاصموا) بشأنها.
              إن الإمبراطور الروماني كان، بحكم تطور تاريخي سابق هو الحَبْر (الكاهن) الأعظم لكل دين يقوم في رومه وإمبراطوريتها. ويعني هذا المزج بين الرسمية والأبوية أنه كان يعتبر "رأس" تلك الديانة. ولما اعتنق قسطنطين المسيحية اعتبر نفسه حَبْرها (كاهنها) الأعظم أي رأس الكنيسة الرسمي، لكنه لم يكن رأس الكنيسة اللاهوتي، إذ أن هذا موضع اهتمام البطريرك. لكن قسطنطين وخلفاءه من بعده تصرفوا تصرف صاحب السلطة في هذا المنصب.
              كانت القضية الأولى التي اختلف المسيحيون بشأنها، وكان ذلك على درجة عالية من الخلاف، هي: القول بأن المسيح (الابن) يساوي (الأب) في الجوهر. هذا ما كان يسمى "الأرثوذكسية"، وأتباعها يسمون الأرثوذكس أي أتباع الرأي القويم (أو المستقيم). ولكن اريوس (256-325م) لم ير هذا الرأي فقال بأن الأب هو وحده الجوهر الأول وهو الذي يستحق لقب الإله. أما الابن فلم يكن سوى إله ثانوي منخفض الرتبة. لكنه تميز عن بقية المخلوقات في أنه كان صورة الأب في جوهره. ومن الطريف أن ألكسندروس (أسقف الإسكندرية) دعا أريوس إلى مناقشة علنية كانت، على ما روي عنها، ممتعة جدا. هذا هو الحوار الذي كنا نبحث عنه من قبل تحقق في تلك الأيام.
              دارت مناقشات وحوارات وتشاور وتنابذ بين الفريقين ودامت وقتا طويلا. لكن لم ينته الأمر إلى نتيجة (وما كان له أن ينتهي إلى ذلك). فالقضية لا تحلها المناقشات. وأخيرا دعا قسطنطين إلى "مجمع مسكوني" (325) هو الأول من نوعه. (وتبعته على طول الزمن مجامع كثيرة) وقد عقد في نيقية (في شمال غرب آسيا الصغرى) ولذلك فإنه يسمى مجمع نيقية أو المجمع النيقاوي. وحضره جميع الأساقفة من أنحاء الإمبراطورية لبحث هذه القضية.
              ترأس حفل الافتتاح قسطنطين نفسه (بوصفه "الحبر الأعظم" لهذا الدين الذي اعتنقه حديثا).
              وانتهى المجمع إلى إقرار ما يسمى قانون الإيمان المسيحي. وقد جاء في هذا القانون أن المسيح مساو للآب في الجوهر. أي أنه أخذ بالرأي الأرثوذكسي. ولم يقبل أريوس وأتباعه بذلك وخرجوا ينشرون فكرتهم في المشرق، لكن الأريوسية بالذات ضعف شأنها في المشرق وانتقلت إلى أوروبة ومن ثم إلى شمال إفريقيا.
              وكان من آثار الخلاف الذي استمر بعد المجمع أن الأباطرة كانوا يختارون الأرثوذكسية أو الأريوسية أساسا لمعتقدهم، وكان كل يؤيد جماعته وقد يقع بعض الاضطهاد على الخصوم. وعندنا في أواسط القرن الرابع خبر ماوية ملكة العرب في بادية الشام التي كانت جماعتها على الأرثوذكسية، وكان الإمبراطور البيزنطي (التسمية بدأت بإنشاء مدينة القسطنطينية، على أنقاض بيزنطة، على يد قسطنطين إشارة إلى فترة جديدة وعهد جديد ونظام جديد). فالنس (364-378) اريوسيا، فأراد الضغط على ماوية وقومها عن طريق تعيين أسقف اريوسي لجماعتها الأرثوذكسية. فثارت مع قومها وانتصرت على الجيش الإمبراطوري وحملت فالنس على السماح بأن يُرسم لها أسقف أرثوذكسي (اسمه موس) على يد أساقفة أرثوذكس كان فالنس قد سجنهم في فلسطين أو سيناء.
              والمسألة الثانية الكبرى التي تحاور المسيحيون بشأنها زمنا ووضعوا الكتب حولها هي طبيعة المسيح.
              والقضية هي: أن المسيحية تعتبر المسيح ابن الله أي أن له طبيعة إلهية. والمسيح عاش على الأرض حياة إنسانية عادية. فما هي الطبيعة التي كانت للمسيح أثناء وجوده على الأرض. كثرت الآراء لكن في النهاية تركزت حول رأيين: الأول أنه كان للمسيح طبيعتان وهو على الأرض أي أن طبيعته الإلهية ظلت قائمة ولكن قائمة مع طبيعة بشرية. والثاني هو أن الطبيعتين امتزجتا فأصبحتا طبيعة واحدة.
              القرن الرابع كان، كما رأينا، زمن نشاط وخلاف من جهة، ولكنه كان فترة انتشار واسع أيضا. لعل هذه الخلافات لفتت الناس إلى المسيحية. ثمة أمر آخر نشير إليه وهو أن عدد كبيرا من الكنائس الهامة بنيت في بيت لحم والقدس وسواها أيام قسطنطين الأمر الذي كان مدعاة للاهتمام.
              وعلى كل فإن الخلاف حول طبيعة المسيح استمر. وقد أضيف عنصر آخر للقضية على يد نسطوريوس (380-451م) الذي قال بأن الطبيعتين في المسيح لم تتحدا، وظلتا منفصلتين.
              هذا الرأي النسطوري انتشر خارج منطقتنا التي نحن بها معنيون، إذ طرد النساطرة منها.
              ولنخلص إلى القول أن منطقة المشرق العربي كانت في القرن السادس قد توزع فيها الرأيان الأصليان – الطبيعة الواحدة والطبيعتان – على أساس لغوي. فاليعاقبة، كما أصبح أتباع الطبيعة الواحدة يسمون يومها، انتشروا في أرض الرافدين وشرقي بلاد الشام، وتكلموا السريانية وكتبوا بها. وكانت مصر أيضا يعقوبية المذهب. أما القائلون بالطبيعتين فكانوا يقيمون، بالنسبة إلى منطقتنا، في الأجزاء الغربية، وكانوا في الغالب، يلجأون إلى اليونانية وكان اتصالهم بالعالم اليوناني أقوى.
              ولكن مما يجب أن يذكر هو أن هذا الانقسام الطائفي كانت له دلالة سياسية أيضا. إن أتباع الطبيعة الواحدة اضطهدوا رسميا، فأصبح مذهبهم، بالنسبة إلى الدولة البيزنطية يمثل العصيان ضدها وبالنسبة لهم كان مذهب المقاومة الوطنية ضد الحكم البيزنطي: اضطهاد وظلم من الحاكم (القائل بالطبيعتين) يقع على القائلين بالطبيعة الواحدة.
              وظل الأمر على ذلك إلى زمن الفتوح العربية الإسلامية.
              لم يقتصر الاقتباس والتبادل في شؤون الحضارة على ما ذكرنا. فقد حمل الرومان إلى المنطقة فنهم المعماري الذي انتج هذه الآثار التي تقع عليها العين في كل بقعة من المنطقة، فتمتلئ النفس سرورا بما تشاهد من أماكن عبادة وبقايا قلاع وآثار طرق على ما أشرنا إليه.
              وكان لا بد، وقد وجد الرومان هنا ستة قرون ويزيد، من أن تتأثر البلاد بما كان عند القوم من قانون ونظم. فمدرسة الحقوق في بيروت، وقد كانت من أكبر المعاهد لتدريس هذه الموضوعات في الإمبراطورية، لا بد أنه كان لها أثر في تربية الحس التشريعي والفكرة الحقوقية. وقد عثر المستشرق ساخَو  على نسخة من مخطوطة لكتاب سماه، إذ نشره، "كتاب القانون الروماني السوري" يعود إلى القرن السادس الميلادي يوضح دون ريب أن شمال شرق بلاد الشام تأثر بالتشريع الروماني.
   لكننا توقفنا عند الحوار المسيحي المسيحي لأنه كان الأهم والأوضح.
              منطقة كان قد مر عليها، لما فتحها العرب المسلمون في أوائل القرن السابع الميلادي، نحو سبعة آلاف سنة من التجارب الحضارية، على جميع أنواعها وتعدد أصنافها – الاقتصادية والسياسية والدينية والأدبية والعلمية. وتبدلت فيها دول، واختلطت فيها شعوب وتنوعت فيها ألوان الحياة. فكان لها من ذلك تجربة فريدة. تبادلت شعوبها الخبرات واقتبس الشعب الواحد من الآخر. وكان التبادل أفقيا معاصرا كما كان عمودا زمنيا. وكان هذا الذي وجده العرب فيها لما دخلوها. وتأثروا بتجاربها وأفادوا من خبراتها. ومر بهم، لما استقر بهم المقام، بعض ما مر بمن سبقهم. فأنتجوا حضارة رائعة، واختلفوا فيما بينهم فكرا وأدبا وشعرا. فكان ثمة تراث عظيم، سببه هذا التحاك الذي ينتج عن حوار الحضارات. ولا يزال الحوار قائما في الدنيا، وهو في صالح البشرية يقودها دوما إلى الأمام.

0 التعليقات:

أرسل أسئلتك في رسالة الآن هنا

http://abdenour-hadji.blogspot.com/

قناتي على اليوتوب

أعلن معنا... إعلانات الآن هنا ...


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More