ابحث عن موضوعك في موقعي هنا

||

ترجمة/Translate

الجمعة، 31 أكتوبر 2014

منابع "ثورية" تروي فيضان الذاكرة وعناوين الشهادة.. تــــالة مـقــر.. تاريـــخ "تحـت الضــوء"

يكتب التاريخ صفحات صانعيه مثلما يكتب أيضا صفحات خاذليه، هذه هي القاعدة الأولى المتعامل بها في ذاكرة الشعوب التي تعطي
لماضيها حقه  فتكرس به هويتها وشخصيتها الجماعية، ثم تستحضر منه الفخر والاعتزاز ليس فقط بالأسماء لكن بالقيم التي تحملها، قبل أن تمضي وتترك "شفرتها" لجيل بعده جيل، فيبحث بدوره ويمحص وينقد ليستخلص النتائج ومعها العبر....
في أحضان جرجرة، بعرش عمراوة السفلى على حافة وادي عمراوة، الذي يحمل اليوم تسمية وادي سيباو، تتربع قرية "تالة" مقر في صدر جبل أفحام بعينه الدافئة، تحتضن صفحات "ثورية" من تاريخ الجزائر الذي لطالما دوى به سجل العالم  كـ"مرجعية" لتحرر الشعوب، ولم تخذل تالة مقر التاريخ فسجلت نفسها منذ "الوميض" الأول للحركة الوطنية وقدمت أبناءها في أولى المعارك ضد الاستعمار الفرنسي بداية من تلك التي دارت في ضواحي ذراع بن خدة، التي كانت تسمى في ذلك الوقت "سوق السبت" أو "سبت الخوجة" نسبة إلى علي الخوجة، الذي تولى حكم الأتراك في المنطقة بعد تشييده لبرج سيباو سنة 1710 وأصبحت حصن الأتراك في المنطقة، ويعد هو المؤسس الفعلي لنفوذ الأتراك في منطقة القبائل، ولعل أبرز إنجازاته، إنهاء نفوذ أسرة بختوش التي تعد امتدادا لإمارة آل القاضي الشهيرة بمنطقة الزواوة إثر انتصاره على حند واعلي أوبختوش أيضا في ذراع بن خدة. وحسبما هو مدون في التاريخ، فقد ظل حوض وادي سيباو غير آهل بالسكان تستغله الأعراش المحيطة به كآث جناد وآث واقنون وآث يراثن وباقي قبائل عمراوة، وتفيد عديد المعطيات الواقعية بأن تالة مقر لم تخل من السكان منذ قرون بدليل تواجد عدد كبير من المقابر القديمة فيها وأيضا استنادا إلى الأسماء التي أطلقت على بعض المناطق والتي تشير إلى أسماء مرابطين من قبيل سيدي شعيب، سيدي سليمان وسيدي يحيى، الذي يعتقد أنه الولي الصالح الذي حدثت من أجله خلافات بين سكان المنطقة العليا بتالة مقر "شريط" نسبة إلى عائلة شريط ـ حسب إحدى الروايات ـ وسكان تالة مقر المحاذين للعين، حين ألح كل فريق على دفنه في مسجده، وفي آخر المطاف تذكر الرواية الأقرب ما تكون إلى الأسطورة أنهم وجدوا الولي الصالح في كلا المسجدين وقام كل فريق بدفنه بناحيته وانتهى بذلك النزاع. وتشير آثار الروايات إلى مقبرة في نواحي تالة نجلا (الجهة الغربية للقرية)  تسمى بوفاطمين وكانت هناك أخرى في سيدي شعيب ويرجح أن ناحية سيدي شعيب كانت مأهولة بل وتذكر بعض الشهادات الناقلة أنها كانت تجمع أقرب ما تكون لقرية (سكان مقهى..)، وأيضا في الخلوة، وتيمضلين (يعني المدفن بالقبائلية)، كما ارتبطت أسماء عدة بمكان في تالة مقر بالأعين المتواجدة بها، أو بأصحابها فمثلا نذكر تالة نجلاّ، ثالة تسكرين (عين الحجل)، ثالة أوعَمَّر (عين للملء)، تسمية "برنوسة واعلي" (والد أرزقي بن علي أوراجح) أو "زبوج عمر" منسوبة إلى صاحبيها من دار "أوراجح وبستاني". وظلت بعض الشهادات الناقلة تؤكد أنه عندما كان الناس يحفرون في بدايات القرن 20 وجدوا القرميد وآجر طيني، وكانت هذه مقبرة في مكان فوق المقبرة الحالية (سيدي سليمان) تدعى "الخلوة" وتعد هذه الأخيرة مقبرة العائلات الأولى بستاني ووانوغي ودار عثمان. وباستثناء مقبرة سيدي شعيب التي تروي فيها الشهادات الناقلة عن وباء قاتل مر بالمنطقة أتى على العديد من سكانها، فإن باقي المقابر يجهل حقيقتها ما إذا كانت مقابر عادية بمعنى طبيعية لموتى الذين استقروا بالمنطقة أم أنها نتيجة معارك مع الجيش الفرنسي عند دخوله كون المعروف أن معركة تاورقة 1871 كانت آخر حلقات المقاومة الشعبية المسلحة بالمنطقة، أو حتى مع الأتراك كون المنطقة كانت تفصل بين عروش القبائل وقبائل الزواف الموالية للأتراك وكذا على مقربة من برج سيباو العسكري الذي يتحصن به الأتراك.

سكان تالة مقر.. "توليفة" تكاملية

الظاهر من خلال الروايات السائدة حول أصول السكان وانتسابهم وهجراتهم أنهم قدموا من جهات مختلفة وأصول متباينة، وأن القرية عرفت مرور تحولات ديمغرافية وعدم استقرار في السكان لأسباب لا تنفصل عن تاريخ المنطقة وموقعها الحساس كونها تطل على الشريط الاستراتيجي للسهول الفيضية لوادي عمراوة الخصب وكذا على الخط الحدودي الفاصل بين المناطق التي تحصنت بها القبائل آخرها كنفدرالية عروش القبائل البحرية التي تضم عرش آث واقنون، عرش آث جناد وعرش إفليسن البحر (قراصنة البحر) والتي كونت جبهة صد ضد "دويلات المغرب الأوسط" (الموحدين والمرابطين) ثم ضد الأتراك وأخيرا ضد الاستعمار الفرنسي. واستنادا إلى أصول العائلات الأولى من الحقبة الأخيرة، فإن السكان الذين استقروا بالمنطقة من عائلات كراغلة أو مرابطين نظرا لسيطرة الأتراك على المنطقة، علما أن تالة مقر لا تبعد عن برج سيباو العسكري الذي أسسه علي خوجة في 1710 سوى بحوالي 7 كيلومترات  على الأكثر، كما أنها متصلة بقرية بورديم إحدى أقدم قرى القبائل السفلى، حيث تتواجد "بوابة الزواف" التي تنفذ منها قبائل الزواف (المخزن) المتعاونة مع الأتراك لجمع الضرائب من قرى ومداشر القبائل المتخذة قمم الجبال والتلال للاستقرار بها، وتسمى هذه البوابة اليوم ببوابة أعفير، كونها الطريق الذي يتخذها المسافر على الأحصنة نحو بلدة أعفير المتواجدة على طريق دلس مرورا بعين الأربعاء ثم امخلاف (مفترق الطرق). وبعد معركة تاورقة الشهيرة سنة 1871، حيث شارك عدد كبير من سكان المنطقة تحت راية الجهاد ضد الفرنسيين بعدما نقل النساء والأطفال والعجزة من معظم مدائر القبائل السفلى (المنخفضة) إلى الأربعاء ناث إيراثن، أعيد تشكيل الخارطة الديمغرافية بتالة مقر التي كان بها عدد محدود من العائلات تحسب على أصابع اليد. وتذكر المراجع التاريخية حول هذه الفترة، أن أهل المنطقة شاركوا مشاركة فعالة ونجح مجاهدو آث واقنون وبني ثور وبني سليـم، فـي محاصرة المركز العسكري الفرنسي بالمدينة لمدة شهر (17 أفريل ـ 18 ماي)، ولم يفك الفرنسـيون الحصار إلا بعد وصول إمـدادات من مدينة الجزائر بقيادة اللواء"لالمان" Lallemand، ورغم انتصار الفرنسيين فقد ظلت ذروة المقاومة متأججة في شكل تمرد قاده الشيخ محند أمزيان منصور (من بوخالفة، عرش عمراوة)، إلى أن استشهد بناحية دلس يوم 17 ماي 1877م، علما أن سكان هذه المنطقة قد تعرضوا لمصادرة أراضيهم عقب الثورة المذكورة. وحسب تاسعديث حداد زوجة اعمر أومسعود، من مواليد حوالي 1863 بقرية إحدادن بإفليسن البحرية (توفيت في 1947) وابنها الأكبر أكلي أومسعود مولود في 1882 بتالة مقر (توفي في 1917)، والتي نقل حفيدها اعمر أومسعود عنها  قولها إنها تتذكر "لما كان في عمرها حوالي 8 سنوات إلى 10 سنوات أنها شهدت ثورة 1971 ضد  فرنسا، حيث نقل الشيوخ، النساء والأطفال وغير القادرين على القتال إلى الأربعاء ناث إيراثن، وكانت هي ضمنهم، أما الرجال القادرين على حمل السلاح والقتال فاتجهوا إلى تاورقة للجهاد". وكان أولى القادمين الجدد من عرش إفليسن البحرية وقبيلة آث سعيد بآث واقنون لقربها من المنطقة وذلك عن طريق علاقة المصاهرة أو شراء الأراضي التي كانت معظمها تملكها عائلات بستاني وأوراجح (عائلة واحدة)، خليل، وانوغي وبن عثمان، ناصر باي (يرجح منهم الأصول التركية أو الكراغلة في أغلب الظن)، مزاري، ساحلي  (مرابطين) ثم عرفت في المرحلة الثانية وصول عائلات بعضها ممن اشتروا أراضي وعائلات أخرى منحت لها عن طريق المصاهرة والباقي اشتغلت لدى هذه العائلات التي تمتلك شبه إقطاعيات فعمل بعضهم كخماسين قبل أن يتحصلوا على قطع أراضي، وهذه الأخيرة من الأواخر الوافدين إلى القرية مع بداية القرن 20. ومن بين العائلات القادمة إلى تالة مقر بعد ثورة 1871، عائلة شعابني (دار علي علال) من الأصول الأولى في تالة مقر، ويرجح علاقتها بعائلة علال أحد القادة حاملي لواء الجهاد في معركة تاورقة، عائلة مهدي يرجح أنها من الأوائل، عائلة حداد (خمسة أو ستة إخوة)  قدموا من إفليسن البحرية، عائلة بوعلي من أبوعليثن (آث سعيد)، عائلة بوغروس كانت تملك قرب المسجد، عائلة نجار من إفليسن منحتهم عائلة بوغروس قطعة أرض قرب العين ليستقروا بها، عائلة مسعودي في حدود 1875 من سمغون، التي تعني بالقبائلية المنبت (آث واقنون)، عائلة  لوبشير من عطوش بعد 1880، منهم من حط ببورديم، ومنهم من فضل الاستقرار بتالة مقر، عائلة حداد من جمعة الصهاريج، عائلة أودير جاؤوا من آيت مصباح كفلاحين لدى أحمد فرحات (عائلة بستاني)، عائلة قشطولي من قبيلة إفليسن البرية، إحمادوش (حمداوي) من سمغون عمل لدى أحمد فرحات ثم لدى أحمد أومسعود قبل أن يصاهره (زوَّجهُ ابنته)، عائلة كريم من سمغون (الحاج أعمر كان ثريا)، عائلة واضح (مرابطين) من بني عنان، عائلة قاضي من زاوية سيدي علي موسى (معاتقة) من المرابطين.

الوجهة إلى تالة مقر لفض النزاعات

ولم يمض وقت كثير بعد ثورة 1871 حتى أصبحت تالة مقر ذات صيت في المنطقة من حيث سمعتها وعلاقاتها، وكانت في البداية كغيرها من قوى ومداشر المنطقة تعتمد على التنظيم السياسي والإداري المتعارف عليه بمنطقة القبائل، حيث تعتبر القرية الوحدة السياسية المعتمدة، مجلس القرية "ثاجمعت" هو السلطة المحلية المديرة لشؤون العامة، وفي تلك الفترة وخاصة بحلول القرن العشرين أصبحت تالة مقرا تفض النزاعات في المنطقة، حيث كانوا يأتون من عطوش ومن تاورقة وحتى من ميشلي (عين الحمام) ومناطق أخرى بعيدة لطرح مشاكلهم ويتم ذلك في مقهى عائلة "واضح" (عائلة مرابطة). ومن بعض القوانين السائدة في تالة مقر مثلا أن النساء يملكن الحق في الذهاب إلى العين للملء والغسل مرة في الأسبوع وذلك يوم الجمعة صباحا إلى الظهر، وتنصب الحراسة في نقاط محددة من أطراف القرية ولا شخص يملك الحق في الدخول إلى "الدشرة" إلى غاية الظهر، ويتزامن ذلك اليوم مع السوق في تيزي وزو، علما أن القرية في ذلك الوقت لم تكن متجمعة بل كانت منازل متفرقة. أما بخصوص العادات، فقد حافظت كل أسرة على ما ورثته من نسلها تحديدا في الأفراح والأعياد فمن قدم من عرش آث واقنون وإفليسن احتفظوا بعاداتهم ومن قدم من بني ثور وبني سليم أيضا احتفظوا بعاداتهم وهناك من أدمج بعضها مع بعض.

عُمر خليل أحد صانعي أرضية "حزب الشعب".. وعمار حداد "حربة" المنظمة الخاصة

ومع بروز النضال المنظم ضد الاستعمار الفرنسي، لم تتأخر تالة مقر في اللحاق بمجريات الأحداث، حيث ركبت الحركة الوطنية من رحمها وشارك عُمر خليل الذي عرف مسقط رأسه وطفولته بالقرية في تحضير الأرضية الأولى لتأسيس حزب الشعب الجزائري سنة 1937 بعدما طلب منه مصالي الحاج، لما كان بفرنسا، النزول إلى الجزائر والمساهمة في تحضير القاعدة النضالية للحزب، حيث كان لهذا الأخير مطعما بالقصبة وكان بمثابة مكتبا سريا للقاءات بين المناضلين وأصبح فيما بعد عضوا مؤثرا في اللجنة المركزية للحزب. ويعد أعمر حداد هو الآخر أحد صقور تالة مقر، حيث انضم مبكرا إلى حزب الشعب الجزائري في صائفة 1943 وبعد عامين من النشاط أصبح عضوا فاعلا وشارك في التحضير للثورة التي كان الحزب قد قرر تفجيرها ليلة 23 فيفري 1945 قبل أن يصل الأمر المضاد، وبعدها بحوالي ثلاثة أشهر شارك أعمر حداد في العملية التي نفذها عناصر حزب الشعب على الباشآغا آيت علي بتيقزيرت ومنذ ذلك الحين أصبح مطلوبا لدى العدالة الفرنسية، كما شارك أيضا في عملية بريد وهران التي أشرف عليها آيت احمد وكان أحد أبرز أبطالها رفقة سويداني بوجمعة كونهما كانا هما من اقتحما المكان وافتكا مبلغ 3.17 مليون فرنك فرنسي قديم، وأصبح يعرف بـالعيون الزرق "زيو بلو"، وتقلد عدة مسؤوليات تنظيمية بالمنطقة قبل أن يتم تسفيره إلى القاهرة رفقة محمد خيضر، ونشط خلال الثورة في التسليح والإمداد مكلفا باللوجيستيك في دائرة العقيد اعمران، وأشرف "الكومندوس" الذي كان مسؤولا على مركز طرابلس في إحدى العمليات على تهريب الذخيرة من قاعدة ويليس الأمريكية بليبيا لمدة سنة كاملة قبل أن يتفطن له الأمريكان، الذين تفاجأوا بالتخطيط والتنفيذ المحكم للعملية في 1958.

معاق صدم الإدارة الفرنسية برفضه سخاء "لا يرفض"

وفي مشهد "مشرف" لأحد أبناء تالة مقر، وهو محمد بن اعمر علي حداد، الذي كان معاقا، لكن ما في رأسه كان خارقا للعادة، وكان أيضا مناضلا حقيقيا وجزائريا أصيلا.. يعرف كيف يمشي وكيف يتكلم، مثلما يصفه أحد شاهديه، ويعتبر متمكنا نادرا آنذاك في المستوى الثقافي والدراسي..
في إحدى المرات قدم إليه "الشانبيط" من قرية زيمولا (يقال إنه كان مناضلا حقيقيا ومات في السجن) رفقة القايد أوصديق (ابحباح) الكائن مقره في ليتاما وأصله من ميشلي (عين الحمام)، في نهاية السنة، لينجز لهم التقرير السنوي كونه يتمتع بخط وتعبير لا تجده حتى عند الفرنسيين أنفسهم.. وعندما قرأ المسؤول الإداري بتيقزيرت (البلدية المختلطة بميزرانة) التقرير الذي أرسله قايد دوار سيدي نعمان، انبهر وسأل القايد: "أنت من كتب الرسالة؟" وأجابه :"لا سيدي"، .."إذن الشانبيط (الحارس البلدي)؟ " وأجابه الآخر إنه ليس هو أيضا فأخبراه بأن هناك شخصا معاقا من كتب هذه التقارير، فقام الإداري بزيارة تالة مقر وطلب رؤية اعمر بن علي حداد، فوضعوه على ظهر بغل وأحضروه إلى مقهى وسط القرية (مقهى دار الواضح)، لم يصدق الإداري لما رآه، وقال له "إذن ستعمل معي في تيقزيرت وسأمنحك فيلا ومكتب وسأكلف من يجلبك بسيارة إلى العمل ويعيدك إلى البيت"، لكن الرجل كان مفعما بالوطنية وأجابه رافضا العرض "لا، لا أستطيع"، وقام الإداري بعدها بتخصيص معاش "رمزيا" له احتراما لكفاءته.

إندلاع الثورة.. في الريادة مع الرعيل الأول

إحتضنت تالة مقر منذ بداية الجيل "الثاني" للحركة الوطنية عدة اجتماعات وضمت القرية خلايا ناشطة على عدة مستويات سواء منها التابعة للمنظمة الخاصة المعتمدة على الكفاءات النوعية، أو في الحزب الذي ضم عددا من المناضلين المتعاونين والمتعاطفين، وتذكر الشهادات التاريخية أن الخلية الناشطة بتالة مقر التي كان يقودها كل من أحمد خليل ومحمد مزيان حداد وشريف ابن سي بلقاسم الطيب، جندت أول خلية للشباب بحزب الشعب السري سنة 1952 بقيادة محمد السعيد حداد (موح السعيد واعلي) وكان من بين أعضائها المجاهد يحيى بابا علي الذي أصبح فيما بعد ضمن فرق الصاعقة الناشطة في مناطق القبائل الساحلية، وكانت القرية في النصف الأول من الخمسينيات حصنا منيعا للاجتماعات وكان يراودها كبار القياديين في حزب الشعب بمنطقة القبائل على غرار عمر بوداود، كريم بلقاسم، أعمر أوعمران، أكلي بابو، علي ربيع... وعرفت القرية تراجيديا كادت تتحول إلى "أزمة حقيقية" في حزب الشعب بعد حادثة اغتيال علي رابية، التي قيل إنها كانت بعد محاكمة وقيل إن أمر التصفية صدر من كريم بلقاسم، لكن الذريعة التي تأسست لقتله لم تكن مقنعة بالنسبة لمناضلي تالة مقر الذين قرروا الاحتجاج من خلال مقاطعتهم للاجتماعات وتوقيف الاشتراكات الشهرية إلى غاية محاسبة الفاعل والقصاص في حق المناضل ربيع علي، الذي كان يتداول بشأنه أنه خليفة بلونيس على رأس القبائل السفلى، وسرعان ما أثارت القضية قلق القيادة في العاصمة التي أرسلت مصطفى فروخي لتسوية القضية وهو ما تم بعد قبول علي لمقترحه بفتح تحقيق بشأنها، وتعود بذلك الأمور إلى مجرياتها.

عُمر حداد (عمر حمود)، محمد أمزيان حداد وأحمد خليل.. تقاسموا القيادة والشهادة

توقفت الإجتماعات التابعة لبقايا حزب الشعب الذي تحول فيما بعد إلى حزب جبهة التحرير الوطني عشية اندلاع الثورة بحوالي شهر وجاء الأمر بتجميد العمل السياسي من قبل كريم بلقاسم، وحينها كانت القيادة المحلية مسندة إلى الثنائي أحمد خليل ومحمد أمزيان حداد، حسب المصادر التاريخية بالمنطقة استنادا إلى الشهادات، ومعلوم أنه في تلك الفترة منطقة القبائل بأكملها كانت موالية لمصالي الحاج بما فيها مسؤولها الأول كريم بلقاسم وأعمر أعمران، الذي كان المسؤول المباشر للقادة في تالة مقركون منطقة القبائل السفلى كانت تحت قيادته. وعند اندلاع الثورة لم تكن الأمور مؤطرة على الصعيد التنظيمي وشارك كل من أحمد خليل ومحمد أمزيان حداد في العمليات الأولى بالمنطقة والتي استهدفت ليلة الفاتح نوفمبر مركزا للدرك في تادميت وأهداف أخرى في ذراع بن خدة وتيقزيرت، وحسب شهادة يحيى بابا علي مناضل خلية الشباب الأولى لحزب الشعب بتالة مقر، ثم ضمن فرقة الصاعقة التي كانت لها صدى كبير بمنطقة آث جناد، فإن مسؤولي التنظيم آنذاك رفضوا أن يزجوا بكل العناصر في العمليات الأولى مبقيين عليهم في "الاحتياط" وأخذوا على عاتقهم تفجير الثورة وقيادة مرحلتها الأولى. ويذكر المرحوم علي زعموم في إحدى شهاداته "بدأنا في وضع منظمة خاصة على نمط المنظمة السرية تظم أحسن المناضلين الشباب يكونون في صحة جيدة قادرين على تحمل المسؤوليات اختيروا ليكونوا الخلايا القاعدية للمنظمة والتي كان لها الدور الفعال في العمليات الأولى في الفاتح نوفمبر، وقد كانت هذه الخلايا مكونة من ثلاث أشخاص، كانت السيمة التي تميزت بها المنظمة فمثلا شخصين من عائلة واحدة ينتميان إلى خليتين مختلفتين الواحد منهما لا يعرف بأن الآخر منخرط في نفس التنظيم، وقد نفذ حكم الإعدام في كل شخص أقدم على إفشاء السر. وكانت الاجتماعات السرية تجرى بالقرب من ذراع بن خدة بحضور مسؤولي المنطقة الثالثة وكان يحضرها رابح بيطاط وقاسي عبد الله مختار اللذين كانا يلقنون صناعة القنابل، كما كان الكيميائي عبد الكريم تيجاني يعلمنا كيفية صناعة النتروغليسين، وأعطانا كل المعدات الكيميائية، وكان علينا الحصول على الصلصال الصيني وكذا زيت الخروع، ملح البارود، وكل هذا لصناعة القنابل". ويعتبر كل من أحمد خليل، عمر حداد المدعو "عمر حمود" ومحمد مزيان خليل من أبرز القيادات في الناحية الثالثة، حيث تقاسم الثلاثي القيادة برتبة "مساعد" adjudant وكان عمر حمود قائدا "عملياتيا" بمقاييس "كارزماتية" نادرة، مثلما يشهد له معاصروه، وكان نموذجا للصرامة والعدل، وتذكر له حادثة تنفيذ القصاص على أخيه الذي ثبت ضلوعه في مقتل رجل من القرية بعد خصام بينهما، فما كان له إلا وأن طلب الجاني أو لو كان شقيقه، ليظهر أن أخاه فعلا وراء مقتل الرجل (من تالة مقر هو الآخر)، فلم يتوان في تنفيذ القصاص في شقيقه شخصيا، وهو في حالة نفسية لا يحسد عليها، وذلك بعد استنفاذ طرق وسائل طلب التنازل وعدم رضا أهل الضحية بالعفو، وهذا مشهد قلما يحدث. وقد تولى عُمر حداد (عمر حمود) قيادة فرقة لعناصر جيش التحرير الوطني  بالقطاع الثالث من الناحية الثالثة (دوار سيدي نعمان)، تتكون الفرقة من ثلاثة أفواج أي ما يعادل 35 عنصرا ويضم كل فوج  11 عنصرا يقوده ضابط برتبة "عريف" Sergent ، واستشهد عمر حداد في معركة بطولية بتاورقة وهو يؤمر بالانسحاب لعناصره أمام الجيش الفرنسي وبأقل الخسائر. ومن جهته، تولى أحمد خليل القيادة السياسية (مساعد (adjudant وعرف أيضا بـ"الحقيبة والرشاش"، ويشهد لهذا الأخير دهاء وفطنة مرهفة خارقة للعادة، حيث كان ينشط بمفرده في المعاقل ولا يدع مجالا للسقوط في أيدي القوات الفرنسية، بما يصور حقيقة الوعي السياسي وإدراكه "حجم" الحقيبة السياسية الملقاة على عاتقه في التنظيم الثوري، علما أن الرجل من الرعيل الأول للحركة الوطنية في جيلها الثاني ويرجح أنه انخرط في حزب الشعب 1942 أو 1943، وكان أحمد خليل الرقم 1 المبحوث عنه في تالة مقر لدى القوات الفرنسية، وارتبط أيضا الرجل بحسه المرهف للحوادث فكان على إطلاع بكل ما يجري في القرية، فكان ينزل في بعض الأحيان ليلا إلى منزل أفراد ينتظرهم المصير الأسود في اليوم الموالي وكان له أن أنقذ شخصا من انتقام أحد "وسطاء" فرنسا ومنحه 5 آلاف فرنك ليغادر الجزائر مطمئنا إياه على عائلته "ما سيتغذى به أولادي، سيتغذى به أولادك"، ولم تتمكن فرنسا رغم جهودها من الوصول إليه إلا ميتا بعد سقوطه من مرتفع محاذي لشلال وادي "غرغور" في الجهة الغربية لتالة مقر. ويمثل محمد مزيان حداد هو الآخر عنصرا من الرعيل الأول للحركة الوطنية ويرجح انخراطه في حزب الشعب في الفترة نفسها رفقة أحمد خليل أو قد يفصل بينهما عام على الأكثر وعرف الرجل بشجاعته وقدرته على التنظيم والقيادة والمعروف عنه أنه لا يفارق سلاحه "الأرباعي" (Mausqueton) ويحمل هو الآخر رتبة مساعد adjudant.

صقور تالة مقر يُلقنّون الفرنسيين "أخلاقيات الحرب"

شهدت تالة مقر خلال فترة حرب التحرير محطات عسيرة، حيث تحولت منذ 1956 إلى محتشد حول إليه السكان الذين تم إسكانهم في مشاتي في مكان واحد وتسييجهم بالأسلاك الشائكة بهدف عزل الثورة، وأقام الجيش الفرنسي مركزا له وسط السكان حتى يحتموا من ضربات الثوار، ويعرف المركز بـ"poste1 ". ومع بداية الثورة تذكر الشهادات التاريخية أن الفرنسيين اتخذوا من  "مقر حرس الغابة "dar el garde معسكرا لهم قبل أن ينتقلوا إلى المخرج الغربي للقرية (صفصافة)، حيث نصبوا الخيام لكنهم سرعان ما أصبحوا يتلقون الضربات تلوى الأخرى ويسمى ذلك المكان بـ"آزكا تروميث" (مقبرة الفرنسية)، لينتلقوا بعدها إلى وسط القرية، حيث احتموا بالسكان بعد إقامتهم في محتشد مطوق بأسلاك شائكة. وتذكر الشهادات أيضا كيف تمكن عناصر جيش التحرير ببراعة من إسقاط مروحية بعد قصفها بقذيفة من معاقل أفحام التي شكلت جدارا مقابلا للطائرات المحلقة بحيث كانت أشبه بمنصة قصف مضادة للطائرات، وسقطت هذه المروحية في الجانب الشرقي للمحتشد على بعد لا يتعدى عشرات الأمتار من السكان. ولعل أشهر المعارك الدائرة بالمنطقة هي معركة أفحام ومعركة "معسّل" 1960 التي وظفت فيها قوات الاستعمار الفرنسي "ترسانة" من طائراتها وذخائرها، حيث ظلت تقصف المعاقل التي كان مجاهدوا جيش التحرير يرابطون بها واستمرت المعركة يوما كاملا، من نجا منها لم يكن ليصدق. لكن أبرز المحطات التي بقيت عالقة في تاريخ القرية وأذهان سكان المنطقة هي العملية "النوعية" التي قام فيها عناصر "فذة" من شباب جيش التحرير أمثال علي بن أحسن ويدير المدعو "علي ناحسن" وسعيد بن جوزي، الذين أذلوا الجيش الفرنسي وطعنوا السلطات الاستعمارية بجرأتهم واحترافيتهم في التخطيط والتنفيذ ومرغوا بكبريائها، حيث تذكر رواية الواقعة أنهم ترصدوا بالقوات الفرنسية ليلة أعياد الميلاد المسيحية التي علموا مسبقا أن الفرنسيين سيحتفلون بها "مخمورين"، وبالتعاون مع بعض من الجزائريين في صف المجندين مع فرنسا، تم تنظيم العملية التي بموجبها تم تجريد ثكنتين من الأسلحة والمعدات العسكرية مثل الساعات والمناظير في ليلة واحدة، وأمر قائد العملية بعدم التعرض للجنود الفرنسيين في نومهم، وعدم تجريد ملازمهم الأول من سلاحه احتراما لرتبته العسكرية، وكان هذا التخطيط "تكتيكي"، وحتى أن القائم على العملية لما رصد فرقة "كومندوس" من فرقة الصاعقة تشحذ خناجرها، رفض تقدمهم وطالبهم بالانصراف فورا، حسب رواية أحد عناصر "فرقة الصاعقة" يحيى بابا علي، وذلك ما حدث بعد إصراره، وفي الصباح الموالي صدم الفرنسيون لما حدث وعزموا على الانتقام من سكان القرية كونهم أيقنوا أنه المؤكد أن تكون لهم اليد الطولى في العملية، لكن الملازم الذي أبقوا على سلاحه حذر من أن يقترب أحد من عائلات الثوار، قائلا لهم "سأحترم أهاليهم مثلما احترموا رتبتي".

أسْر العريف فوشيي وتهريبه إلى غابة ميزرانة

وفي أوائل الستينيات، تمكن المجاهدون من عناصر جيش التحرير المرابطين بأفحام من أسر العريف فوشيي بعدما نصبوا له كمينا أثناء قيامه بدورية روتينية بمسالك تالة مقر وضواحيها لرصد تواجد "الفلاقة"، مثلما يذكره زميله العريف ميتيفييه في كتابه باللغة الفرنسية الذي يحمل عنوان  "تالة مقر"، وتمكن عناصر جيش التحرير من تنفيذ عمليتهم والفرار بأسيرهم إلى غابة ميزرانة رغم عمليات التمشيط الواسعة التي شنها الجيش الفرنسي ورغم استدعائه قوات إضافية من المراكز والمجاورة، وحسب التقارير التي لحقت بقضية فوشيي فإن هذا الأخير كان تستخدمه عناصر جيش التحرير في رقن وتحرير الوثائق تحت حراسة مشددة بغابة ميزرانة إلى حين لقي مصرعه على إثر قصف طائرات الاستعمار الفرنسي للمخبأ الذي كان يتواجد به في إحدى غاراتها بالمنطقة، وقد خلفت حادثة أسر فوشييه لدى الفرنسيين أثرا نفسيا عميقا جعلهم يرون أشباح الثوار في الظلال.

الجيش الفرنسي يعدم 9 شهداء فضلوا الموت على حمل سلاح الخيانة

لم تتوان تالة مقر خلال ثورة التحرير في تقديم أبنائها كعناوين للشهادة في سبيل الله والوطن والعرض والشرف، فبغض النظر عمن حمل السلاح في الجبال أو انخراط في فديرالية جبهة التحرير بالمهجر ومن كان خلف الإمداد والتسليح، ضرب سكان القرية المدنيون على من بقي منهم من أطفال ونساء ومسنين أروع الأمثلة في النضال، فكان الأطفال يقومون بنقل "الأمانة" إلى الثوار ويرصدون تحركات الجنود الفرنسيين بالقرية والمراهقين يتعاونون بشكل مطلق مع المجاهدين وبعض من العائلات من تفضل تحييد الصغار عن هذه المهام، حيث يقول أحد أبناء القرية إنه وقتها لم يكن يعلم بوجود مخبأ تحت أرضية بيتهم. وفي محطة أخرى، أقدم الجنود الفرنسيين في حدود منتصف عمر الثورة على جر حوالي تسعة أو عشرة أشخاص من ثمانية منهم من عائلة واحدة وهي عائلة حداد، التي كان أفرادها في طليعة الحركة الوطنية ثم ثورة التحرير، وخيرتهم بين حمل السلاح إلى جانب فرنسا أو الموت على يدها، وعند رفضهم قامت بإخراجهم من بيوتهم إلى مدخل الغابة لتعدمهم وتضع أمام كل واحد منهم سيجارة حتى توهم الناس أن المجاهدين هم من نفذوا فيهم حكم الإعدام بسبب التدخين.

0 التعليقات:

أرسل أسئلتك في رسالة الآن هنا

http://abdenour-hadji.blogspot.com/

قناتي على اليوتوب

أعلن معنا... إعلانات الآن هنا ...


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More