المرحلة الأولى:
أنا محمد البشير الإبراهيمي, ولدت يوم الخميس عند طلوع الشمس في الرابع عشر من شهر شّوال سنة ست وثلاثمائة وألف, ويوافق الثالث عشر من يونيو سنة 1889, كما رأيت ذلك مسجّلا بخط جدّي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي – رحمه اللّه – في سجل أعدّه لتسجيل مواليد الأسرة ووفياتها.قبيلتنا تُعرف بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل, وترفع نسبها إلى إدريس بن عبد اللّه الجذم الأول للأشراف الأدارسة , وإدريس هذا – ويُعرف بإدريس الأكبر – هو الذي خلص إلى المغرب الأقصى بعد (وقعة فخ) بين العلويين والعباسيين , وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين : الأقصى والأوسط ، ونسبنا هذا مستفيض بين سكان الأطلس أوراس وسفوحه الجنوبية إلى الصحارى , والشمالية إلى التلول , ولأجدادنا كتابات متناقلة عن هذا النسب .
وموطننا الذي تقلّب فيه أجدادنا في تاريخ ضارب في القدم هو السلاسل الغربية المتفرّعة من جبل أوراس , وهي قمم تفصل بينها مسالك أودية وطرق هابطة من التلول إلى الصحراء , وموقعها الغرب المائل للجنوب لمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الشرقية للقطر الجزائري .
وبيتنا إحدى البيوتات التي حفظت رسم العلم وتوارثته قرونًا من لدن خمول بجاية وسقوطها في القرن التاسع الهجري, وقد كانت بجاية دار هجرة للعلم وخصوصًا للأقاليم المتاخمة لها مثل إقليمنا , وقد خرج من عمود نسبنا بالذات في هذه القرون الخمسة علماء في العلوم العربية , ونشروها بهمّة واجتهاد في الأقاليم المجاورة لإقليمنا , ومنهم من هاجر إلى القاهرة في سبيل الاستزادة من العلم والتوسّع فيه – على صعوبة الهجرة إذ ذاك – ومن آثار الاتصال بالقاهرة أنهم بعد رجوعهم سمَوا أبناءهم بأسماء كبار مشايخ الأزهر, وأنا أدركت في فروع بيتنا من تسمّى بالأمير والصاوي والخرشي والسنهوري .
نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم, فبدأت في التعلّم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتّبع في بيتنا الشائع في بلدنا, وكان الذي يعلّمنا الكتابة ويلقّننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن, ويشرف علينا إشرافًا عاليًا عالم البيت بل الوطن كله في ذلك الزمان, عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي – رحمه اللّه – وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع, من نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها, أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا, منهم العلامة المتقن الشيخ ربيع قري اليعلاوي, ومنهم العلامة الشيخ محمد أبو القاسم البُوجْلِيلِي, ومنهم العلامة الشيخ محمد أبو جمعة القُلِّي, خاتمة المتبّحرين في العربية والفقه، ولم يكن هؤلاء العلماء رحلوا إلى الأمصار الكبرى ذات الجماعات العلمية التاريخية كفاس وتونس والقاهرة, وإنما كانوا يتوارثون العلوم الإسلامية طبقة عن طبقة إلى الأجيال المتخرجة من مدن العلم الموجودة بوطننا كبجاية, وقلعة بني حماد, وكلتاهما قريبة من مواطننا, وكلتاهما كانت منارًا للعلم ومهجرًا لطلابه, ومطلعًا لشموسه, إلى الفترة التي تبدأ بالاحتلال التركي, وكان أئمة العلم لا يعتمدون في تخرّجهم على الشهادات الرسمية, وإنما كانوا يعتمدون على الإجازات من مشايخهم الذين يأخذون عنهم.
فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلّمي القرآن وتولّى تربيتي وتعليمي بنفسه, فكنت لا أفارقه لحظة حتى في ساعات النوم, فكان هو الذي يأمرني بالنوم, وهو الذي يوقظني منه, على نظام مطرد في النوم والأكل والدراسة, وكان لا يخْليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحة, فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن, فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه, وكنت أحفظ معه ألفيه ابن مالك ومعظم الكافية له, وألفية ابن معطي الجزائري وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر, وأحفظ جمع الجوامع في الأصول, وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني, ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب, وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد اللّه بن خميس التلسماني, شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة, وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد, وابن برد, وابن أبي الخصال, وأبي المطرف بن أبي عميرة, وابن الخطيب, ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة, ورسائل بلغائهم, فحفظت صدرًا من شعر المتنبي, ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق, وصدرًا من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة, وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان, وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي, وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني, وكتاب الفصيح لثعلب, وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت, وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية.
ولم يزل عمي – رحمة اللّه – يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة, فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق, وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث, وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك, ويقرئني وحدي, ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع, ويقرئني على ضوء الشمع, وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة, حتى يغلبني النوم, ولم يكن شيء من ذلك يرهقني, لأن اللّه تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة, وقريحة نيّرة, وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة, ولما بلغت أربع عشرة سنة, مرض عمي مرض الموت, فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت, بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة.
المرحلة الثانية:
ولما مات عمي, شرعت في تدريس العلوم التي درستها عليه, وأجازني بتدريسها, وعمري أربع عشرة سنة لطلبته الذين كانوا زملائي في الدراسة عليه, وانثال علي طلبة العلم من البلدان القريبة منا, والتزم والدي بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمي, وربما انتقلت في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منا لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة وتيسّر المرافق بها للسكنى, ودمت على تلك الحال إلى أن جاوزت العشرين من عمري, فتاقت نفسي إلى الهجرة إلى الشرق, واخترت المدينة المنورة لأن والدي سبقني إليها سنة 1908 فرارًا من ظلم فرنسا, فالتحقت به متخفيًا أواخر سنة 1911 كما خرج هو متخفيًا, ومررت في وجهتي هذه بالقاهرة, فأقمت بها ثلاثة أشهر, وحضرت بعض دروس العلم في الأزهر وعرفت أشهر علمائه, فممن عرفته وحضرت دروسه, الشيخ سليم البشري, والشيخ محمد بخيت, حضرت درسه في البخاري في رواق العباسي, والشيخ يوسف الدجوي حضرت درسه في البلاغة, والشيخ عبد الغني محمود, والشيخ السمالوطي, حضرت لكليهما درسًا في المسجد الحسيني, والشيخ سعيد الموجي ذكر لي أن له سندًا عاليًا في رواية الموطأ, فطلبت أن أرويها عنه بذلك السند وحضرت مجالسه بجامع الفاكهاني مع جمهور من الطلبة, وتوليت قراءة بعض الموطأ عليه من حفظي, وحضرت عدة دروس في دار الدعوة والإرشاد التي أسّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة, وزرت شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي وأسمعته عدة قصائد من شعره من حفظي فتهلّل – رحمه اللّه – واهتزّ, كما اجتمعت بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعته من حفظي شيئًا من شعره كذلك.
المرحلة الثالثة:
خرجت من القاهرة قاصدًا المدينة المنوّرة, فركبت البحر من بور سعيد إلى حيفا, ومنها ركبت القطار إلى المدينة, وكان وصولي إليها في أواخر سنة 1911, واجتمعت بوالدي –رحمه اللّه – وطفت بحلق العلم في الحرم النبوي مختبرًا, فلم يرق لي شيء منها, وإنما غثاء يلقيه رهط ليس له من العلم والتحقيق شيء, ولم أجد علمًا صحيحًا إلا عند رجلين هما شيخاي :الشيخ العزيز الوزير التونسي, والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي, فهما – والحق يقال – عالمان محققان واسعا أفق الإدراك في علوم الحديث وفقه السنّة, ولم أكن راغبًا إلا في الاستزادة من علم الحديث, رواية ودراية, ومن علم التفسير, فلازمتهما ملازمة الظلّ, وأخذت عن الأول الموطأ دراية, ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية, فلازمت درسه في فقه مالك, ودرسه في التوضيح لابن هشام, ولازمت الثاني في درسه لصحيح مسلم, وأشهد أني لم أَرَ لهذين الشيخين نظيراً من علماء الإسلام إلى الآن, وقد علا سني, واستحكمت التجربة, وتكاملت الملكة في بعض العلوم, ولقيت من المشايخ ما شاء اللّه أن ألقى, ولكنني لم أَرَ مثل الشيخين في فصاحة التعبير ودقة الملاحظة والغوص على المعاني واستنارة الفكر, والتوضيح للغوامض, والتقريب للمعاني القصية.
ولقد كنت لكثرة مطالعتي لكتب التراجم والطبقات قد كوّنت صورة للعالم المبرز في العلوم الإسلامية, منتزعة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم, وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذهنية لم تتحقق في الوجود الخارجي منذ أزمان, ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين, وقد مات الشيخ الوزير بالمدينة في أعقاب الحرب العالمية الأولى, أما الشيخ حسين أحمد فقد سلّمه الشريف حسين بن على إلى الإنجليز في أواخر ثورته المشؤومة, فنفوه إلى مالطة, ثم أرجعوه إلى وطنه الأصلي (الهند) وعاش بها سنين وانتهت إليه رئاسة العلماء بمدينة العلم (ديوبند).
ولما زرت باكستان للمرة الأولى سنة 1952 ميلادية كاتبته فاستدعاني بإلحاح إلى زيارة الهند ولم يقدّر لي ذلك, وفي هذه العهود الأخيرة بلغتني وفاته بالهند.
وأخذت أيام مجاورتي بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الأسكوبي, وكان ممن يشار إليهم في هذا العلم مع تورّع وتصاون هو فيهما نسيج وحده.
وأخذت الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري في داره أيام انقطاعه عن التدريس في الحرم النبوي, وكان من أعلام المحدثين, ومن بقاياهم الصالحة.
وأخذت أنساب العرب وأدبهم الجاهلي, والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد اللّه زيدان الشنقيطي, وهو أعجوبة الزمان في حفظ اللغة العربية وأنساب العرب, وحوادث السيرة.
وأتممت معلوماتي في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني بمنزله, وكان رجلاً مسنًّا منقطعًا عن أسباب الدنيا, قرأت عليه الحكمة المشرقية, وكان قيّمًا عليها, بصيرًا بدقائقها.
وذاكرت صاحبنا الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي, ومنه المعلّقات العشر, وصاحبنا محمد العمري الجزائري, أمهات الأدب المشهورة خصوصًا الكامل للمبرد, والبيان والتبيين للجاحظ, فقد ختمناهما مطالعة مشتركة فاحصة متأنية, وكذلك فعلنا بكتاب الأغاني من أوله إلى آخره.
وبالجملة فقد كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ, فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب, وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة, فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت, حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة, وفي مكتبة السلطان محمود, وفي مكتبة شيخنا الوزير, وفي مكتبة بشير آغا, أو في مكتبات الأفراد الغاصة بالمخطوطات, مثل مكتبة آل الصافي, ومكتبة رباط سيدنا عثمان, وفي مكتبة آل المدني وآل هاشم, ومكتبة الشيخ عبد الجليل برادة, ومكتبة الوزير التونسي العربي زروق, كما كنت أستعير كثيرًا من المخطوطات الغربية من أصدقائي وتلامذتي الشناقطة, أذكر منها ديوان غيلان ذي الرمة, فأقرأها وأحفظ عيونها, وقد حفظت في تلك الفترة معظم ديوان ذي الرمة.
كل هذا وأنا لم أنقطع عن إلقاء الدروس, وجاءت الحرب العالمية الأولى فلم أنقطع عن هذا النظام المحكم في حياتي العلمية, ولما جاءت سنة 1917 أمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق بسبب استفحال ثورة الشريف حسين بن علي, وعجز الحكومة عن تموين الجيش الذي بلغ عدده خمسين ألفًا, وتموين المدنيين الذين يبلغ تعدادهم ثمانين ألفًا, فاقتضى تدبير قوّادها العسكريين إذ ذاك أن ينقل سكان المدينة إلى مصدر الأقوات في دمشق, بدل أن تنقل الأقوات منها إليهم, فكنت من أوائل المطيعين لذلك الأمر, وخرجت مع والدي إلى دمشق في شتاء سنة 1917, وكان من أول ما يعنيني لقاء رجال العلم وكانوا أول من بدأ بالفضل فزاروني في منزلي وتعارفنا لأول لقاء, وهدتني المجالس الأولى إلى تمييز مراتبهم فاصطفيت منهم جماعة من أولهم الصديق الحميم الشيخ محمّد بهجت البيطار.
المرحلة الرابعة:
ما لبثت شهرًا حتى انهالت عليَّ الرغبات في التعليم بالمدارس الأهلية, فاستجبت لبعضها, ثم حملني إخواني على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان فامتثلت وألقيت دروسًا (تحت قبة النصر الشهيرة) على طريقة الأمالي, فكنت أجعل عماد الدرس حديثًا أمليه من حفظي بالإسناد إلى أصوله القديمة, ثم أملي تفسيره بما يوافق روح العصر وأحداثه, فسمع الناس شيئًا لم يألفوه ولم يسمعوه إلا في دروس الشيخ بدر الدين الحَسَنِي.ثم بعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي دعتني الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة إذ ذاك) مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك, فاضطلعت بما حُملت من ذلك, وتلقّى عني التلامذة دروسًا في الأدب العربي الصميم, وكانت الصفوف التي أدرس لها الأدب العربي هي الصفوف النهائية المرشّحة للبكالوريا, وقد تخرّج عني جماعة من الطلبة هم اليوم عماد الأدب العربي في سوريا منهم :
الدكتور جميل صليبا, والدكتور أديب الروماني, والدكتور المحايري, والدكتور عدنان الأتاسي.
ولما دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق اتصل بي وأرادني على أن أبادر بالرجوع إلى المدينة لأتولّى إدارة المعارف بها, ولم يكن ذلك في نيتي وقصدي, لما طرأ على المدينة من تغيّر في الأوضاع المادية والنفسية فأبيت عليه, وما فتئ يلحّ عليّ وآبى إلى أن سنحت الفرصة فكررت راجعًا إلى الجزائر موطن آبائي وعشيرتي.
المرحلة الخامسة:
أعمالي في الجزائر بعد رجوعي من الحجاز والشام
وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعمالي فيها
كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر,
ومن مخبّآت الغيوب لها أن يرد عليّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة
وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك, الشيخ عبد الحميد بن باديس, أعلم
علماء الشمال الإفريقي, ولا أغالي, وباني النهضات العلمية والأدبية
والاجتماعية والسياسية للجزائر.وبيت ابن باديس في قسنطينة, بيت عريق في السؤدد والعلم, ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى المعزّ بن باديس, مؤسّس الدولة الصنهاجية الأولى التي خلفت الأغالبة على مملكة القيروان, ومدّت ظلّها على قسنطينة ومقاطعتها حينًا من الدهر, ومع تقارب بلدينا بحيث لا تزيد المسافة بيننا على مائة وخمسين كيلومترًا, ومع أننا لِدَتانِ في السن يكبرني الشيخ بنحو سنة وبضعة أشهر, رغم ذلك كله, فإننا لم نجتمع قبل الهجرة إلى المدينة, ولم نتعارف إلا بالسماع, لأنني كنت عاكفًا في بيت والدي, على التعلّم, ثم على التعليم, وهو كان يأخذ العلم عن علماء قسنطينة متبعًا لتقاليد البيت, لا يكاد يخرج من قسنطينة, ثم بعد بلوغ الرشد ارتحل إلى تونس, فأتمّ في جامع الزيتونة تحصيل علومها.
كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي, ونخرج إلى منزلي, فنسمر مع الشيخ ابن باديس, منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح, ثم نفترق إلى الليلة الثانية, إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة.
كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر, ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا, وصحبها من حسن النيّة وتوفيق اللّه ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة, وأشهد اللّه على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931.
ورجع الشيخ إلى الجزائر من سنته تلك بعد أن أقنعته بأني لاحق به بعد أن أقنع والدي أن رجوعي إلى الجزائر يترتّب عليه إحياء للدين والعربية, وقمع للابتداع والضلال, وإنكاء للاستعمار الفرنسي, وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أدخُل منه على نفس والدي ليسمح لي بالرجوع إلى الجزائر.
وشرع الشيخ بعد رجوعه من أول يوم في تنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفقنا عليه, ففتح صفوفًا لتعليم العلم, واحتكر مسجدًا جامعًا من مساجد قسنطينة لإلقاء دروس التفسير, وكان إمامًا فيه, دقيق الفهم لأسرار كتاب اللّه, فما كاد يشرع في ذلك ويتسامع الناس به حتى انهال عليه طلاب العلم من الجبال والسهول إلى أن ضاقت بهم المدينة, وأعانه على تنظيمهم وإيوائهم وإطعام المحاويج منهم جماعة من أهل الخير ومحبّي العلم, فقويت بهم عزيمته ، وسار لا يلوي على صائح.
واشتعلت الحرب العالمية الأولى وهو في مبدأ الطريق, فاعتصم باللّه فكفاه شرّ الاستعمار, وكان له من وجود والده درع وقاية من بطش فرنسا التي لا تصبر على أقلّ من هذه الحركات, وكان لوالده مقام محترم عند حكومة الجزائر, فسكتت عن الابن احترامًا لشخصية الوالد, وظهرت النتائج المرجوّة لحركته في السنة الأولى, وكانت في السنة الثانية وما بعدها أكبر، وعدد الطلبة أوفر, إلى أن انتهت الحرب.
ورجعت أنا إلى الجزائر فلقيني بتونس, وابتهج لمقدمي أكثر من كل أحد لتحقيق أمله المعلّق علي, وزرته بقسنطينة قبل أن أنقلب إلى أهلي, ورأيت بعيني النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنوات من تعليم ابن باديس, واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها, وأن هذه الخطوة المسدّدة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة عربية في الجزائر, وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر, ولمست بيدي آثار الإخلاص في أعمال الرجال, ورأيت شبانًا ممن تخرّجوا على يد هذا الرجل وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة وتركيب عربي حرّ, ومعان بليغة, وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمّة, وأوصاف رائعة في المجتمع الجزائري, وتشريح لأدوائه, ورأيت جماعة أخرى من أولئك التلامذة وقد أصبحوا يحبرون المقالات البديعة في الصحف, فلا يقصرون عن أمثالهم من إخوانهم في الشرق العربي, وآخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية, فيرتجلون القول المؤثّر, والوصف الجامع, ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ.
وحللت بلدي وبدأت من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخي ابن باديس… بدأت أولاً بعقد الندوات العلمية للطلبة, والدروس الدينية للجماعات القليلة, فلما تهيّأت الفرصة انتقلت إلى إلقاء الدروس المنظّمة للتلامذة الملازمين, ثم تدرّجت لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الآهلة, وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد.
ثم لما تمّ استعداد الجمهور الذي هزّته صيحاتي إلى العلم, أسّست مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم, وكانت أعمالي هذه في التعليم الذي وقفت عنايتي عليه فاترة أحيانًا لخوفي من مكائد الحكومة الاستعمارية, إذ ليس لي سند آوى إليه كما لأخي ابن باديس, وكانت حركاتي منذ حللت بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك, حتى صلاتي وخطبي الجمعية, فكنت أتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أني تظاهرت لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من أعولهم من أفراد أسرتي, ولكنها لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركتي, فكان بوليسها يلاحقني بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزورني من تونس أو الحجاز, كل هذا وأنا لم أنقطع عن الدروس لطلاب العلم بالليل.
في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920 و1930 كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية وكنا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر, يزورني في بلدي (سطيف) أو أزوره في قسنطينة, فنزن أعمالنا بالقسط ونزن آثارها في الشعب بالعدل, ونبني على ذلك أمرنا, ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبدًا, وكنا نقرأ للحوادث والمفاجآت حسابها, فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.
كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات كانت كلها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم وهو إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى الفعل, وأصبح لنا جيش من التلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكتّاب والشعراء, يلتفّ به مئات الآلاف من أنصار الفكرة وحملة العقيدة يجمعهم كلهم إيمان واحد, وفكرة واحدة, وحماس متأجج, وغضب حادّ على الاستعمار.
كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي : ألا نتوسع له في العلم, وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل, فتمّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا.
كانت سنة 1930 هي السنة التي تمّ بتمامها قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر, فاحتفلت بتلك المناسبة احتفالا قدّرت له ستة أشهر ببرنامج حافل مملوء بالمهرجانات ودعت إليه الدنيا كلها, فاستطعنا بدعايتنا السرّية أن نفسد عليها كثيرًا من برامجها, فلم تدم الاحتفالات إلا شهرين, واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا ونلفت أنظاره إلينا.
تكامل العدد وتلاحق المدد… العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية, والمدد من إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم, فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931 بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا من وضعي أدرته على قواعد من العلم والدين لا تثير شكًا ولا تخيف, وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم, وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة فخيّبنا ظنها والحمد للّه.
دعونا فقهاء الوطن كلهم, وكانت الدعوة التي وجّهناها إليهم صادرة باسم الأمّة كلها, ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس, لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جمودهم, ووصفنا إياهم بأنهم بلاء على الأمّة وعلى الدين لسكوتهم على المنكرات الدينية, وبأنهم مطايا للاستعمار, يذلّ الأمّة ويستبعدها باسمهم, فاستجابوا جميعًا للدعوة, واجتمعوا, في يومها المقرّر, ودام اجتماعنا في نادي الترقّي بالجزائر أربعة أيام كانت من الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر, ولما تراءت الوجوه وتعالت أصوات الحق أيقن أولئك الفقهاء أنهم ما زالوا في دور التلمذة, وخضعوا خضوع المسلم للحق, فأسلموا القيادة لنا, فانتخب المجلس الإداري من رجال أكفاء جمعتهم وحدة المشرب, ووحدة الفكرة ووحدة المنازع الاجتماعية والسياسية, ووحدة المناهضة للاستعمار, وقد وكل المجتمعون ترشيحهم إلينا فانتخبوهم بالإجماع, وانتخبوا ابن باديس رئيسًا, وكاتب هذه الأسطر وكيلا نائبًا عنه, وأصبحت الجمعية حقيقة واقعة قانونية… وجاء دور العمل.
هذه المرحلة من حياتي هي مناط فخري وتاج أعمالي العلمية والاجتماعية, والأفق المشرق من حياتي, وهذه هي المرحلة التي عملت فيها لديني ولغتي ووطني أعمالا أرجو أن تكون بمقربة من رضى اللّه, وهذه هي المواقف التي أشعر فيها كلما وقفت أردّ ضلالات المبتدعة في الدين, أو أكاذيب الاستعمار, أشعر كأن كلامي امتزج بزجل الملائكة بتسبيح اللّه.
كلّفني إخواني أعضاء المجلس الإداري في أول جلسة أن أضع للجمعية لائحة داخلية نشرح أعمالها كما هي في أذهاننا لا كما تتصوّرها الحكومة وأعوانها, المضلّلون منا, فانتبذت ناحية ووصلت طرفي ليلة في سبكها وترتيبها, فجاءت في المائة وسبع وأربعين مادة, وتلوتها على المجلس لمناقشتها في ثماني جلسات من أربع أيام, وكان يحضر الجلسات طائفة كبيرة من المحامين والصحافيين العرب المثقفين بالفرنسية, فأعلنوا في نهاية عرض اللائحة إيمانهم بأن العربية أوسع اللغات, وأنها أصلح لغة لصوغ القوانين ومرافعات المحاميين, وكأنما دخلوا في الإسلام من ذلك اليوم, وخطب الرئيس عند تمام مناقشة اللائحة وإقرارها بالإجماع خطبة مؤثّرة أطراني فيها بما أبكاني من الخجل, وكان مما قال : عجبت لشعب أنجب مثل فلان أن يضلّ في دين أو يخزى في دنيا, أو يذلّ لاستعمار. ثم خاطبني بقوله : وَرِيَ بك زناد هذه الجمعية.
كان من نتائج الدراسات المتكرّرة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا في المدينة المنوّرة, أن البلاء المنصبّ على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه, وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه, ويفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادي وهو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار, واستعمار روحاني يمثّله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب والمتغلغلون في جميع أوساطه, المتاجرون باسم الدين, المتعاونون مع الاستعمار عن رضى وطواعية, وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد, خوفًا من اللّه بزعمه, والاستعماران متعاضدان يؤيّد أحدهما الآخر بكل قوّته, ومظهرهما معًا تجهيل الأمّة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات, وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة.
فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني لأنه أهون, وكذلك فعلنا, ووجد المجلس الإداري نظامًا محكمًا فاتبعه, لذلك كانت أعمال الجمعية متشعبة وكان الطريق أمام المجلس الإداري شاقًّا ولكنه يرجع إلى الأصول الآتية :
1- تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين, بواسطة الخطب والمحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد في المساجد والأندية والأماكن العامة والخاصة, حتى في الأسواق, والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
2- الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار في ما تصل إليه أيدينا من الأماكن, وفي بيوت الآباء, ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
3- تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين, ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
4- العمل على تعميم التعليم العربي للشبان على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
5- مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها, لنستخدمها في تعليم الأمّة دينها, وتعليم أبنائها لغتهم.
6- مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزّعتها على معمّريها, لتصرف في مصارفها التي وقفت عليها (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
7- مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية مبدئيًّا.
8- مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.
هذه معظم الأمهات التي تدخل في تصميم أعمال الجمعية, منها ما بدأناه بالفعل ولاقينا فيه الأذى, فصبرنا حتى كانت العاقبة لنا, ومنها ما طالبنا به حتى أقمنا حق الأمّة فيه, وفضحنا الاستعمار شرّ فضيحة, ومجموع هذه المطالب في ظاهرها دينية, ولكنها في معناها وفي نظر الاستعمار هي نصف الاستقلال.
كانت السنة الأولى من عمر الجمعية سنة غليان: من جهتنا في تكوين الشُّعَب في كل مدينة وكل قرية لتنفيذ مقاصد الجمعية, وغليان السخط علينا من الاستعمار لأننا فاجأناه بما تركه مشدوهًا حائرًا لا يدري ما يفعل ولا من أين يبدأ في مقاومة حركتنا, وتفرّق أعضاء الجمعية على القطر كله يرشدون ويعظون ويزرعون الوعي, ويراقبون حركة التعليم ويحضرون أماكنه.
وعقدنا الاجتماع العام في السنة الثانية, فكانت النتيجة باهرة, والعزائم أقوى والأمّة إلينا أميل. وخرج المتردّدون عن تردّدهم فانضموا إلينا, وأعيد انتخاب المجلس فأسفر عن بقاء القديم وزيادة أعضاء ظهرت مواهبهم في العلم, وكشّر الاستعمار عن أنيابه, فبدأ يمنعنا من إلقاء الدروس في المساجد الواقعة في قبضته, وثارت نخوة الأمّة فأنشأت بمالِها بضعة وتسعين مسجدًا حرًّا في سنة واحدة في أمهات القرى.
في هذه السنة قررت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث ليكون كل واحد منهم مشرفًا على الحركة الإصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها, فأبقينا الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة وحملناه مؤونة الإشراف على الحركة في جميع المقاطعة, وخصصنا الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها, وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان, وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية التي أخنى عليها الدهر فانتقلت إليها بأهلي, وأحييت بها رسوم العلم, ونظمت دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم, وما لبث إلّا قليلًا حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث, وتبارى كرام التلمسانين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي, وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات, وأقسام لطلبة العلم, واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار, وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد, فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم, أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح, وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء، وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي, فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدأ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات.
وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية, فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد, وأتفقد شُعَبَها ومدارسها, وكانت أيام جولتي كلها أيام أعراس عند الشعب, يتلقونني على عدة أميال من المدينة أو القرية, وينتقل بعضهم معي إلى عدة مدن وقرى, فكان ذلك في نظر الاستعمار تحديًّا له ولسلطته, وفي نظر الشعب تمجيدًا للعلم والدين وإغاظة للاستعمار, فإذا انقضت العطلة اجتمعنا في الجزائر العاصمة وعقدنا الاجتماع العام وفي أثره الاجتماع الإداري وقدم كل منا حسابه, ونظمنا شؤون السنة الجديدة, ثم انصرفنا إلى مراكزنا.
بلغت إدارة الجمعية وهي في مستهل حياتها من النظام والقوة مبلغًا قويًّا بديعًا فأصبحنا لا نتعب إلّا في التنقل والحديث, أما الحكومة الاستعمارية فإننا بنينا أمرنا من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها, وقد كنا نعلن في جرائدنا كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار, ونحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت, وكان هذا الكلام ومثله أنكى عليها من وقع السهام لأنها لم تألف سماعه, وقد اطمأنت إلى أن الشعب الجزائري قد مات كما صرح بذلك أحد ساستها الكبار في خطبة ألقاها على ممثلي الأمم في المهرجان الذي أقامته في عيدها المئوي لاحتلال الجزائر, وكان مما قال: “لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن, فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون, ومع ذلك خرجوا منه, ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار”.
وكانت أعمال الإخوان في المقاطعتين الأخريين مشابهة لأعمالي بمقاطعة وهران لأننا نجري على منهاج واحد, ونسير على برنامج واحد عاهدنا اللّه على تنفيذه.
ولما ضاقت فرنسا ذرعًا بأعمالي ونفد صبرها على التحديات الصارخة لها, وأيقنت أن عاقبة سكوتها عنا هو زوال نفوذها بأعمالي وخاتمة استعمارها, اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية, وأصدر رئيس وزرائها إذ ذاك (دالاديى) (Daladier) قرارًا يقضي بإبعادي إلى الصحراء الوهرانية إبعادًا عسكريًا لا هوادة فيه, لأن في بقائي طليقًا حرًا خطرًا على الدولة, كما هي عبارته في حيثيات القرار, ووكل تنفيذ قراره للسلطة العسكرية فنقلوني للمنفى في عاشر أفريل سنة 1940, وبعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء, كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه, وقد شيع جنازته عشرات الألوف من الأمة رغمًا عن قسوة الأحكام العسكرية وقت الحرب, واجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعَب يوم موته وانتخبوني رئيسًا لجمعية العلماء بالإجماع, وأبلغوني الخبر وأنا في المنفى فأصبحت أدير الجمعية وأصرف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بيني وبين إخواني بواسطة رسل ثقات, وكنت حين بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب, وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا؟ وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها, وقدرنا لكل حالة حكمها, وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين, ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا فقبضه الله إليه. بقيت في المنفى ثلاث سنين تقريبًا, ولما أطلق سراحي من المنفى أول سنة ثلاث وأربعين كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس, فأنشأت في سنة واحدة ثلاثًا وسبعين مدرسة في مدن وقرى القطر كله, كلها بأموال الأمة وأيديها, واخترت لتصميمها مهندسًا عربيًا مسلمًا فجاءت كلها على طراز واحد لتشهد للأجيال القادمة أنها نتاج فكرة واحدة.
وتهافتت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على الأربعمائة مدرسة, ولم أتخل بعد رئاستي للجمعية وخروجي من المنفى عن دروسي العلمية للطلبة وللعامة, ولما رأت فرنسا أن عقابها لي بالتغريب ثلاث سنوات لم يكف لكسر شوكتي, وأنني عدت من المنفى أمضى لسانًا وقلبًا وعزيمة مما كنت, وأن الحركة التي أقودها لم تزدد إلّا اتساعًا ورسوخًا, انتهزت فرصة نهاية الحرب ودبرت للجزائر ثورة مفتعلة فقتلت من الشعب الجزائري المسلم ستين ألفًا, وساقت إلى المعتقلات سبعين ألفًا معظمهم من أتباع جمعية العلماء, وألقت بي في السجن سنة إلّا قليلا, ثم أخرجوني بدعوى صدور عفو عام عن مدبري الثورة ومجرميها وكان من (زملائي) في السجن الدكتور شريف سعدان – رحمه الله – والصيدلي فرحات عبّاس والمحامي شريف حاج سعيد وغيرهم.
ولما خرجت من السجن عدت إلى أعمالي أقوى عزيمة مما كنت, وأصلب عودًا وأقوى عنادًا, وعادت المدارس التي عطلتها الحكومة زمن الحرب, وأحييت جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب, ومنها الاجتماع السنوي العام, وأحييت جريدة (البصائر) التي عطلناها من أول الحرب باختيارنا باتفاق بيني وبين ابن باديس لحكمة, وهي أننا لا نستطيع تحت القوانين الحربية أن نكتب حرفًا مما يراد منا, فحكمنا عليها بالتعطيل وقلنا: بيدي لا بيد عمرو, وحسنًا فعلنا؛ كذلك عطلنا مجلة (الشهاب) الناشر لأفكار الجمعية.
ولما قررنا إحياء جريدة (البصائر) ألزمني إخواني أن أتولى إدارتها ورئاسة تحريرها فقبلت مكرهًا, وتضاعفت المسؤوليات, وثقلت الأعباء, فرئاسة الجمعية وما تستلزم من رحلات وما يتبع الرحلات من دروس ومحاضرات, كل ذلك كان يستنزف جهدي, فكيف إذا زادت عليها أعباء الجريدة وتحريرها؟ ولكن عون الله إذا صاحب امْرأً خفت عليه الأثقال.
كنت أقوم للجمعية بكل واجباتها, وأقوم للجريدة بكل شيء حتى تصحيح النماذج, وأكتب الافتتاحيات بقلمي, وقد تمر الليالي ذوات العدد من غير أن أطعم النوم, وقد أقطع الألف ميل بالسيارة في الليلة الواحدة, وما من عداوة تقع بين قبيلتين أو فردين إلّا وأحضر بنفسي وأبرم الصلح بينهما, وأرغم الاستعمار الذي من همه بث الفتن, وإغراء العداوة والبغضاء بين الناس, فكنت معطلًا لتدبيراته في جميع الميادين.
بلغ عدد المدارس الابتدائية العربية أربعمائة وزيادة, وبلغ عدد تلامذتها إلى اليوم الذي سافرت فيه إلى الشرق مئات الآلاف بين بنين وبنات, وبلغ عدد معلميها ألفًا وبضع مئات, وبلغت ميزانيتها الخاصة ( وهي فرع من الميزانية العامة لجمعية العلماء) مائة مليون فرنك وزيادة إلى نهاية خروجي من الجزائر سنة 1952. ولما بلغ عدد المتخرجين من مدارسنا بالشهادة الابتدائية عشرات الآلاف, وجدت نفسي أمام معضلة يتعسر حلها, ذلك أن حاملي هذه الشهادة ذاقوا حلاوة العلم فطلبوا المزيد, وأرهقوني من أمري عسرًا, وألحوا عليَّ أن أتقدم بهم خطوة إلى الأمام, وحرام علي- على حد تعبيرهم- أن أقف بهم دون غاياته, فكان واجبًا علي أن أخطو بهم إلى التعليم الثانوي, وأهبت بالأمة أن تعينني بقوة أبلغ بها غرض أبنائها, فاستجابت فكان ذلك مشجعًا على إنشاء معهد ثانوي بمدينة قسنطينة نسبناه إلى إمام النهضة ابن باديس, تخليدًا لذكره, واعترافًا بفضله على الشعب, فاشترينا دارًا عظيمة واسعة من دور عظماء البلدة, وجعلنا منها معهدًا ثانويًا, وهيأنا له من سنته الأساتذة والتلامذة والكتب المال, فكان التعليم فيه بالمعنى الكامل عند غيرنا من الأمم ببرامجه وكتبه وأدواته, وكان هذا المعهد تاجًا لمدارس جمعية العلماء وغرة في أعمالها, وكانت نيتي معقودة على إنشاء معهدين ثانويين آخرين, أحدهما بمدينة الجزائر, والثاني بمدينة تلمسان, وقد بلغ تلامذة المعهد الباديسي في السنة الأولى ألفًا أو يزيدون, وكلهم منتخبون من مدارسنا الابتدائية من جميع القطر, ثم اشترينا من مال الأمة دارًا أخرى تتسع لسكنى سبعمائة طالب, وبعد خروجي لهذه الرحلة افتتحها إخواني من بعدي بعد أن قسموها إلى قاعات نوم فسيحة بأسرتها, ودواليب الثياب, وكتب المطالعة, على ترتيب بديع, وفي الدار ما يريح الطالب من مغتسلات, وحمامات, ومطابخ, وغرف طعام.
مالية جمعية العلماء:
مالية جمعية العلماء تأتيها من موردين:اشتراكات الشُّعب الشهرية.
والتبرعات غير المحدودة.
وميزانيتها في السنوات الأخيرة أصبحت ضخمة وقد قسمتها إلى أقسام:
فمالية بناء المدارس لا تدخل خزينة الجمعية, بل تقبضها الجمعية المحلية وتنفقها على البناء, فإذا تم البناء جرى الحساب علنًا على رؤوس الأشهاد بحضرتي وسُدَّ بابها, والمالية الخاصة بأجور المعلمين والقَوَمة على المدرسة تؤخذ من آباء التلاميذ بواسطة أمين مال الجمعية المحلية في مقابل إيصالات رسمية مختومة بختمها, ولكل مدرسة جمعية محلية قانونية تنتخبها جمعية العلماء من أعيان المدينة أو القرية, ولا تحاسب جمعية العلماء إلا في آخر السنة في الاجتماع العام, والمال الذي يتحصل من الاشتراك العام في جمعية العلماء هو الذي يدخل إلى خزانتها, ويحاسب عليه أمين مالها في التقرير المالي الذي يتقدم به إلى الاجتماع العام, ويضاف إليه ما يتحصل من التبرعات غير المحدودة. أما الجريدة فإنها قائمة بنفسها من أثمان الاشتراك فيها, وقد قررت في كل اجتماع عام أن تعرض على المجلس الإداري جميع المداخيل المذكورة م أجور التعليم, والاشتراكات العامة والتبرعات, كل ميزانية على حدة, وكل مدرسة يفيض دخلها على خرجها يدخل المبلغ الفائض في الخزينة العامة, وكل مدرسة ينقص دخلها عن خرجها يعتمد لها من الخزينة العامةما يسدد عجز ميزانيتها، وكل هذا على نظام بديع يؤدي إلى اشتراكية بين المدارس مع بعضها, وبين الشعب والجمعية المحلية.
أثر أعمالي وأعمال اخواني في الشُّعب:
أثر أعمالنا في الشعب بارز لا ينكره حتى أعداؤنا من الاستعماريين, وخصومنا من إخواننا السياسيين, فمن آثارنا بث الوعي واليقظة في الشعب حتى أصبح يعرف ما له وما عليه, ومنها إحياء تاريخ الإسلام وأمجاد العرب التي كان الاستعمار يسد عليه منافذ شعاعها, حتى لا يتسرب إليه شيء من ذلك الشعاع, ومنها تطهير عقائد الإسلام وعباداته من أوضار الضلال والابتداع, وإبراز فضائل الإسلام, وأولها الاعتماد على النفس, وإيثار العزة والكرامة, والنفور من الذلة والاستكانة والاستسلام, ومنها أخذ كل شيء بالقوّة, ومنها العلم, هذه الكلمة الصغيرة التي تنطوي تحتها جميع الفضائل, ومنها بذل المال والنفس في سبيل الدين والوطن, ومنها نشر التحاب والتآخي بين أفراد المجتمع, ومنها التمسك بالحقائق لا بالخيالات والأوهام؛ فكل هذه الفضائل كان الاستعمار يغطيها عن قصد لينساها المسلمون على مر الزمان, بواسطة التجهيل وانزواء العقل والفكر, وقد وصل الشعب الجزائري إلى ما وصل إليه, بفضل جمعية العلماء, وما بذلناه من جهود في محو الرذائل التي مكن لها الاستعمار, وتثبيت الفضائل التي جاء بها الإسلام, ولو تأخر وجود الجمعية عشرين سنة أخرى لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا, ولو سلكنا سبيلاً غير الذي سلكناه في إيقاظ الأمة وتوجيهها في السبيل السوي لما قامت هذه الثورة الجارفة في الجزائر, التي بيضت وجه العرب والمسلمين, ولو نشاء لقلنا إننا أحيينا اللسان العربي, والنخوة العربية, وأحيينا دين الإسلام وتاريخه المشرق, وأعدنا لهما سلطانهما على النفوس وتأثيرهما في العقول والأرواح, وشأنهما الأول في الاتعاظ والأسوة, فاحيينا بذلك كله الشعب الجزائري فعرف نفسه, فاندفع إلى الثورة يحطم الأغلال ويطلب بدمه الحياة السعيدة والعيشة الكريمة, ويسعى إلى وصل تاريخه الحاضر بتاريخه الغابر.مؤلفاتي:
لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلاً, ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالاً, وعملت لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده, وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلمًا عربيًّا, وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا, وحسبي هذا مقربًا من رضى الرب ورضى الشعب.ومع ذلك فقد ساهمت بالكتابة في موضوعات مفيدة, ولكن لم يساعدني الفراغ ولا وجود المطابع على طبعها, وقد بقيت كلها مسودات في مكتبتي بالجزائر.
فمن أجلّ ما كتبت :
عيون البصائر: وهي من المقالات التي كتبتها بقلمي في جريدة (البصائر) في سلسلتها الثانية.
كتاب بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر, (والتزمت فيها باللهجة السائدة اليوم في مواطن هلال بن عامر).
كتاب النقايات والنفايات في لغة العرب: جمعت فيه كل ما جاء على وزن فعالة (من مختار الشيء أو مرذوله).
كتاب أسرار الضمائر في العربية.
كتاب التسمية بالمصدر.
كتاب الصفات التي جاءت على وزن فعَل بفتح العين.
كتاب نظام العربية في موازين كلماتها.
كتاب الاطراد والشذوذ في العربية: (رسالة في الفرق بين لفظ المطرد والكثير عند ابن مالك).
كتاب ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة.
رسالة في ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان.
رواية: كاهنة أوراس بأسلوب مبتكر يجمع بين الحقيقة والخيال.
رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية.
كتاب حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام بدأت فيه من أيام إقامتي في دمشق بعد الحرب الأولى, وأتممته بعد ذلك في فترات, وبحثت فيه ينابيع المال في الإسلام, واستخرجت ينابيع أخرى غير منصوصة يلتجئ إليها جماعات المسلمين إذا حَزَبَهم أمر, أو فاجأتهم حادثة.
كتاب شُعَب الإيمان: جمعت فيه الأخلاق والفضائل الإسلامية.
وهناك محاضرات وأبحاث كتبها عني التلامذة في حين إلقائها, وهناك فتاوى متناثرة.
ولكن أعظم ما دونت, ملحمة رجزية نظمتها في السنين التي كنت فيها مبعدًا في الصحراء الوهرانية, وهي تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي في كل بيت منه, وقد تضمنت فنونًا من المواضيع: تاريخ الإسلام ووصف لكثير من الفرق التي حدثت في عصرنا هذا, وللمجتمع الجزائري بجميع فرقه ونحله, ولأفانين في الهزل للمذاهب الاجتماعية والفكرية والسياسية المستجدة, والإنحاء على الابتداع في الدين, وتصوير لأولياء الشيطان, ومحاورات أدبية رائعة بينهم وبين الشيطان, ووصف للاستعمار ومكائده ودسائسه وحيله وتخديراته للشعوب للقضاء على مقوماتها.
ولم أقرأ للرجاز رجزًا سلسًا يلتحق بالشعر الفني مثل هذه الملحمة إلا لابن الخطيب في نظم الدول, ولشوقي في رجز دول العرب وعظماء الإسلام, ولبعض الشناقطة, وكان الرجز موقوفًا على نظم المتون العلمية, وهي مقيدة بالاصطلاح العلمي, لذلك كان باردًا بعيدًا عن الفن, خاليًا من الإشراق والروعة حتى عده المعري من سفساف القريض وتخيل للرجاز جنة حقيرة, وأنا أعتبره بحرًا كبقية بحور الشعر العربي يرتفع فيه أقوام وينخفض آخرون, ولمهيار الديلمي قصائد كثيرة من مسلسلاته من وزن هذا البحر, ولم يقعد بها عن الإجادة أنها من الرجز, وشوقي إمام الشعر في وقتنا هذا يقول في شأن الغاضّين من الرجز, الظانّين بأنه مركب لمن عجز:
خلاصة الخلاصة:
1- ولدت عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306هـ, الموفق للرابع عشر من شهر يونيو سنة 1889م.
2- حفظت القرآن ومتون العلم الكبيرة وأنا ابن تسع سنين, وتلقيت علوم الدين والعربية في بيت أسرتي على عمي القائم بتربيتي الشيخ محمد المكي الإبراهيمي وكان علامة زمانه في العلوم العربية.
3- مات عمي وأنا ابن أربع عشرة سنة, بعد أن أجازني في العلوم التي تلقيتها عليه.
4- وهبني الله حافظة خارقة, وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف وكانتا معينتين لي في تحصيل العلم في هذا السن.
5- بعد موت عمي خلفته في إلقاء الدروس على تلامذته وغيرهم إلى أن جاوزت العشرين سنة.
6- بيتنا عريق في العلم خرج منه جماعة أفذاذ في علوم الدين والعربية في الخمسة قرون الأخيرة, بعد انحطاط عواصم العلم الشهيرة في المغرب.
7- رحلت إلى المدينة أنا ووالدي مهاجرين, فرارًا من الاستعمار الفرنسي, فكنت من مدرسي الحرم النبوي الشريف, وتلقيت فيها علم التفسير, وعلم الحديث, رواية ودراية, وعلم الرجال وأنساب العرب, ومكثت في المدينة المنورة قريبًا من ست سنين, ثم انتقلنا إلى دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى فكنت من أساتذة العربية في المدرسة السلطانية بها مدة سنتين, في عهد حكومة الاستقلال العربي.
8- بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجعت إلى بلدي بالجزائر, وبقيت بها أنشر العلم في فترات متقطعة إلى سنة 1931 ميلادية, وكنت أحد اثنين يرجع لهما الفضل في تكوين جمعية العلماء أنا وعبد الحميد بن باديس, وكنت في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية بالجزائر من الابتدائية إلى العالية, وكنت أبرز المشيدين لأربعمائة مدرسة في مدن القطر الجزائري وقراه, وفي طليعة المجاهدين في سبيل الإصلاح الديني وحرب التدجيل والابتداع في الدين وبث الوعي الوطني, وتصحيح الموازين الفكرية والعقلية في نفوس أفراد الشعب الجزائري.
9- بعد ظهور جمعية العلماء للوجود انغمست في أعمالها وتشكيلاتها وانقطعت إلى العلم وتأسيس مدارس ووضع برامجه, وكيلا لها في حياة ابن باديس ورئيسًا لها بعد موته على ما هو مفصل في الخلاصة, وفي سنة 1952 ميلادية رحلت إلى الشرق بتكليف من جمعيتي, وكان الباعث على هذه الرحلة أمرين :
الأول : السعي لدى الحكومات العربية لتقبل لنا بعثات من أبناء الجزائر.
الثاني : مخاطبة حكومات العرب والمسلمين في إعانتنا ماليًّا حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة, لأن الميدان اتسع أمامها, والشعب الجزائري محدود القوّة المالية, إذا لم يعنّا إخواننا فربما تنتكس حركتنا, وهذا ما ينتظره الاستعمار لنا.
وقد قدمت مصر ثم زرت باكستان والعراق وسوريا والحجاز. فأما قبول البعثات فقد حصلت فيه على الغرض, وأما الإعانة بالمال فقد كانت طفيفة, وقامت الثورة الجزائرية المباركة سنة 1954, واستفحل أمرها فانقطعت مكرهًا عن زيارة الجزائر.
10- تركت مسودات مؤلفاتي كلها بالجزائر ولم أصحبها معي لتطبع أو يطبع بعضها هنا كما كنت آمل, لأني لم أشأ أن أخلط عملاً عموميًّا للجزائر بعمل شخصي لنفسي.
وأنا أرجو للثورة الجزائرية التي شاركت في التمهيد لها وتهيئة أسبابها ختامًا جميلاً تنال به الجزائر حريتها واستقلالها.
نفعنا الله بما علَّمنا وبما علَّمْناه إنه مجازي العالمين المخلصين.
2- حفظت القرآن ومتون العلم الكبيرة وأنا ابن تسع سنين, وتلقيت علوم الدين والعربية في بيت أسرتي على عمي القائم بتربيتي الشيخ محمد المكي الإبراهيمي وكان علامة زمانه في العلوم العربية.
3- مات عمي وأنا ابن أربع عشرة سنة, بعد أن أجازني في العلوم التي تلقيتها عليه.
4- وهبني الله حافظة خارقة, وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف وكانتا معينتين لي في تحصيل العلم في هذا السن.
5- بعد موت عمي خلفته في إلقاء الدروس على تلامذته وغيرهم إلى أن جاوزت العشرين سنة.
6- بيتنا عريق في العلم خرج منه جماعة أفذاذ في علوم الدين والعربية في الخمسة قرون الأخيرة, بعد انحطاط عواصم العلم الشهيرة في المغرب.
7- رحلت إلى المدينة أنا ووالدي مهاجرين, فرارًا من الاستعمار الفرنسي, فكنت من مدرسي الحرم النبوي الشريف, وتلقيت فيها علم التفسير, وعلم الحديث, رواية ودراية, وعلم الرجال وأنساب العرب, ومكثت في المدينة المنورة قريبًا من ست سنين, ثم انتقلنا إلى دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى فكنت من أساتذة العربية في المدرسة السلطانية بها مدة سنتين, في عهد حكومة الاستقلال العربي.
8- بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجعت إلى بلدي بالجزائر, وبقيت بها أنشر العلم في فترات متقطعة إلى سنة 1931 ميلادية, وكنت أحد اثنين يرجع لهما الفضل في تكوين جمعية العلماء أنا وعبد الحميد بن باديس, وكنت في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية بالجزائر من الابتدائية إلى العالية, وكنت أبرز المشيدين لأربعمائة مدرسة في مدن القطر الجزائري وقراه, وفي طليعة المجاهدين في سبيل الإصلاح الديني وحرب التدجيل والابتداع في الدين وبث الوعي الوطني, وتصحيح الموازين الفكرية والعقلية في نفوس أفراد الشعب الجزائري.
9- بعد ظهور جمعية العلماء للوجود انغمست في أعمالها وتشكيلاتها وانقطعت إلى العلم وتأسيس مدارس ووضع برامجه, وكيلا لها في حياة ابن باديس ورئيسًا لها بعد موته على ما هو مفصل في الخلاصة, وفي سنة 1952 ميلادية رحلت إلى الشرق بتكليف من جمعيتي, وكان الباعث على هذه الرحلة أمرين :
الأول : السعي لدى الحكومات العربية لتقبل لنا بعثات من أبناء الجزائر.
الثاني : مخاطبة حكومات العرب والمسلمين في إعانتنا ماليًّا حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة, لأن الميدان اتسع أمامها, والشعب الجزائري محدود القوّة المالية, إذا لم يعنّا إخواننا فربما تنتكس حركتنا, وهذا ما ينتظره الاستعمار لنا.
وقد قدمت مصر ثم زرت باكستان والعراق وسوريا والحجاز. فأما قبول البعثات فقد حصلت فيه على الغرض, وأما الإعانة بالمال فقد كانت طفيفة, وقامت الثورة الجزائرية المباركة سنة 1954, واستفحل أمرها فانقطعت مكرهًا عن زيارة الجزائر.
10- تركت مسودات مؤلفاتي كلها بالجزائر ولم أصحبها معي لتطبع أو يطبع بعضها هنا كما كنت آمل, لأني لم أشأ أن أخلط عملاً عموميًّا للجزائر بعمل شخصي لنفسي.
وأنا أرجو للثورة الجزائرية التي شاركت في التمهيد لها وتهيئة أسبابها ختامًا جميلاً تنال به الجزائر حريتها واستقلالها.
نفعنا الله بما علَّمنا وبما علَّمْناه إنه مجازي العالمين المخلصين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق