مَنْ هو الشيخ المهدي البوعبدلي ؟:
الشيخ المهدي البوعبدلي، هو ابن الشيخ بوعبدالله بن عبد القادر، المنحدر مِنْ أسرة عبدالله المغوفل بالشلف، والذي من ضمن أحفاد الإخوة السبعة الذين لازموا الحرب، وواصلوا الجهاد مع الأمير عبد القادر بعد أن تخلَّى عنه عرشهم بالشلف، بسبب حادث مقتل (العربي) المتَّهم بالخيانة والتعامل مع الأعداء.
وقد استوطنوا بالمنطقة الممتدَّة بين (الرَّمْشي) و(الغَزَوات)، واحتضنوا الأمير عبد القادر وناصروه طِوال أربع سنوات، إلى أن أُرغِمَ على الاستسلام، واضطرُّوا بعد ذلك أنْ يبقَوْا حيث هم بالمنطقة، لأنَّ قومهم بالشلف رفضوا قبول عودتهم.
ووُلِد السيد عبد القادر، والد الشيخ بوعبدالله، وجدُّ الشيخ المهدي، في (سيدي سفيان)، بـ: (بني خلاَّد)، قرب (هنين)، ومنطقة (ندرومة) عام 1868م، وحفظ جزءًا من القرآن الكريم على والده الشيخ عبد القادر بمسقط الرأس، ثمَّ شدَّ الرِّحال صغيرًا إلى مدينة (فاس)، للالتحاق بمعهد (جامع القرويين)، وفي الطريق اعترضه اللصوص بكبدانة [كذا]، وانتزعوا منه كلَّ ما كان معه من النُّقود والأمتعة، وعرَّوْه حتى مِنْ ألبسته، وتركوه عريانًا، فمرَّ عليه بعض النَّاس وستروه ببعض الألبسة، واقتادوه إلى قاضي المنطقة، السيد (مغنوج)، فشرح له كيف تعرَّض للسرقة والسَّطْوِ مِنْ طرف اللصوص، فعرفهم [بالوصف]، وبعث في الحال في طلبهم، واستعاد منهم ألبسته وأمتعته، ووجَّهه إلى (باشاغا) بلدة (تسولة)، فسأله عن وجهته، فقال له إنه في طريقه إلى (القرويين) بِفاس للدِّراسة، فقال له (الباشاغا): « إنَّك ما تزال صغيرًا »، وأبقاه عنده (أربع سنوات) كاملة، وكلَّف مَنْ يعلِّمه ويُلقِّنه العلوم العربية والدينية واللغوِيَّة، وأتمَّ عنده حفظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله، وبعد ذلك وجَّهه إلى قاضي تلمسان الشيخ (أبي بكر شعيب بن علي)، الذي درَّسه علومًا كثيرة، فانتفع بعلومه ومعارفه، وتضلَّع في العربية، وألَّف قصيدة (المقصورة في علم الفرائض والتَّرِكات)، وسلَّمها لشيخه ليطَّلِع عليها، ويُعطِيَ رأيه فيها، فأُعجِبَ بها، وأجابه شِعرًا يُثني عليه ويُطريه، وطلب منه أنْ يشرحها نثْرًا، حتى يتمكَّنَ الناس مِنْ فهمها، وقال له:
« إنَّ قومك ليس فيهم مَنْ يقدِرُ على فهمها، فضلاً عنْ شرحها »، ومطلعها:
لك الحمد ربي وارث الأرض والسماء على كلِّ ما أوْلَيْتَ عبدَك مِنْ آلاء
ومِن تلمسان انتقل الشيخ بو عبد الله إلى (المنَاصْرة)، بالغرَّابة في (سيراط)، بين (بطيوة) و(سيق)، وشارك هناك لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، حتى يجمع مبلغًا من المال لِيُسافِرَ إلى مصر، لإتمام دراسته في (الأزهر الشريف)، فزوَّجه القوم هناك بامرأة منهم، وأسَّس عندهم معهدًا لِتعليم القرآن الكريم، والعلوم العربية والدينية واللغويَّة، واتَّصلَ بالشيخ (سيدي قدُّور بن سليمان) بمستغانم، وأخذ عنه الوِردَ والطريقة الدِّينية الصوفية وتخشَّع.
وعندما تجمَّعَ لديه نصيبٌ من المال، ذهب إلى شيخه بمستغانم وقدَّم له مبلغ أربعين (دورو) كـ: (زيارة)، وطلب منه دعوة الخير، واستأذنه في السفر إلى مصر للدِّراسة في الجامع (الأزهر)، فقال له: « عند الصباح يفتح الله »، وفي الصباح أعاد له نقودَه، وأضاف له عليها مبلغًا آخر مثله، وقال له: « عُدْ إلى أهلك، وتصدَّر هناك للتعليم والتدريس، فَبِلادُك بِحَاجَةٍ إليك، وكلُّ علوم الأزهر عندك »، فامتثل أمره، مِثلما امتثل ابن باديس لشيخه بالمدينة المنورة عندما أراد البقاء هناك، فطلب منه العودة إلى الجزائر.
عاد الشيخ بوعبدالله إلى (المناصرة)، ومنها انتقل إلى (بطيوة)، وفتح الله عليه، ووفَّقَه، فبنى بها زاوية وشرع في التعليم والتدريس للكِبار، وتحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصِّغار، ووَفَدَ عليه التلاميذ والطلبة من مختلف أنحاء الوطن، مِنْ (مليانة) شرقًا، إلى (الغَزَوات) غربًا، ومن (مَنْداس) إلى (مازونة)، وتخرَّجت على أيديه أجيال من الطلبة والعلماء والعارفين، خاصَّة أهالي (مليانة) الذين لهم الحظ الأوفر عنده.
وقد زاره في (بطيوة) الشيخ عبد الحميد بن باديس، وثلَّة من العلماء والصلحاء، وتحاوروا معه طويلاً، إلى أن وقفَ الشيخُ عبد الحميد بن باديس، وقال لهم: « كفى، الرَّجلُ عَالِمٌ، الرَّجلُ عالمٌ، الرَّجلُ عالِمٌ »، هكذا كرَّرها ثلاث مرَّات.
وقد أنشد الشيخ بوعبدالله قصيدة عصماء بليغة في هذه الزيارة الميمونة، نشرها الشيخ باديس في مجلة: (الشِّهاب)، على اثني عشر مقطعًا، في اثني عشر عددًا لبلاغتها.
وعندما خرج الشيخ البشير الإبراهيمي مِنْ منفاه في مدينة (أفلو)، أنشد فيه قصيدةً عصماء، وأرسلَها إليه، وبِما أنَّ (البصائر) كانت متوَقِّفَة، فلم ينشرها الشيخ البشير للأسف الشديد، ولا أحد يعرف مصدرها الآن.
وقد أكَّد لنا الشيخ (امْحَمَّد بن داود)، تلميذ الشيخ بوعبدالله الذي لازمه، وعلَّم في زاويته بـ: (بطيوة) اثني عشر عامًا، بأنَّ شيخه بوعبدالله له تراثٌ فكريٌّ وأدبيٌّ كبير، ووعَدَنا بالاطِّلاع عليه، والسعي في دراسته ونشره، وتمنَّى أن يتمَّ ذلك لإبراز دور العلماء، أو (جنود الخفاء)، في نشر العلم والفكر، والثقافة والتربية، والتعليم والأخلاق الفاضلة والطاهرة.
2) ميلاد الشيخ المهدي وتفقُّهه:
في هذا الجوِّ العلمي والفكريِّ والأدبيِّ، وفي عام 1907م وُلِدَ ونشأ الشيخ المهدي البوعبدلي، وتتلمذَ على أبيه مدَّة من الزمن، ثمَّ شدَّ الرِّحال إلى (مازونة)، وأخيرًا إلى (الزيتونة) في تونس، خلال عقد الثلاثينات، عِوَض (القرويِّين) بفاس.
وكان من ضمن رفاقه هناك الشيخ أحمد حماني، والشيخ علي المغربي، وآخرون كثيرون، في (الجامعة الزيتونية) التي كانت قِبلةَ للطلبة الجزائريين، بعد أنْ سُدَّت في وجوههم هنا بالجزائر أبواب العلم والمعرفة والتعليم، من طرف الإدارة الفرنسية الاستعمارية الخبيثة، والماكرة والحقودة.
و(الزيتونة) كما يعرف الجميع، كانت الدِّراسة فيها حيوِيَّة ونشيطة ومُنفتِحة، على عكس (القروِيِّين) بفاس، التي تُركِّزُ أساسًا على الفقهيَّات والشريعة، ولهذا اختار الشيخ المهدي تونس و(الزيتونة) البعيدة عنه، بدل فاس و(القروِيِّين) القريبة منه، وشذَّ على كثير من مُعاصريه في المنطقة، وهناك تثقَّف الشيخ المهدي، وطعَّمَ ثقافتَه بالدِّراسات الأدبية والفلسفية، وتعرَّف على عدَدٍ كبير من الرِّفاق والزُّملاء، الذين سيُصبِحون مثله علماء وأدباء وفقهاء وشعراء ومفكرين.
وعندما عاد الشيخ (المهدي) إلى الجزائر، اشتغل (مُفتِيًا) في (بِجاية) سنواتٍ طويلة، بفضل تفقُّهه وتضلُّعه في العلوم الشرعية، وتمكَّن مِن جمع ثروة هائلة من المخطوطات والرسائل والدِّراسات، مِنْ ضمنها: مكتبة (الباي القُلِّي)، التي كانت في حوزة إحدى العائلات هناك.
ومِنْ (بجاية) انتقل الشيخ (المهدي) إلى مدينة (الشلف) يُمارس نفس الوظيفة (مفتِيًا) إلى ما بعد اندلاع (ثورة أول نوفمبر 1954م)، ليلتجئَ خلالها إلى (المغرب الأقصى)، حتى استعادة الاستقلال الوطني، عام 1962م.
وبعد وفاة والده الشيخ (بوعبدالله)، يوم 4نوفمبر 1954م، خلفه في رئاسة الزاوية والطريقة الشيخ (عبد البر) حتى وفاته عام 1974م بالمدينة المنورة، فخلفه أخوه الشيخ (المهدي) [المُتحَدَّث عنه] في منصبه، واستمرَّت الزاوية في أداء رسالتها الدينية والتربويَّة، حيث يتِمُّ تحفيظ القرآن الكريم في جناح خاص، وتعليم العلوم العربية والشرعية واللغوية في جناح آخر للطلبة المسافرين، الذين يتكفَّل بهم وبِإطعامهم سُكَّان القرية، صباحًا ومساءً، حسب العادة الموروثة منذ تأسيس الزاوية، وقد أكَّدَ لنا الشيخ (المهدي) نفسه (رحمه الله) بعد وفاة شقيقه الشيخ (عبد البر) بأنه مضطرٌّ للتَّفرُّغ للزاوية، حتى تستمِرَّ في رسالتها الدينية والتربوية.
الشيخ المهدي الدَّارسُ والباحِث:
يمتاز الشيخ (المهدي البوعبدلي) عن غيره من شيوخ الطُّرُق.... ( ) وذلك بِفضْل دراسته الزيتونية، ومرافقته ومصاحبته للحركة الطُّلابية هناك سنوات طويلة، في إطار (جمعية الطلبة الجزائريين)، وسمح له منصبه كـ: (مفتي) في (بجاية)، و(الشلف)، أنْ يُوسِّع ثقافته أكثر، ويُرَقِّيها بِواسطة اقتنائه لِكُتُب التراث، مِنْ مخطوطات ورسائل وكُتُب وتقارير، فقهية وأدبية وتشريعية وأصولية ولغوية وتاريخية.
وبعد استعادة الاستقلال الوطني عام 1962م، عُيِّنَ عضوًا في (المجلس الأعلى الإسلامي)، وانكبَّ على البحث والدِّراسة، وجمع الكُتُب والمخطوطات والرسائل والجرائد والمجلاَّت، مِنْ مختلف المظانّ، وتفرَّغ للبحث والدِّراسة والكتابة، وتحقيق الكتُب والمخطوطات، ومِنْ حظه في هذا الميدان، وحظِّ غيره [ومنهم مُحدِّثكم هذا]، احتضان الباحث والوزير المرحوم مولود قاسم نايت قاسم له، وظهور مجلَّتَيْ: (الأصالة) و(الثقافة)، التي كانت السبب والوسيلة لِنشر المقالات والدِّراسات المختلِفة، والمُتخصِّصة خلال عقدَي (السبعينات) و(الثمانينات)، وانتشار ظاهرة عقد الملتقيات الفكرية الإسلامية، وغير الإسلامية عبر أرجاء مختلف المُدُن الجزائرية، والتي ساعدت الباحثين على الكتابة والإبداع والإنتاج الفكري والعلمي والأدبي، والمعرفي بِصفة عامَّة.
كيفَ تعرَّفْنا على الشيخ المهدي البوعبدلي ؟
وهنا لابدَّ من الإشارة إلى كيفية حصول التعارف بيننا وبين الشيخ (المهدي البوعبدلي)، ففي بداية عقد الستينات، بدأت تصِلُ إلينا أخبار نشاطاته الفكرية والثقافية، وكان أوَّلها محاضرته حول الأتراك العثمانيِّين، بِإحدى قاعات (سينيما) وهران، ولم نحضرها، وكانت القاعة هي (الإيسكوريال) في شارع الأمير عبد القادر، وشاهدناه لأول مرَّة في مقهى (الطايطون فيل) بالجزائر العاصمة، صحبة الباحثة والمفكِّرة المصرية القديرة الدكتورة (عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، التي صرَّحت آنذاك بأنها جاءت إلى الجزائر لِتَحُجَّ، وتُشاهِد بأمِّ عينها معجزات شهداء ومجاهدي (ثورة نوفمبر) [1954م ـ 1962م].
وبعد ذلك تعرَّفنا على بعضنا البعض، وتوثَّقَتْ الصِّلةُ بيننا خلال ملتقَيات الفكر الإسلامي، والملتقيات الوطنية الأخرى، التي كانت تُنَظَّم عبر ولايات الوطن، وقد حرص الأستاذ المرحوم مولود قاسم علينا أن نواصِلَ النشر في (مجلة الأصالة)، وكانت اهتمامات الشيخ المهدي منصبَّة على التاريخ والشعر الملحون أساسًا، تبعًا للتُّراث الذي جمعه في مكتبته الخاصَّة، ودرسه واطَّلَعَ عليه، وقد حكى لنا مِرارًا وتِكرارًا، كيف كان يجمع هذا التراث، وأنه كثيرًا ما يضطرُّ لبيع بعض حوائجه، وبعض القِطع الأرضية، لِيَشترِيَ بأثمانها المخطوطات والوثائق، وأنه عندما يُسافِر إلى (العاصمة) أو (قسنطينة) أو (بجاية) يتجوَّل في أحيائها العتيقة للبحث على هذه المخطوطات، وشراء ما يُمكِنُ شراؤه، وقد اشترى في (بجاية) مكتبة (باي قسنطينة) أحمد القلِّي، كما ذكرنا ذلك سابِقًا.
ولم يكتَفِ بهذا، فشرح لنا شخصِيًّا أسباب اهتمامه بالبحث الفكري والأدبي والثقافي بصفة عامَّة، وقال: « إنَّ شيوخ الزوايا في عهد الاستعمار الفرنسي، ليس لهم مجالٌ آخر غير تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم العلوم العربية، والدينية واللغويَّة، ومُمارسة السُّلوك الصوفي، وبعد الاستقلال الوطني عام 1962م، تجاوز الزمن هذا الاتِّجاه، وأصبح التعليم في أيدي الدولة الوطنية، تتكفَّلُ به وترعاه وتُوَجِّهه، وصار الإقبال على الزوايا محدودًا جِدًّا، وصار الناس لا يقبلون على النهج الصوفي الذي تجاوزه الزمن »، ولذلك رأى مِنْ واجبه أنْ يتَّجِه للبحث والدِّراسة والتأليف في التاريخ والتُّراث، ولإلقاء المحاضرات، والمشاركة في النَّدوات والملتقيات، ولقد أحسن صُنْعًا (على أيِّ حال) بعلمه هذا، فأفاد نفسَه وأمَّتَه وتاريخ بِلاده، وتُراثها الفكري والحضاري بصِفةٍ عامة، وأثار اهتمام الباحثين في الشِّعر، وبِشُعراء الملحون، أمثال: (ابن خلُّوف)، و(ابن السويكت)، و(ابن خميس)، وبدولة (مغراوة)، وحقَّق ونشر كِتابيْن مُهمَّيْن عن تاريخ وهران عام 1978م، هما:
(أوَّلاً): دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران، للشيخ القاضي محمد بن يوسف الزيَّاني.
(ثانِيًا): الثغر الجُماني في ابتسام الثغر الوهراني، للشيخ محمد بن سحنون الراشدي.
وتوَلَّت وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية طبعهما، في عهد المرحوم مولود قاسم، وقد أَطْلَعَنا على مقدِّمة (الثغر الجُماني) قبْلَ أنْ يُقدِّمَه إلى الطبع في منزله بـ: (بطيوة)، في إحدى زياراتنا له (رحمه الله)، وكان ظهور هذيْن الكتابيْن مِنَ الحوافِز التي دفعتْنا لِتحقيق ونشر كتاب (طلوع سعد السعود في أخبار وهران ومخزنها الأسود)، [ تأليف الأغا بن عودة المزاري، طُبِع بدار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى سنة1990م].
وعندما حملنا إليه نسخة من هذا الكتاب قبل وفاته بِعِدَّة أشهر، وكان مُلازِمًا للفِراش، سُرَّ كثيرًا، وضحك وتبسَّم وهو يحتضِنُ الكتاب، ولسانُ حاله يقول: « لقد حملتَ إليَّ ما يُؤنسني في هذا السرير الذي لا أستطيع مغادرته ».
ما أفادنا به الشيخ مِنْ وثائق:
قدَّم لنا الشيخ المهدي عددًا من الرسائل والوثائق، ومجموعة أوراقٍ لِمخطوطات عديدة، ما يزال البعض منها مركونًا عندنا لِصعوبة قراءتها بِسبب رداءة التصوير، وهناك ثلاثة وثائق لها أهمِّية خاصة هي:
(أوَّلاً): رسالة الشيخ عزيز بن الشيخ الحدَّاد، من (كاليدونيا الجديدة) بالمحيط الهادي، إلى أحد أقرِبائه في الجزائر، بتاريخ جوان 1877م، وقد تحصَّل عليها يوم أنْ كان مفتيًا بـ:(بجاية)، وأفادتنا هذه الرسالة الطويلة بِعَدَدٍ من الأشياء والأحداث التاريخية، ومنها عدد الجزائريين المَنفيين إلى (كاليدونيا الجديدة)، وعدد الأوروبيِّين، وبرنامج إطلاق سراحهم من هناك، وإعادتهم إلى أوطانهم.
(ثانيًا): رسالة الشيخ محي الدِّين والِد الأمير عبد القادر من (طرابلس الغرب)، إلى أحد أقاربه من (العبيد) الغرَّابة، قرب مدينة (سيق) عام 1828م، وعلَّق الشيخ المهدي عليها، وذكر بأنه بعثها من هناك، وهو في طريقه من الحج إلى الجزائر.
(ثالثًا): منشور الأمير عبد القادر الذي برَّر فيه محاربته للشيخ (التيجاني)، بـ: (عين ماضي) عام 1838م، ومن الصُّدف الحسنة أنَّنا عندما نشرنا هذا المنشور، ورسالة الشيخ محي الدِّين في (المجلَّة التاريخية التونسية)، وجدنا الشيخ (مصطفى بن التهامي) يتحدَّث على هذا المنشور في كتابه الذي ألَّفه في (قصر أمبواز)، مع الأمير عبد القادر، وحقَّقناه ونشرناه في (دار الغرب الإسلامي) عام 1995م، تحت عنوان: (سيرة الأمير عبد القادر وجهاده)، لأنَّ المنشور كما سلَّمه لنا الشيخ المهدي، لا يحمِلُ اسم صاحبه، إذ اكتفى فيه وقال: « هذه نسخة من رسالة الأمير»، وقد نشرنا هذا المقال في الكتاب الذي حقَّقناه تعميمًا للفائدة.
محاولة الشيخ المهدي لتنظيم مكتبته:
حاول الشيخ (المهدي) في السنوات الأخيرة مِنء عمره أنْ يُنظِّم مكتبته، ويُفهرِسها، وشرعَ في ترتيب الوثائق و[ترتيبها] (؟)، ولكنَّ المرض أنهكه على ما يبدو، وحدَّثنا بنفسه عن هذه المحاولة، وتشجيعِ الأستاذ (المرحوم) مولود قاسم له.
ولكن للأسف لم يُقَدَّر له أن يُتِمَّ ذلك، فبقِيَتْ كما شاهدناها في الرُّفوف، في إحدى زيارتنا له مع عددٍ مِنَ الباحثين مِن (المغرب) و(الجزائر).
وبالمناسبة، فقد حدَّثنا في إحدى المرَّات، عندما سمِع إشاعةً يقول بأنَّ إحدى الجِهات الرسمية تسعى لِتأميمها، وقال: « لو يحدُثُ أنْ تُقدِم هذه الجهة على هذا الفعل، فسأحرِقها، إذ كيف يصِحُّ أن أتعب على شيء وأبذُلَ فيه مالي وصِحَّتي وأوقاتي الثمينة، ثمَّ تأتي جهة ما لِتُؤَمِّمَها، وتُصادِرَها منِّي »، وهو على حقٍّ في ذلك مِن كلِّ الوجوه.
لك الحمد ربي وارث الأرض والسماء على كلِّ ما أوْلَيْتَ عبدَك مِنْ آلاء
ومِن تلمسان انتقل الشيخ بو عبد الله إلى (المنَاصْرة)، بالغرَّابة في (سيراط)، بين (بطيوة) و(سيق)، وشارك هناك لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، حتى يجمع مبلغًا من المال لِيُسافِرَ إلى مصر، لإتمام دراسته في (الأزهر الشريف)، فزوَّجه القوم هناك بامرأة منهم، وأسَّس عندهم معهدًا لِتعليم القرآن الكريم، والعلوم العربية والدينية واللغويَّة، واتَّصلَ بالشيخ (سيدي قدُّور بن سليمان) بمستغانم، وأخذ عنه الوِردَ والطريقة الدِّينية الصوفية وتخشَّع.
وعندما تجمَّعَ لديه نصيبٌ من المال، ذهب إلى شيخه بمستغانم وقدَّم له مبلغ أربعين (دورو) كـ: (زيارة)، وطلب منه دعوة الخير، واستأذنه في السفر إلى مصر للدِّراسة في الجامع (الأزهر)، فقال له: « عند الصباح يفتح الله »، وفي الصباح أعاد له نقودَه، وأضاف له عليها مبلغًا آخر مثله، وقال له: « عُدْ إلى أهلك، وتصدَّر هناك للتعليم والتدريس، فَبِلادُك بِحَاجَةٍ إليك، وكلُّ علوم الأزهر عندك »، فامتثل أمره، مِثلما امتثل ابن باديس لشيخه بالمدينة المنورة عندما أراد البقاء هناك، فطلب منه العودة إلى الجزائر.
عاد الشيخ بوعبدالله إلى (المناصرة)، ومنها انتقل إلى (بطيوة)، وفتح الله عليه، ووفَّقَه، فبنى بها زاوية وشرع في التعليم والتدريس للكِبار، وتحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصِّغار، ووَفَدَ عليه التلاميذ والطلبة من مختلف أنحاء الوطن، مِنْ (مليانة) شرقًا، إلى (الغَزَوات) غربًا، ومن (مَنْداس) إلى (مازونة)، وتخرَّجت على أيديه أجيال من الطلبة والعلماء والعارفين، خاصَّة أهالي (مليانة) الذين لهم الحظ الأوفر عنده.
وقد زاره في (بطيوة) الشيخ عبد الحميد بن باديس، وثلَّة من العلماء والصلحاء، وتحاوروا معه طويلاً، إلى أن وقفَ الشيخُ عبد الحميد بن باديس، وقال لهم: « كفى، الرَّجلُ عَالِمٌ، الرَّجلُ عالمٌ، الرَّجلُ عالِمٌ »، هكذا كرَّرها ثلاث مرَّات.
وقد أنشد الشيخ بوعبدالله قصيدة عصماء بليغة في هذه الزيارة الميمونة، نشرها الشيخ باديس في مجلة: (الشِّهاب)، على اثني عشر مقطعًا، في اثني عشر عددًا لبلاغتها.
وعندما خرج الشيخ البشير الإبراهيمي مِنْ منفاه في مدينة (أفلو)، أنشد فيه قصيدةً عصماء، وأرسلَها إليه، وبِما أنَّ (البصائر) كانت متوَقِّفَة، فلم ينشرها الشيخ البشير للأسف الشديد، ولا أحد يعرف مصدرها الآن.
وقد أكَّد لنا الشيخ (امْحَمَّد بن داود)، تلميذ الشيخ بوعبدالله الذي لازمه، وعلَّم في زاويته بـ: (بطيوة) اثني عشر عامًا، بأنَّ شيخه بوعبدالله له تراثٌ فكريٌّ وأدبيٌّ كبير، ووعَدَنا بالاطِّلاع عليه، والسعي في دراسته ونشره، وتمنَّى أن يتمَّ ذلك لإبراز دور العلماء، أو (جنود الخفاء)، في نشر العلم والفكر، والثقافة والتربية، والتعليم والأخلاق الفاضلة والطاهرة.
2) ميلاد الشيخ المهدي وتفقُّهه:
في هذا الجوِّ العلمي والفكريِّ والأدبيِّ، وفي عام 1907م وُلِدَ ونشأ الشيخ المهدي البوعبدلي، وتتلمذَ على أبيه مدَّة من الزمن، ثمَّ شدَّ الرِّحال إلى (مازونة)، وأخيرًا إلى (الزيتونة) في تونس، خلال عقد الثلاثينات، عِوَض (القرويِّين) بفاس.
وكان من ضمن رفاقه هناك الشيخ أحمد حماني، والشيخ علي المغربي، وآخرون كثيرون، في (الجامعة الزيتونية) التي كانت قِبلةَ للطلبة الجزائريين، بعد أنْ سُدَّت في وجوههم هنا بالجزائر أبواب العلم والمعرفة والتعليم، من طرف الإدارة الفرنسية الاستعمارية الخبيثة، والماكرة والحقودة.
و(الزيتونة) كما يعرف الجميع، كانت الدِّراسة فيها حيوِيَّة ونشيطة ومُنفتِحة، على عكس (القروِيِّين) بفاس، التي تُركِّزُ أساسًا على الفقهيَّات والشريعة، ولهذا اختار الشيخ المهدي تونس و(الزيتونة) البعيدة عنه، بدل فاس و(القروِيِّين) القريبة منه، وشذَّ على كثير من مُعاصريه في المنطقة، وهناك تثقَّف الشيخ المهدي، وطعَّمَ ثقافتَه بالدِّراسات الأدبية والفلسفية، وتعرَّف على عدَدٍ كبير من الرِّفاق والزُّملاء، الذين سيُصبِحون مثله علماء وأدباء وفقهاء وشعراء ومفكرين.
وعندما عاد الشيخ (المهدي) إلى الجزائر، اشتغل (مُفتِيًا) في (بِجاية) سنواتٍ طويلة، بفضل تفقُّهه وتضلُّعه في العلوم الشرعية، وتمكَّن مِن جمع ثروة هائلة من المخطوطات والرسائل والدِّراسات، مِنْ ضمنها: مكتبة (الباي القُلِّي)، التي كانت في حوزة إحدى العائلات هناك.
ومِنْ (بجاية) انتقل الشيخ (المهدي) إلى مدينة (الشلف) يُمارس نفس الوظيفة (مفتِيًا) إلى ما بعد اندلاع (ثورة أول نوفمبر 1954م)، ليلتجئَ خلالها إلى (المغرب الأقصى)، حتى استعادة الاستقلال الوطني، عام 1962م.
وبعد وفاة والده الشيخ (بوعبدالله)، يوم 4نوفمبر 1954م، خلفه في رئاسة الزاوية والطريقة الشيخ (عبد البر) حتى وفاته عام 1974م بالمدينة المنورة، فخلفه أخوه الشيخ (المهدي) [المُتحَدَّث عنه] في منصبه، واستمرَّت الزاوية في أداء رسالتها الدينية والتربويَّة، حيث يتِمُّ تحفيظ القرآن الكريم في جناح خاص، وتعليم العلوم العربية والشرعية واللغوية في جناح آخر للطلبة المسافرين، الذين يتكفَّل بهم وبِإطعامهم سُكَّان القرية، صباحًا ومساءً، حسب العادة الموروثة منذ تأسيس الزاوية، وقد أكَّدَ لنا الشيخ (المهدي) نفسه (رحمه الله) بعد وفاة شقيقه الشيخ (عبد البر) بأنه مضطرٌّ للتَّفرُّغ للزاوية، حتى تستمِرَّ في رسالتها الدينية والتربوية.
الشيخ المهدي الدَّارسُ والباحِث:
يمتاز الشيخ (المهدي البوعبدلي) عن غيره من شيوخ الطُّرُق.... ( ) وذلك بِفضْل دراسته الزيتونية، ومرافقته ومصاحبته للحركة الطُّلابية هناك سنوات طويلة، في إطار (جمعية الطلبة الجزائريين)، وسمح له منصبه كـ: (مفتي) في (بجاية)، و(الشلف)، أنْ يُوسِّع ثقافته أكثر، ويُرَقِّيها بِواسطة اقتنائه لِكُتُب التراث، مِنْ مخطوطات ورسائل وكُتُب وتقارير، فقهية وأدبية وتشريعية وأصولية ولغوية وتاريخية.
وبعد استعادة الاستقلال الوطني عام 1962م، عُيِّنَ عضوًا في (المجلس الأعلى الإسلامي)، وانكبَّ على البحث والدِّراسة، وجمع الكُتُب والمخطوطات والرسائل والجرائد والمجلاَّت، مِنْ مختلف المظانّ، وتفرَّغ للبحث والدِّراسة والكتابة، وتحقيق الكتُب والمخطوطات، ومِنْ حظه في هذا الميدان، وحظِّ غيره [ومنهم مُحدِّثكم هذا]، احتضان الباحث والوزير المرحوم مولود قاسم نايت قاسم له، وظهور مجلَّتَيْ: (الأصالة) و(الثقافة)، التي كانت السبب والوسيلة لِنشر المقالات والدِّراسات المختلِفة، والمُتخصِّصة خلال عقدَي (السبعينات) و(الثمانينات)، وانتشار ظاهرة عقد الملتقيات الفكرية الإسلامية، وغير الإسلامية عبر أرجاء مختلف المُدُن الجزائرية، والتي ساعدت الباحثين على الكتابة والإبداع والإنتاج الفكري والعلمي والأدبي، والمعرفي بِصفة عامَّة.
كيفَ تعرَّفْنا على الشيخ المهدي البوعبدلي ؟
وهنا لابدَّ من الإشارة إلى كيفية حصول التعارف بيننا وبين الشيخ (المهدي البوعبدلي)، ففي بداية عقد الستينات، بدأت تصِلُ إلينا أخبار نشاطاته الفكرية والثقافية، وكان أوَّلها محاضرته حول الأتراك العثمانيِّين، بِإحدى قاعات (سينيما) وهران، ولم نحضرها، وكانت القاعة هي (الإيسكوريال) في شارع الأمير عبد القادر، وشاهدناه لأول مرَّة في مقهى (الطايطون فيل) بالجزائر العاصمة، صحبة الباحثة والمفكِّرة المصرية القديرة الدكتورة (عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، التي صرَّحت آنذاك بأنها جاءت إلى الجزائر لِتَحُجَّ، وتُشاهِد بأمِّ عينها معجزات شهداء ومجاهدي (ثورة نوفمبر) [1954م ـ 1962م].
وبعد ذلك تعرَّفنا على بعضنا البعض، وتوثَّقَتْ الصِّلةُ بيننا خلال ملتقَيات الفكر الإسلامي، والملتقيات الوطنية الأخرى، التي كانت تُنَظَّم عبر ولايات الوطن، وقد حرص الأستاذ المرحوم مولود قاسم علينا أن نواصِلَ النشر في (مجلة الأصالة)، وكانت اهتمامات الشيخ المهدي منصبَّة على التاريخ والشعر الملحون أساسًا، تبعًا للتُّراث الذي جمعه في مكتبته الخاصَّة، ودرسه واطَّلَعَ عليه، وقد حكى لنا مِرارًا وتِكرارًا، كيف كان يجمع هذا التراث، وأنه كثيرًا ما يضطرُّ لبيع بعض حوائجه، وبعض القِطع الأرضية، لِيَشترِيَ بأثمانها المخطوطات والوثائق، وأنه عندما يُسافِر إلى (العاصمة) أو (قسنطينة) أو (بجاية) يتجوَّل في أحيائها العتيقة للبحث على هذه المخطوطات، وشراء ما يُمكِنُ شراؤه، وقد اشترى في (بجاية) مكتبة (باي قسنطينة) أحمد القلِّي، كما ذكرنا ذلك سابِقًا.
ولم يكتَفِ بهذا، فشرح لنا شخصِيًّا أسباب اهتمامه بالبحث الفكري والأدبي والثقافي بصفة عامَّة، وقال: « إنَّ شيوخ الزوايا في عهد الاستعمار الفرنسي، ليس لهم مجالٌ آخر غير تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم العلوم العربية، والدينية واللغويَّة، ومُمارسة السُّلوك الصوفي، وبعد الاستقلال الوطني عام 1962م، تجاوز الزمن هذا الاتِّجاه، وأصبح التعليم في أيدي الدولة الوطنية، تتكفَّلُ به وترعاه وتُوَجِّهه، وصار الإقبال على الزوايا محدودًا جِدًّا، وصار الناس لا يقبلون على النهج الصوفي الذي تجاوزه الزمن »، ولذلك رأى مِنْ واجبه أنْ يتَّجِه للبحث والدِّراسة والتأليف في التاريخ والتُّراث، ولإلقاء المحاضرات، والمشاركة في النَّدوات والملتقيات، ولقد أحسن صُنْعًا (على أيِّ حال) بعلمه هذا، فأفاد نفسَه وأمَّتَه وتاريخ بِلاده، وتُراثها الفكري والحضاري بصِفةٍ عامة، وأثار اهتمام الباحثين في الشِّعر، وبِشُعراء الملحون، أمثال: (ابن خلُّوف)، و(ابن السويكت)، و(ابن خميس)، وبدولة (مغراوة)، وحقَّق ونشر كِتابيْن مُهمَّيْن عن تاريخ وهران عام 1978م، هما:
(أوَّلاً): دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران، للشيخ القاضي محمد بن يوسف الزيَّاني.
(ثانِيًا): الثغر الجُماني في ابتسام الثغر الوهراني، للشيخ محمد بن سحنون الراشدي.
وتوَلَّت وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية طبعهما، في عهد المرحوم مولود قاسم، وقد أَطْلَعَنا على مقدِّمة (الثغر الجُماني) قبْلَ أنْ يُقدِّمَه إلى الطبع في منزله بـ: (بطيوة)، في إحدى زياراتنا له (رحمه الله)، وكان ظهور هذيْن الكتابيْن مِنَ الحوافِز التي دفعتْنا لِتحقيق ونشر كتاب (طلوع سعد السعود في أخبار وهران ومخزنها الأسود)، [ تأليف الأغا بن عودة المزاري، طُبِع بدار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى سنة1990م].
وعندما حملنا إليه نسخة من هذا الكتاب قبل وفاته بِعِدَّة أشهر، وكان مُلازِمًا للفِراش، سُرَّ كثيرًا، وضحك وتبسَّم وهو يحتضِنُ الكتاب، ولسانُ حاله يقول: « لقد حملتَ إليَّ ما يُؤنسني في هذا السرير الذي لا أستطيع مغادرته ».
ما أفادنا به الشيخ مِنْ وثائق:
قدَّم لنا الشيخ المهدي عددًا من الرسائل والوثائق، ومجموعة أوراقٍ لِمخطوطات عديدة، ما يزال البعض منها مركونًا عندنا لِصعوبة قراءتها بِسبب رداءة التصوير، وهناك ثلاثة وثائق لها أهمِّية خاصة هي:
(أوَّلاً): رسالة الشيخ عزيز بن الشيخ الحدَّاد، من (كاليدونيا الجديدة) بالمحيط الهادي، إلى أحد أقرِبائه في الجزائر، بتاريخ جوان 1877م، وقد تحصَّل عليها يوم أنْ كان مفتيًا بـ:(بجاية)، وأفادتنا هذه الرسالة الطويلة بِعَدَدٍ من الأشياء والأحداث التاريخية، ومنها عدد الجزائريين المَنفيين إلى (كاليدونيا الجديدة)، وعدد الأوروبيِّين، وبرنامج إطلاق سراحهم من هناك، وإعادتهم إلى أوطانهم.
(ثانيًا): رسالة الشيخ محي الدِّين والِد الأمير عبد القادر من (طرابلس الغرب)، إلى أحد أقاربه من (العبيد) الغرَّابة، قرب مدينة (سيق) عام 1828م، وعلَّق الشيخ المهدي عليها، وذكر بأنه بعثها من هناك، وهو في طريقه من الحج إلى الجزائر.
(ثالثًا): منشور الأمير عبد القادر الذي برَّر فيه محاربته للشيخ (التيجاني)، بـ: (عين ماضي) عام 1838م، ومن الصُّدف الحسنة أنَّنا عندما نشرنا هذا المنشور، ورسالة الشيخ محي الدِّين في (المجلَّة التاريخية التونسية)، وجدنا الشيخ (مصطفى بن التهامي) يتحدَّث على هذا المنشور في كتابه الذي ألَّفه في (قصر أمبواز)، مع الأمير عبد القادر، وحقَّقناه ونشرناه في (دار الغرب الإسلامي) عام 1995م، تحت عنوان: (سيرة الأمير عبد القادر وجهاده)، لأنَّ المنشور كما سلَّمه لنا الشيخ المهدي، لا يحمِلُ اسم صاحبه، إذ اكتفى فيه وقال: « هذه نسخة من رسالة الأمير»، وقد نشرنا هذا المقال في الكتاب الذي حقَّقناه تعميمًا للفائدة.
محاولة الشيخ المهدي لتنظيم مكتبته:
حاول الشيخ (المهدي) في السنوات الأخيرة مِنء عمره أنْ يُنظِّم مكتبته، ويُفهرِسها، وشرعَ في ترتيب الوثائق و[ترتيبها] (؟)، ولكنَّ المرض أنهكه على ما يبدو، وحدَّثنا بنفسه عن هذه المحاولة، وتشجيعِ الأستاذ (المرحوم) مولود قاسم له.
ولكن للأسف لم يُقَدَّر له أن يُتِمَّ ذلك، فبقِيَتْ كما شاهدناها في الرُّفوف، في إحدى زيارتنا له مع عددٍ مِنَ الباحثين مِن (المغرب) و(الجزائر).
وبالمناسبة، فقد حدَّثنا في إحدى المرَّات، عندما سمِع إشاعةً يقول بأنَّ إحدى الجِهات الرسمية تسعى لِتأميمها، وقال: « لو يحدُثُ أنْ تُقدِم هذه الجهة على هذا الفعل، فسأحرِقها، إذ كيف يصِحُّ أن أتعب على شيء وأبذُلَ فيه مالي وصِحَّتي وأوقاتي الثمينة، ثمَّ تأتي جهة ما لِتُؤَمِّمَها، وتُصادِرَها منِّي »، وهو على حقٍّ في ذلك مِن كلِّ الوجوه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق