***قبل الحديث عما يسمونه ( الأزمة البربرية ) يجب أن نطل ولو بإيجاز على منظومة القيم الجزائرية أثناء الخمسينية الأولى من القرن العشرين ، حيث فشلت الثورات الوطنية الشعبية التي أعقبت الإحتلال الفرنسي لبلادنا في مجملها ، فهي لم تحقق المنشد المطلوب ، ولم تمنع التوسع الإستدماري الفرنسي الذي احتل البلاد تدرجيا بانتهاجه لأسلوب سياسي تفريقي سهل عليه ابتلاع البلاد بعبادها ، وهو ماتم له فعلا طيلة السبعين سنة من الإحتلال ، وحاول الجزائريون تغيير أسلوب المقاومة ،فجعلوها سياسية ، فظهر على مسرح الحدث أول حزب سياسي أسسه الأمير خالد المتشبع بقيم الثورة الفرنسية ( إثر تكونه في كلية سنسير العسكرية الفرنسية) يدعوا للمساواة ، والذي تطور إلى تيار فكري يساري لعب دورا هاما في الحركة الوطنية على يد فرحات عباس ومحمد بن جلون وغيرهما ، وهو تيار علماني مفرنس أكثرهم من خريجي الجامعات والمعاهد الفرنسية ، يؤمنون بفكرة إمكانية اندماج الجزائريين في المجتمع الأورباوي ، وهو سلاح بالإمكان توظيفه ضد الإستعمار للحصول على الحقوق المدنية .
* في حين عمل تيار آخر مُشكل من الجماعة الإسلامية في تكوين ما يعرف ( بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ) مباشرة بعد احتفال المستدمر بمئاوية احتلاله للجزائر 1930 ، وهي مُشكلة من خيرة علماء الدين الذين استلهم جلهم علمه وفكره من المدارس والجامعات المشرقية ، وتأثروا أيما تأثير بأفكار جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، والإخوان المسلمين الإصلاحية ، وعملوا على تجسيدها في أرض الجزائر بنغمة نشاز في اتجاهها (القومي العربي) ، وهو ما جعلهم يتنكرون في الغالب لتراث الأجداد ، ويعتقدون بأن تاريخنا يبدأ بانتشار الإسلام ،أما ما سبقه فهو دهماء وجهالة لا يجب الخوض فيه لأنه فعل وثني مُشرك ؟
**الميزة التي رافقت الحركة الوطنية الجزائرية هي بروز اتجاهين متنافرين اتجاه إصلاحي إسلامي قومي ، وآخر علماني فرنكوفوني ، يوحدهم الأصل و الوطن الجزائري ، و تشتتهم اللغة والثقافة ، فكان انقسام الجزائريين في حقيقته ليس إثنيا سلاليا ، بقدر ماهو انقسام حضاري ثقافي ، منهم من تماهى مع الشرق ( الشاوية) ، ومنهم من تماهى مع الغرب ( القبائل) ، وهو ما أحدثا نشازا واختلافا طبيعيا في صفوف الحركة الوطنية ، وهي ظاهرة صحية لو اتصف الجميع بالتسامح مع الآخر ، وعولجت القضايا الوطنية المفصلية بترو وعقلانية بما يعود بالنفع على الجميع.
** أكثر الأفكار الزاحفة على بلادنا في هذه الفترة مرافقة لحركة الإصلاح هي فكرة ( القومية العربية ) التي رُبطت بالدين ربطا مُحكمًا ، فأصبح الإسلام لا يأتي إلا مقرونا بها ، وهو ما جعل غالبية المثقفين وأنصافهم يعتقدون جازمين بأن العروبة هي الإسلام ، متناسين أن أسفين العروبة صنعهُ عرب المشرق المسيحيين ، وطبل له المغاربة الأمازيغ عن سذاجة وحسن نية ، وحسبوا أنهم عربا أكثر من عرب الجزيرة ، وها هو ابن باديس زعيم حركة الإصلاح الجزائري الأمازيغي الصنهاجي يردد بقوله :شعب الجزائر مسلم *** وإلى (العروبة ينتسب ؟) ، وهذا لا أرضية َ له شرعًا ولا عقلا ، وهو ما يجعلُ اللبيب حائر ومستفسر عن العلائق الموجودة بين الأرض ، والدين ، واللغة ، والجنس ، وهل هذا الدين الإسلامي غرضه الإيمان ؟؟، أم أنه حلَّ ببلادنا من أجل إزالة الهويات الأصلية ، وقمع لغاتها ، ولجم عاداتها وتقاليدها وأسمائها ، بجعلها عربية قحة وما هي كذلك ؟!!! .، وهل نحن عرب فعلا ؟ وهل يجوز أن نكون عربا ؟ وما العلاقة بين قومية العرب ؟ وقومية الأمازيغ ؟ وهل الإسلام الذي نؤمن به لا يكتمل إلا بعد أن يُصيرنا عربا وإن اختلفنا قوميا ؟ لماذا نجحت قوميات أخرى مسلمة كالترك والفرس في تبيان ذاتيتها ، وذُبنا نحن في غيرنا ؟؟ وباسم سوء فهم الإسلام أوتفسيره من منطلق الهوى .
** التيار الإستقلالي الوطني بزعامة ( مصالي الحاج ) الذي ناضل باسم (الشمال الإفريقي ) ثم( حزب الشعب ) ثم باسم ( حركة انتصار الحريات الديموقراطية ) يضم أطيافا عدة متناغمة ظاهرا في مطلب الإستقلال ، إلا أنها مختلفة في التوجه والآليات ، ففيها شيء من حركة الإصلاح ، وشيء من( حركية الإدماجيين خريجي الجامعات الفرنسية ) ، وطبيعي أن تختلف الرؤى ، وتتضارب الأفكار بشأن بعض القضايا الجوهرية الدخيلة على بنية مجتمعنا ، كالفرنسة والعروبة المؤدلجان؟ .وهذا الحزب ( حزب الشعب ) بقيادته ، هو حزب شمولي ممركز مشبع (بفكرة اليعقوبية الفرنسية) وهو ما يتعارض مع المعطى اللساني والثقافي والتاريخي لبلادنا ، فإن كان التوجه الأساس ( الإستقلال الوطني ) منذ تأسيس النجم مرضيا ، غير أن أفكارا جديدة بدأت تتصارع داخل الحزب سرا وعلنا ، وقد لعب أمازيغ ( منطقة القبائل ) دورا رياديا في التفوق النضالي بفضل عودة المهاجرين بعد الحرب الكونية الثانية ، وكان تنظيم الحزب في هذه المنطقة (القبائل ) أفضل حالا مما هو في غيره من أقاليم البلاد الجزائرية [1]، و قد كان انغراسهم في أقاليم أخرى قد ساعد على اتساع قاعدة المنخرطين في الحزب ، فقد أشار آيت أحمد في كتابه [2] أن عدد مناضلي حزب الشعب الجزائري في منطقة يفوق نظيره في باقي أقاليم الوطن ؟ وهو ما شجع الطالب ( بناي واعلي) سنة 1945، من لجنة تنظيم حزب الشعب الجزائري ، بطلب توحيد كل المنطقة التي تتكلم اللغة الأمازيغية في إقليم واحد. ودعم اقتراحه بالإشارة إلى الروابط البشرية واللغوية القائمة بين السكان إلا أن القيادة رفضت، وبدأ إشهار تهمة الإقليمية القبائلية. و هو ما عرض الجهة للقمع والمتابعات قصد التصفية الجسدية ،وتطورالأمر إلى تشديد الخناق على الكُتاب الأمازيغ في مجلة ( مغرب العرب ) رغم أنهم كانوا يشكلون الأغلبية في لجنة تحريريها ، هذه المجلة التي كان يقودها ( بن خدة ) الذي كانت اشترطاته المذهبية والسياسية كبيرة ومجحفة ولا تطاق ، في وجه الذين حرصوا على إعطاء النزعة القومية بعدا عقلانيا ، ولكونهم استهجنوا فكرة اختزال الجزائر في العروبة والإسلام ، أ ونقموا من السعي الواضح لتقديس رئيس الحزب بدواع مختلفة ، وازداد ت صدمة هؤلاء الطلبة عندما رفض (بن خدة) نشر مقال لهم فيه تحية إكبار وتقدير وإعجاب لانتصارات (ماوتسي تونغ )في الصين، بحجة أن الشركاء الطبيعيين للحزب هم في المعسكر الآخر، "الصين الوطنية".
**أما فرنسة المجتمع الجزائري ، فقد بدأت منذ أن وطأ الفرنسيون أرض الجزائر ، واتسع نطاقها حتى جعلوا الجزائر قطعة من فرنسا ، فلعبت الكنيسة دورها في التنصير والفرنسة على يد ( الكاردينال لا فيجري ) [3] ،و حُرم الجزائريون من لغة القرآن التي استُبدلت بالفرنسية ، وتشكل تدريجيا مجتمع مشابه للمجتمع الغربي خاصة على مستوى النخب ، فكانت وجهتهم فرنسا بحكم التبعية والخضوع ، فهي المتنفس والمنفذ الفكري والحضاري للجزائريين ، حيث رحابة المعرفة الإنسانية بتشعباتها و ابداعاتها المختلفة .
** عروبة الجزائر فسرها ابن باديس بأنها عروبة حضارية ولسانية وليست إثنية ، غير أن هذه ( العروبة ) تسمية زئبقية متعددة الفهوم ، تفسر تبعا لمستوى المتلقي ، فقد تُفهم فهمًا إثنيا ، وقد تفهم على أنها تعني الناطقين باللغة العربية ، وقد يُفهم منها الأقوام المتشبعة بالحضارة العربية الإسلامية ، التي هي في حقيقتها ( حضارة إسلامية) لأن العرب هم جزء يسير في بنائها ، غير أن حزب الشعب تبنى الطرح العروبي ، وطبل له الجمع الذي يحس بعروبته بفعل طموسات طالت جينولوجيا الوطن منذ أزمان بعيدة ، غذتها اديولوجية مشرقية تبحث لنفسها عن الإستقواء ،والتنفيس، والإستحواذ،وهو ما اتضح إثر زيارة (محمد عبده) للجزائر عام 1905، وما تلاها من قدوم (شكيب أرسلان ) ، الذي بعثا حركية ودينامية لصالح القومية العربية الإسلامية ، ويُعد مصالي من المتأثرين (بفكرأرسلان ) في الإنقلاب على الماركسية لحساب الوطنية التحررية ، وكانت العروبة صداحة مؤثة ومستأثرة ، خاصة أيام ثورة الضباط الأحرار في مصر 1952 ،في كل بلاد الشمال الإفريقي الذي وجد تجاوبا صريحا من قبل أهليها ، بسبب حركة دينامية سابقة تمزج بين ( القومية والإسلام ) أمثال (محمد الطاهر بن عاشور التونسي ) ، و(ابن باديس الجزائري ) ، و (علال الفاسي المغربي) ، لإرواء عطش اجتماعي للإسلام واللغة العربية ، و هؤلاء الثلاثة كانوا متعصبين للعروبة ،يمكن عدهم من جهابذة القومية العربية في بلاد المغرب الكبير ، وطبيعي أن تجد هذه القومية ردات فعل في المجتمع الجزائري على لسان النخب ، فكانت المقارعة والمعارضة التي وُصفت ( بالأزمة البربرية 1949 ) .
*** الأزمة البربرية ، أم الأزمة العروبية ؟ .
أنا في الحقيقة لا أوافق على هذا المصطلح ، فالأزمة في حقيقتها أزمة (تخص العروبة ) وليس الأمازيغية ، والقضية شبيهة بأسطورة الغراب الذي رأى زميلا له من نوعه ، فهاله ما وجد في وجه زميله المحترم من ( سواد كالح) ، إنه امتعض فيما شاهد في وجه زميله من سواد ، ونسي أنه لو نظر في المرآة لشاهد سوادا في وجهه يفوق سواد وقبح ما عند زميله ، فمشكلة بعضنا أنه يرى قبح أخيه ويتناسى القبح الذي فيه ، ومعضلة العروبة والأمازيغية مطروحان للمناقشة داخل أطر حزب الشعب الجزائري بعد المد العروبي الذي طال هذا الحزب ، وطبيعي أن يتساءل المناضلون عن حقيقة التسمية ، وأبعادها واستراتيجيتها ، فأقدمت ( فيدرالية فرنسا ) لحزب الشعب على مناقشة قضية ( الجزائر العربية الإسلامية ) بطريقة ديمقراطية في اجتماع رسمي واستفتاء نزيه استهجن هذه التسمية وسجبها بعد استفتاء لإعضائه حول الشأن ،كانت نتيجته لصالح فكرتهم الجزائرية بنتيجة 28 صوتا من أصل 32 ، ورسموا لها بديلا مستساغا يرضي الجميع وهو ( الجزائر الجزائرية ) دون الغوص في الجانب القومي الذي يشتت أكثر مما يُوحد ، وقد أوضح المناضل الأمازيغي حسين آيت أحمد ردا عن رغبة الحزب في معرفة موقفه من الإشكال بأنه [لا وجود لمؤامرة بربرية ، بل هناك استغلال لسلوكات علي يحي ( رشيد) في باريس ، و أن الأزمة سببها عجز الحزب في التكفل بمسألة "الهوية الجزائرية " بكل مكوناتها، لأن هناك من يفضل أن تكون الجزائر فرنسية ،على أن تكون الجزائرأمازيغية .[4] ، وهو ما يعني أن منطقة القبائل ألصقت بها صفة (البربريزم ) لإضعاف جهدها النضالي وإقصاء كل اجتهاد مهما كان وطنيا تحت طائل هذه الصفة المشينة ، فنحن جميعا باختلافاتنا ، أبناء وطن جزائري واحد ، لا تهمنا الأصول الإثنية ، ولا اللغات المتداولة ، ولا الديانة المتبعة ، وهو ما يعني توجه ديمقراطي في إطار دولة مدنية لا تقصي أحدا .
**حزب الشعب القبائلي (P.P.K).
يبدو أن نواة هذا التوجه القومي الأمازيغي برز حسب ما أوضحه مصالي الحاج نفسه داخل هياكل حزب الشعب، بفضل تكتل (الأمين دباغين وبودة ) اللذان نشرا الفكرة في جموع مهاجري فرنسا ، الفكرة التي ذاع صيتها وانتشرت كانتشار النار في الهشيم ، وانتجت ما يعرف بحزب الشعب القبائلي ( P.P.K) ، ولعل الوثائق المكتشفة عند أحد الفاعلين (بناي واعلي) في وهران تُعد دليلا قطعيا على سريان هذا التوجه .
ففي فرنسا كان نشاط ( رشيد علي يحي )[5] قائما ومتميزا ، وعند إكتشاف الأمر ، سعى رئيس الحزب إلى حل فدرالية فرنسا ،واستبدالها بكومندوس من أمازيغ آخرين موالين له ومعتدلين وهم (بلقاسم راجف، والنقيب سعيد صادوق ، وشوقي مصطفاي)، للسيطرة على الوضع. لكن بعد مواجهات شاقة وصعبة كادت أن تؤدي إلى انزلاقات ، وينتشر هذا التيار ذو المطلب الهوياتي الأمازيغي في كل الجهات التي يتواجد فيها مهاجرون من القبائل الصغرى والكبرى خاصة الضواحي الباريسية، وكان أكثرالمؤثرين الفاعلين فيها هم من خريجي دار المعلمين ببوزريعة (ولد حموده ،وعمر أوصديق)، ومنهم من هو ارستقراطي قانوني يخلط بين الهوية الوطنية والدين ( كعلي يحي رشيد ) .
**الحركة الأمازيغية تفاعلت مع المهاجرين بعمق أكثر مما هو في أرض الوطن ، حيث اتسمت بنوع من التستر والسرية ، وتفاعلت على مستوى النخب دون العامة التي لم يكن في مقدورها فهم مسائل الهوية فَهمًا مركزًا واضحًا جليًا، بسبب انتشار الأمية بين صفوفهم ، فالعلمانيون هم الذين فجروا الثورة وقادُوها ، فغالبيتهم من خريجي المدارس الفرنسية ومستلهمي فكرهم ونهجهم الحياتي ، بائحاءاته اليسارية الماركسية ، ومن قيم فرنسا الشيوعية التي لها قدمٌ في الجزائر ، وهي نظرة فسرها رئيس الحزب الشيوعي أثناء زيارته للجزائر في 1939، [6] مع إعجاب الأمازيغ من قدرة الإتحاد السوفياتي التعامل الإيجابي ( الإستقلال الذاتي) مع جمهورياته الإسلامية ،رغم تعدد اثنياتها ولغتاها وثقافاتها ( أذربيجان ، أوزباكستان طاجاكستان ، ومن ثمار تلك الأفكار الإعتقاد بأن العرب المسلمين حلوا غزاة ، وفرضوا ثقافتهم ولغتهم عندنا بقوة الحديد والنار ،وهي أفكار كان بالإمكان خلخلتها وتفنيدها والرد عليها بعقلانية وعلمية ، لا بأساليب الهجر والمقاتلة . ويستمر الشنآن بين الجزائريين فيما بعد في مجموع اقصاءات فيما بينهم ،تجلى في تهميش جمعية العلماء الجزائريين في شخص رئيسها البشير الإبراهيمي في بدايات الإستقلال ، و محاولة طمس الهوية الأمازيغية بكل عنف وقسوة من طرف نظام أحمد بن بلة الذي داس عن قيم نوفمبر متأثرا بجمال عبد الناصر في مناحي متعددة منها تنكره المطلق لهوية البلاد الأصلية في خطاب له بتونس قائلا ، (الجزائر عربية ، عربية ، عربية ، ثلاث مرات ) وما تلاه من شد هوياتي في صائفة 1962 لم نتخلص منه إلا بظهور أزمة الحدود مع المغرب ، التي أعادت اللحمة للبلاد والعباد ، واستمر الكبت الهوياتي ضد الأمازيغية طيلة حكم بن بلة بتسنجاته ، وتواصل مديدا في عهد الهواري بومدين الذي انتهج أسلوب التعريب القسري على أوسع نطاق ، وبنهايه عهده عرفت البلاد أحداث ( الربيع الأمازيغي في 20 أفريل 1980) بمطلب أساس هو الإعتراف الرسمي بالأمازيغية ، تلاه ربيع ثاني أكثر دموية في 2001 ، أثمر أخيرا بتوطين اللغة الأمازيغية في وطنها ، لكن دون ترسيمها ، وهو ما يعني أن النضال سيستمر ..... ، وأن الإحتقانات وأخطاء التعامل مع قضايا الهوية قابل لإدخال البلاد في أتون حروب متكررة ،أو جنوح راديكالي مقيت مثل ما فعلته قيادة ال(M.A.K ) [7] ، بسبب غياب نظام .سياسي متفهم ، قادر على معالجة الإشكال بروية وحكمة وحسن تقدير وتدبر .
وأنا أقرأ عن هذه الأزمة ( البربرية ) ،الأزمة القديمة الجديدة ، أدركت مدى جسامة الإشكال ، وعرفت أن تشنجات الحاضر كان لها غرس ما ضوي لعبت فيه الأدلجة دورها في محاولة الإستقطاب ، فكل أمة تريد أن تكون النواة المحورية والباقي دوَّارُون حولها ، وهو ما يشبه علاقة النواة بالإلكترونات الحوامة حول مركزها ، تارة باسم الدين ، وأخرى باسم اللغة ، ثم باسم الهيمنة أو الشرعية الثورية ، أ و قانون القوة ، في إطار شمولي لا يراعي حقوق الأقليات .
وأنا أقرأ حول الموضوع سجلت عدة انطباعات واستنتاجات سأحاول ايجازها وتوضيحها فيما يأتي :
** أرى بأن المطلب الهوياتي الأمازيغي ، ما كان أن يكون لولا بروز أنياب ومخالب العروبية في شمال افريقيا بشكلها الجديد خلال العقد الثاني من القرن التاسع عشر ، بانعقاد أول مؤتمر للقومين العرب في باريس 1913 مناوئا للعثمانية ، وهو ما يعني أن المطلب الأمازيغي هو محاكاة لفعل عربي سابق في ثورتهم العربية الكبرى ضدالخلافة العثمانية ، أم أن مبدأ (حلال علينا علينا وحرام عليكم ) هو المنشد .
** المطلب الهوياتي الأمازيغي أصيل ، وهو ردة فعل طبيعية على طموسات أطالته بفعل الإستيلاب الثقافي المشرقي أحيانا ، والغربي أخرى .
** سكان الجزائر مغاربيون متميزون عن المشرق ، وهو ما يعني بأن ( العروبة والفرنسة ) وجهان لعملة واحدة ، فلم نحض بصفة (العروبة )هذه
إلا تحت وطأ الإديولوجية البعثية ، فكُتب التراث الإسلامية تذكُرنا با سم ( بلاد البربر )( المغرب الإسلامي ) و(المغرب الأوسط ) ، وبلاد (المغرب ) أو (المغارب) دون وصمها با( العربية ) .
** مصطلح البربريزم حق أريد به باطل ، وهو شبيه بأسطورة بأسطوانة ( الظهير البربري 16 ماي 1930 ) في منطقة الريف بالمغرب الأقصى ،الذي جوبه بآيات اللطيف ، والذي هو صنيع فرنسا والملك محمد الخامس .
** الوافدون قل عددهم أو كثُر ، هم المطالبون بالتضحية بتبني هوية البلاد المستقبلة ( كثير من الأمازيغ رافقوا المد الفاطمي في مصر والشام والحجاز ، ولهم صولات وجولات ، لكن ليس بمقدورهم جعل بلاد العرب بلاد أمازيغية كأن يقول ( شبه جزيرة الأمازيغ ) .
** كثير من فقهائنا وعلماء ديننا أخلطوا في فهم العلائق بين الإثنيات ، واللغات ، والديانات ، فمن حق الأعاجم الإحتفاظ بتراثهم وتسمياتهم وألسنتهم ، لأن الإسلام يصحح العقيدة ولا يلغي التنوع ، وهو ما وقع عند أقوام عديدة مثل الترك والفرس والبنغال والأندونسيين و الماليزيين الذين حافظوا جميعهم على هوياتهم الأصلية .
** الإختلاف بين الجزائريين ليس إثنيا ولا دينيا ، ولا مذهبيا ، وإنما هو حضاري ولساني ثقافي ، فمولود معمري و كاتب ياسين وعلي يحي رشيد أمازيغيون ذوو ثقافة فرنكوفونية نهلوا من اديولوجيات الغرب وتعلمنوا ، وابن باديس ، و أحمد بن نعمان ، وعثمان سعدي .... أمازيغيون كذلك ، طبلوا للقومية العربية عن حسن نية ، أوإسترزاقا من موائد القذافي ومدرسة البعث العربي ، ببلادة وسذاجة دون أن يدركوا مخاطر ذلك .
** القومية الجزائرية ، والأمة الجزائرية ، ظاهرة صحية تستند إلى المعطى الجغرافي ( الوطن ) الثابت أمام متغيرات عدة .
** ربط العروبة بالإسلام نفاق ، ومفهوم العربية الثقافية هرطقة ، لأن ثقافتي الأصلية أصيغُها بأي لغة شئت ، ((تكلم بأي لغت شئت ، وتدين بأي دين أردت ، فأنت أبن أبيك ووطنك )) ، وكثيرا ما ينسب القماقم ُ إلى أوطانهم على شاكلة ( علي الحمامي ، مبارك الميلي ، أحمد الونشريسي ، عبد الواحد المراكشي .. الطاهر الوغليسي ...الخ .
** العروبة مصطلح زئبقي استحواذي متعدد الفهوم ، يستعمل تبعا لرغبة المستعمل ، فأحيانا إثنيه ، وأخرى لغة ، وثالثا ثقافة وحضارة ، ورابعا هي جار( قاطرة) والإسلام مجرور ( عربة) ، فلهذا يُمكن عدها من المفاهيم العنصرية الخبيثة التي تبعثُ أتون القوميات المترصدة والمتماهية من باب (كما تدين تدان ) .
** لا أدري ما سيكون موقف عرب الجزائر من القول ( الجزائر أمازيغية ) ، فقد يتطرف بعضهم نفس التطرف الذي بلغه بعض الأمازيغ ، وقد يفعلون ما فعله فرحات مهني ؟ فقد نرى في عين أخينا قشة ، وننسى جذوع النخل في عيوننا .
** أمم اليوم لا تسأل عن أصلك ،وفصلك ،و لونك ومدى كبريائك وسمو شرفك ، وإنما تسأل عن علمك ومقدرتك ومسارك المهني و مخرجاتك العملية وقدرتك على التأثير والتأثر والإندماج السهل ، فهي الوحيدة التي ترفعك إلى السماء العليا، أو تنزل بك إلى الدرك الأسفل ، مصداقا لقول نبينا الكريم ( من أبطأ به عمله ، لم يسرع به نسبهُ ).
***الجزائر الجزائرية :
** فكرة ( الجزائر الجزائرية ) التي صاغها من يعرفون ( بالبربريزم ) في باريس ، هم الأصدق والأنجح ، ويمكن القول بأنهم سبقوا زمنهم بعشرات السنين ، لأن التسمية لا تقصي أحدا ، لا دينيا ، ولا لغويا لسانيا ،ولا تراثيا ، وتجعل جميع الجزائريين في صف واحد بعيد ا عن شنآن العصبيات والقبليات والإنشقاق الديني والمذهبي ( فالدين لله ، والوطن للجميع ) بالمفهوم العلماني ، ليعيش الجميع في ظل دولة مدنية تشجعهم على الإنشغال بتطوير ذواتهم وتاريخهم ووحدتهم بمنطق وطنية الأرض ، وهو ما ينعكس بالخير حتما على تطور البلاد التي يعيشون فيها ، بعيدا عن كل المزايدات المغرضة التي تخدم فكرة أقدامُنا في الجزائر ،وعقولنا خراجها شاردة واردة ،أو متماهية مع المشارقة والفرنسيين ، دون أن نعلم بأننا أمة قائمة بذاتها لنا من الخصائص والأثالة والمهابة ما يجعلنا جديرين بأن نكون جزائريين معتزين بذلك بين الأمم الأخرى .
الهوامش--------------------------------------------------------
[1] محمد حربي في كتابه (الجزائر 1945- 1962، جبهة التحرير الوطني الأسطورة والواقع).
[2] و [4] حسين آيت أحمد ، مذكرات مكافح ( 1942/1952)
[3]الكاردينال لا فيجري ( 1925/1892) ، كبير أساقة الجزائر المهتمين بالتبشير المسيحي ، مؤسس جمعية الآباء البيض (Les Pères Blancs). وكان يهدف بعمله تحويل مسلمي الجزائر إلى الديانة المسيحية، معتبرا الجزائر بابا نحو تمسيح القارة الإفريقية.
[5] رشيد علي يحي رئيس لجنة فيدرالية فرنسا منذ1948 ، يدعمه (بناي واعلي ) ، (عمار ولد حمودة) ، لخلق شعبوية قوميةأمازيغية . وتنظيم انتخابات حول فكرة الجزائر (العربيةالإسلامية ) التي رفضوها بنسبة عالية 28 من أصل 32 .وأيدوا علنا أطروحة ( الجزائر الجزائرية ) ،التي اتضح اتجاهها جليا عند رغبة حزب الشعب الإكتتاب للتضامن مع قضية فلسطين 1948 ، حيث اعترض رئيس فيدرالية فرنسا ( رشيد علي يحي ) دفاعا على الخصوصية الجزائرية وهو ما أنذر بوجود عداء مستحكم لكل ما هو عربي .
[6] ( رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي ( موريس طوريز) الذي صرح أثناء زيارته للجزائر 1939 بأن الأمة الجزائرية في إطار التكوين وهي مشكلة من عناصر متناغمة ( بربر ، عرب ، أتراك، طليان ، سود ، مالطيون ، أسبان ، فرنسيس )
[7]الحركة من أجل الإستقلال الذاتي لمنطقة القبائل ماك ،( MAK ) بزعامة فرحات مهني ، الذي شكل حكومة مؤقتة لمنطقة القبائل في المنفى .
0 التعليقات:
إرسال تعليق