إرهاصات تشكل الكيانات السياسية في بلاد المغرب القديم
" المملكة النوميدية نموذجا "
- دراسة في المحدِّدات والتَّجليَّات -
" المملكة النوميدية نموذجا "
- دراسة في المحدِّدات والتَّجليَّات -
أ. بعيطيش عبد الحميد
قسم التاريخ وعلم الآثار
- جامعة باتنة -
قسم التاريخ وعلم الآثار
- جامعة باتنة -
La plupart des chercheurs soutiennent que les unités politiques ont été développées comme suit: individu, famille et Tribu.
L'augmentation des populations avec leurs besoins de vivre dans les petites tribus, exige une sorte d'alliance avec d'autres plus grandes, afin de se protéger, ensuite l'intégration de ces tribus grâce aux relations d'intermariage conduit a une évolution prestigieuse et économique cela promettait la construction des pays.
Dans cette étude, on va traiter les différents facteurs de formation des unités politiques dans l'ancien Maghreb, tout en prenant comme exemple la Numidie, qui apparaît au Nord de l'Afrique pendant le 3eme S. avant J.C.
Toutes nos informations sur l'ancien Algérie reviennent aux écrits Greco- Latins qui se trouvent chez les historiens Grecs comme Polybius et Appianus, et romains comme Sallustius et Titus Livius, dont la majorité de ces savoirs se différent entre les Grecs, qui se caractérisent par leur neutralité relative et leur modération gouvernementale d'une part, et les historiens Romains qui écrivaient d'une manière subjective sur les même quittions d'autre part.
تجتمع أراء أغلب المفكرين والباحثين، على أنّ الوحدات السياسية تطورت بالشكل التالي: الفرد، الأسرة فالقبيلة، ونظرا لزيادة عدد أفراد القبائل وزيادة حاجياتها المعيشية، اضطرت هذه القبائل للتحالف مع قبائل أخرى أكبر وأقوى منها من أجل حماية نفسها، وعليها قامت الأحلاف، وتقاربت القبائل وتصاهرت فيما بينها، وأدى اندماجها هذا إلى ازدياد هيبتها وتضاعف قوتها الاقتصادية، مما دفع بها لأن تحمي أرضها وخيراتها فنشأة الدولة.
وسنتناول بموجب هذه الدراسة، إرهاصات تشكل الكيانات السياسية في بلاد المغرب القديم، هذه المنطقة التي سكنتها تكتلات قبلية عديدة أشهرها قبائل الماسيل والمازسيل، التي تمتد من غرب تونس الحالية لتشمل الجزائر الحالية وجزء من المغرب الحالي، واستطاعت أن تكون لنفسها كيانا سياسيا مكتمل الشروط في حدود القرن الثالث قبل الميلاد وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وقد جاء ذكرها في المصادر الكلاسيكية والأثرية تحت اسم المملكة النوميدية.
ومما يثير الانتباه بخصوص هذه المملكة، أن كل ما نعرفه من هذه الدولة الجزائرية القديمة مصدره كتابات كلاسيكية يونانية لاتينية، تتركز عند بوليبيوس وأبيانوس اليونانيين، وسالوستيوس وليفيوس الرومانيين، وأن كثيرًا من هذه المعارف تختلف فيما بين اليونانيين والرومان، فضلاً عن اتصاف الإخباريين اليونان إزاءها بالحياد النّسبي، والاعتدال في الحكم على قضايا تاريخية هامة فيها، بينما يَبرُز انحياز الكتاب الرومان وتطرُّف أرائهم في نفس القضايا.
الأصول التاريخية والتمركز الجغرافي لقبائل النوميد:
ليس لدينا من المصادر التاريخية الكافية، التي تثبت بالضبط دخول بلاد المغرب في التاريخ عن وجود كيان سياسي مكتمل الشروط قبل ظهور قرطاجة، ولكن هناك مصادر كتابية وأثرية وُردت فيها أسماء عدد من المجموعات القبلية في تعداد شعوب الشمال الإفريقي القديم ما قبل الاحتلال الروماني ، وتدلُّ هذه الأسماء على مجموعة قبائل محكومة بروابط التقاليد والعادات، وأبرز هذه القبائل النوميد.
قبائـل النُّوميد (Numidie):
عُرفت نوميديا في كتابات المؤرخين القدماء بأسماء عديدة ، اختَلفت في تسميتها المصادر الإغريقية واللاتينية، ففي المصادر الإغريقية مثلا ، كان اسم نوميديا اسمًا وصفيًا يعني نمط حياة ينطبق على البدو والرحل ، ثم تطورت التّسمية وأصبحت تدل على شعوب كانت تعيش في شمال إفريقيا.
على أنه يبدو أنَّ في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد قد شهد نوع من الأنظمة السياسية المغربية المجاورة لقرطاجة، بدليل ما ذكره المؤرخ ديودور الصقلي(90-21 ق.م) (Diodore de Sicile) ، من أن ملكًا نوميديًا يدعى أيليماس (Ailimace) حالف أغاتوكليس ((Agathocles الإغريقي الذي غزا السواحل القرطاجية عام 310 ق.م ، إلاّ أنه يصعب اعتماد هذه الإشارة كدليل عن وجود مملكة مغربية مكتملة الشروط ، ولكنها إشارة إلى النضج السياسي والوعي الوطني، من أجل الحد من توسَّعات القرطاجيين وطردهم من المنطقة.(1)
وقد بدأت النصوص القديمة تذكر النوميد بهذا الاسم منذ القرن الثاني قبل الميلاد، كشعب وقوة سياسية تبسط سيادتها على منطقة واسعة، تمتد من حدود قرطاجة شرقا إلى وادي ملوية غربا (2) ، كما أننا نجد أن الجغرافي سترابون (58 ق.م- 24م) (Strabon) يذكرهم في عدة فقرات، غير أنه لا يفرق بين مصطلحي نوميد (Numidi) ونوماداس (Nomadas)، ويعتقد أن التسمية نمطية ، وقدم لنا وصفًا لهذه المنطقة وسكانها على الشكل التالي:
"... إنها تحد من قرطاجة إلى أعمدة هركل ، المنطقة على العموم ثرية وخصبة ولكنها مليئة بالحيوانات المتوحشة، مثلها في ذلك مثل بقية مناطق ليبو الداخلية، ويطلق اسم نومادس Numadas)) على جزء من سكان المنطقة الذين كانوا قد استمدوا اسمهم من الحياة التي كانوا عليها، من صراعهم مع الحيوانات المتوحشة التي يستحيل معها الاهتمام بزراعة الأرض."(3)
ويضيف نفس المؤرخ في نص آخر متحاملا على النوميديين: " إن النوميديين كانوا يفضلون السطو واللصوصية دون توقف، ويتركون الأرض للزواحف والحيوانات المفترسة".(4)
كما أورد سالوستيوس (86- 35 ق.م) ((Sallustius نصا حول وجود صنف أجنبي وهم الميديين (Medi) والفرس (Persae) والأرمن (Armenii) تفرقوا بعد وفاة زعيمهم هركل في إسبانيا وعبروا إفريقيا بزوارقهم وامتزجوا بالجيتول ولذلك سموا أنفسهم نوماداس (Nomadas).(5)
كما أورد بعض الشعراء اللاّتين الاسم الإغريقي (Nomade) ونذكر في ذلك فيرجيل (70-19 ق.م) (Virgilius) في مؤلفه الإنياذة L'Eneide)) التي تناول فيها أسطورة تأسيس مدينة قرطاجة من طرف الملكة الفينيقية عليسا ديدون، وتعاملها مع السكان الأصليين- النوميد-.(6)
أما بوليبيوس (203-120 ق.م) (Polybius) الإغريقي، فقد استعمل كلمة نوميديا (Nomidia) على كيان سياسي وعلى شعب معين ،(7) والظاهر أنه استقى هذا المفهوم من الوثائق الرومانية الرسمية ، أين ظهر فيها مدلول نوميديا ابتداء من القرن الثالث قبل الميلاد أثناء الحروب البونية.
لا جرم أن حياة النوميديين كانت شبيهة بحياة بقية الأمم والشعوب في المسكن والملبس والمكسب، ولكنهم تَرقَّوا وفق طبيعة النَّشوء والارتقاء، وتأثروا بمجاورة الإغريق ثم بمعاشرة الفينيقيين ثم فيما بعد بالرومان.(
فلا نستطيع أن نتخيل الكيان السياسي فيما يخص المملكة النوميدية في بداياتها الأولى، إلا في شكل تتقاسمه الصراعات بين تكتّلات قبلية ، وكانت أشهر هذه التكتلات قبائل المازسيل و الماسيل، حيث كانت قبائل المازسيل تتوضع في الغرب الجزائري الحالي، أما قبائل الماسيل فكانت مضاربها تشمل الشرق الجزائري وشمال تونس فيما عدا أراضي الدولة القرطاجية.(9)
فالدولة النوميدية قد تشكلت في صورتها التاريخية من قبائل الماسيل والمازسيل ، وقد عُرف هذا الإتحاد في المصادر التاريخية بالاتحاد الكونفدرالي للنوميديين، ولم تكن لتلك القبيلتين حدود معلومة فيما بينها ، بل كانت تتراوح بين المد والجزر.
وحتى تكون دراستنا أشمل عن هذه الدولة النوميدية التي تم توحيدها فيما بعد فإننا سنجزئها إلى شطريها الغربي والشرقي، أي نتناول قبائل المازسيل و الماسيل كل على حدة، ثم نبرز دور الملك ماسينيسا في توحيد هذه القبائل وإرساء أسس وقواعد الدولة من مختلف نظمها الإدارية، العسكرية والاقتصادية.
مملكة نوميديا الغربية أو (المازسيل Masaesyle ):
تعود أولى الأخبار التي وصلتنا عن مملكة المازسيل إلى حوالي 213 ق.م حيث، يذكر بوليبيوس بأن القرطاجيين كانت تربطهم صداقة متينة مع ملكهم سيفاكس ((Syphax ، وأن المازسيليين كانوا يكوِّنون جزءا كبيرا من الجيش القرطاجي في اسبانيا وبلاد المغرب القديم.(10)
ووفقا لما يذكره المؤرخ والباحث الفرنسي جابريال كامبس (G. Camps) عن هذه القبائل، أنها كانت من حيث الامتداد الجغرافي تتوضع في المنطقة الممتدة ما بين قبائل الماسيل شرقا والقبائل المورية غربا، بحيث تغطي مساحتها كامل الوسط الجزائري، وتبقى حدودها الشرقية والغربية غير واضحة.(11)
أما المؤرخ اللاَّتيني تيتوس ليفيوس (59 ق.م-17 م) (Titus Livius) فيذكر أن حدودها تمتد ما بين نهر الملوشة (الملوية حاليا) غربا، وتنتهي عند رأس تريتون ( شبه جزيرة القل شرقا).(12)
وقد وصفت مازسيليا بأنها كانت منطقة مزدهرة ومستثمرة بصفة أحسن، وفي هذا الصدد يذكر المؤرخ سترابون بأن البعض من المازسيليين يقطنون أرضًا تنتج غلالها مرتين في السنة. .(13)
وتجدر الإشارة إلى أن شخصية الملك سيفاكس الذي حكم نوميديا الغربية، أنه كان يتصف بالرزانة وتغليب العقل على العاطفة في كثير من الأحيان، وقد وُرد اسمه في النصوص القديمة عند كل من تيتوس ليفيوس وبوليبيوس (14)، كما سعى هذا الملك إلى تقليد المؤسسات الدستورية القرطاجية لتطبيقه في مملكته، إضافة إلى إضفاء الطابع الهلينيستي من حيث المظهر على أمور الحياة اليومية.(15)
كما قام بتطبيق نظام اللامركزية من حيث التنظيم الإداري في مملكته بعد توحيد النوميديتين وطرد ماسينيسا لفترة زمنية، حيث جعل العاصمتان سيقا وسيرتا تسيران من قبل موظفين ساميين محليين يعينهم الملك، بالإضافة إلى مجالس شبه قبلية ورجال دين، ثم جباة ضرائب وضباط في الجيش ويشترط فيهم أن يكونوا موالين للملك. (16)
مملكة نوميديا الشرقية (أو الماسيل Massyle):
كانت أولى الأخبار التي وصلتنا عن هذه المملكة هو ما نقله إلينا المؤرخ الإغريقي ديودور الصقلي، وذلك عندما غزا ملك سيراقوزة أجاثوكليس (Agathocles) لبلاد المغرب القديم ومحاولته تدمير قرطاجة ، كان قد تحالف في بداية الأمر مع ملك لوبي يدعى إيليماس (Ailymas) الذي كانت عاصمته دوقة.(17)
ومن هنا نجد أن من بين المؤرخين المحدثين وعلى رأسهم قزال وكامبس يميلون إلى الفرضية التي مفادها أن إيليماس يكون من بين أقدم الملوك الذين عرفتهم نوميديا الشرقية.
ويفهم أيضا من بعض النصوص التي أوردها بوليبيوس، بأن أحد أجداد الملك ماسينيسا (Massinissa) كان أول من اعتلى عرش نوميديا الشرقية، ويقدم بذلك صورة عن العائلة الحاكمة في نوميديا، وقد خص بذكر: غايا، زيلالسان و أيليماس. (18)
أما فيما يخص الامتداد الجغرافي لمملكة الماسيل، فإنه يصعب تحديد أراضيها هي الأخرى ، ذلك أن الإشارة إليها في الكتابات القديمة قليلة ، كما أن النقوش والعملة لم تتناول المجال الجغرافي الذي كانت تتردد عليه تلك القبائل ، كما أن أوّل ذكر لهذه المملكة لا يتجاوز نهاية القرن الرابع وبداية القرن الثالث قبل الميلاد. (19)
غير أنه يبدو أن بلاد الماسيل كانت تشمل شمال شرقي الجزائر وشمال تونس باستثناء أملاك الدولة القرطاجية ، وأن الحدود الأولى بالنسبة إليهم لم تضبط أو تصبح مراقبة، إلا بعد تكوين النواة الأولى للدولة النوميدية (الماسيلية) التي مرت بالدور القبلي ثم انتقلت بعد ذلك إلى التنظيم السياسي في شكله الملكي.(20)
كما نجد المؤرخ الطبيعي بلينيوس الأكبر (23-79 م) (Pline l'ancien) ، ينزل القبائل الماسيلية داخل منطقة سيرتا وإفريقيا ، وذلك فيما بين نهر لمساقة (Lamsaga) أو الوادي الكبير غربا وخليج السِّرت شرقا، ثم يشير بأن القبائل الماسيلية تلك كانت تستقر فيما بين قبائل السَّبربر .(Les Sabarbare)
وحول قبائل السَّبربر هذه يذكر بعض المؤرخين أنهم كانوا يستقرون في المنطقة الواقعة إلى الغرب من سيرتا والممتدة إلى سطيف، وتتوضَّع قبائل النَّسيف بدورها في المنطقة الواقعة في الجنوب الشرقي من سيرتا ، ووفقا لهذا المنظور فإن مملكة الماسيل كانت تتوزع على كامل المنطقة الممتدة حول مدينة سيرتا وإلى الشرق منه حتى مدينة لبدة .(Leptis Magna)(21)
دور ماسينيسا في توحيد القبائل النوميدية وتكريس نظام الدولة:
1- توحيد القبائل النوميدية:
لقد انقسم النوميديون فيما بينهم منذ الوهلة الأولى للدخول الروماني إلى شمال إفريقيا، فقد ناصر البعض منهم الرومان وكانوا يرون بأن الحكم لا يستقر في المنطقة إلا بالموالاة لهم ومخاطبة ودهم ، بينما على العكس من ذلك يرى الفريق الثاني بأن نظام الحكم يجب أن يكون بيد النوميديين ولا بد من المحافظة عليه، فقد احتفظ لنا التاريخ بعض ما سجله عن هاتين المملكتين، خاصة فيما يتعلق بالصِّراع الذي نشب بين (الإخوة الأعداء) الذي كان من ورائه الصراع الروماني القرطاجي، حيث ترجع هذه الخلافات السياسية بين النوميديين والتي نشبت بين خلفاء غايا (Gaia) على التدخلات القرطاجية والرومانية خدمة لأهدافهم في المنطقة، ومهما كان من هذه الأحداث، فإن ماسينيسا كان يسعى بالدرجة الأولى لاسترجاع عرشه المسلوب، واستطاع بالتعاون مع الرومان على تدمير قرطاجة والقضاء على سيفاكس ((Syphax في معركة سيرتا (Cirta) عام 203 ق.م ، واعتراف روما بماسينيسا ملكا على نوميديا، ويذكر المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس، بأن قائد الجيوش الرومانية سيبيون (Scipio) كان قد أسند مسؤولية مدينة سيرتا وبقية المدن النوميدية الأخرى القديمة منها والتي كان يشرف عليها قبل ذلك سيفاكس إلى ماسينيسا.(22)
وبعد هزيمة قرطاجة في معركة زاما (Zama) الشهيرة عام 202 ق.م جاءت معاهدة عام 201 ق.م لتثبت حق ماسينيسا لوراثة العرش النُّوميدي، وقد كان من شأن اعتراف الرومان بماسينيسا ملكًا على نوميديا، أن أصبح سيد كامل نوميديا الموحدة من واد الملوية غربا إلى السِّرت الكبير شرقا.(23)
وفي هذا السياق أورد ليفيوس فقرة من خطبه نسبها إلى أومينيوس ((Euméne أحد أعضاء السيناتو قالها عام 189 ق.م جاء فيها:" إن ماسينيسا قبل أن يكون حليفا لكم كان عدوكم ، إنه عندما التجأ إلى معسكركم لم يصحب معه بشيء تابع لمملكة قائمة ، ولكنه أقبل عليكم كرجل حكم عليه بالنفي والإبعاد ... فلم يكفكم أنه انتصب على مملكة أبائه ، ولكنه أضاف إلى هذه المملكة القسم الأكثر غنى من مملكة سيفاكس، لقد جعلتم منه الملك الأكثر قوة بين ملوك إفريقيا".(24)
2- الإدارة النوميدية في عهد ماسينيسا:
أ- النظام الإداري:
كان النظام السَّائد في نوميديا هو النِّظام الملكي الوراثي الذي انتقل عبر مرحلتين:
المرحلة الأولى تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى غاية وفاة ماسينيسا، وكانت فيه المَلَلكيّة في يد العائلة الواحدة، منتمية إلى جد مشترك، بحيث ينتقل الملك إلى الشخص الأكبر سنًّا في العائلة،(25) وقد قدم لنا المؤرخ اللاَّتيني تيتوس ليفيوس صورة واضحة عن نظام الحكم في نوميديا، فبعد وفاة الملك غايا ((Gaia حوالي سنة 206 ق.م لم يخلفه ابنه ماسينيسا لصغر سنه (كان حوالي 32 سنة) فانتقل العرش إلى عم ماسينيسا إيزالسيس ((Aezalces وبعد وفاة هذا الأخير خلفه ابنه كابوسا ((Capussa الأكبر سنا من ماسينيسا ، وبع وفاة كابوسا كان من المفروض أن ينتقل العرش مباشرة إلى ماسينيسا، لكن مازيتول (Mazaetullus) وهو أحد الضباط الكبار تدخل ونصب لاكومازيس (Lacumazes) (أخ كابوسا) ملكًا، مما دفع بماسينيسا لاسترجاع عرشه المشروع بالقوة.(26)
أما المرحلة الثانية فهي التي تلي وفاة ماسينيسا سنة 148 ق.م، حيث تغير أُسلوب نظام الحكم ، بحيث نجد أن حكم المملكة تقاسمه أبناء ماسينيسا، إذ أسندت السلطة الإدارية إلى مسسيبسا (Macipssa)، والسلطة العسكرية إلى غولوسا (Gulussa)، والسلطة القضائية إلى مستنبعل ((Mastanbal.(27)
كانت فترة حكم الملك ماسينيسا طويلة جدًا (203 ق.م-148 ق.م) وعليه ، فقد تمتعت نوميديا في عهده بالأمن والاستقرار على ما يذكره بعض المؤرخين ، وهذا دليل على كفاءة ماسينيسا في كيفية فرض سلطته وإبعاد المنافسين المحليين ، فالأمر يتعلق إذًا بنوع من الولاء ، حيث أراد ماسينيسا أن يكون إغليدا (عاهلاً) لا رئيس قبيلة ، وقد نجح في توسيع سلطته إلى حد بعيد ، وذلك بجمع القبائل الكبيرة أو الكونفدراليات التي كانت تشكل وحدات سياسية أساسية ، والتي كانت تُدار من طرف حاكم يعينه الإغليد ماسينيسا.(28)
غير أن التركيبة القبلية للمجتمع النوميدي في بداية حكم الملك ماسينيسا كانت تشكل عقبة كبرى تقف في وجه التغيير وتحقيق المشاريع التي كان يطمح إليها ، حيث كانت التنظيمات السياسية والإدارية في المملكة النوميدية غير واضحة المعالم ، مقارنة بالدول والممالك الكبرى في تلك الفترة.(29)
فكل ما نملكه اليوم عن إدارة ماسينيسا يتمثل في بعض قطع النقود التي تحمل على وجهها صورة شخص ملتحي وعلى ظهرها إما صورة فيل أو حصان يعدو كتب تحتها خمسة أحرف هي ( م س ن س ن)(30) ، وقد أسند الكتاب اللاتينيون لقب ملك (Rex) إلى ماسينيسا، وبدورها تصف نقيشة ماسينيسا بأنه ملكًا أو أميرًا، وفي الجزء المنقوش باللغة الليبية من نفس النقيشة أُعطي للعاهل النوميدي لقب إغليد.
أما النصوص الكتابية فهي نادرة ولم تخصِّص حديثها عن الإدارة النوميدية إلا عرضا، وكانت نقيشة دوقة قد أشارت إلى مجلس المواطنين (بعلو دوقة) أي سادة دوقة أو شعبها، الذين شيدوا الضريح تخليدا للملك ماسينيسا، ثم ذكرت بعد ذلك رئيس المائة وحكام الخمسين.
ومن جهة أخرى حملت كتابة بعض المدن النوميدية الأخرى التي كانت حروفها لاتنية وصف ريجيا ((Regia ويقصد بها الملكية، مثل هيبو ريجيوس ((Hippo – عنابة- وبولا ريجيا (حمام الدراجي) ((Bulla regia– بتونس.(31)
يبدو أن ماسينيسا استنبط الوسائل السياسية من استقراء ودراسة نقاط الضعف في التنظيم السياسي للممالك الأمازيغية، وذلك من أجل تعزيز النظام المركزي وحصر جميع السلطات، وتتمثل نقاط الضعف تلك في مجموعتين بارزتين:
- الأولى: تتعلق بطبيعة التنظيم السياسي القائم على تحالفات قبلية داخلية مضطربة ومتقلبة باستمرار.
- الثانية: تتَّصل بالأحلاف الأجنبية المضطربة هي الأخرى، والتي تخضع غالبا لأهواء الأحلاف الأجنبية، وليس لمطالب ومقتضيات المصلحة النوميدية.
ولذلك سعى ماسينيسا إلى معالجة المجموعة الأولى من نقط الضعف بواسطة إلغاء التَّجزئة القبليِّة وتجميع السلطات الاقتصادية في يد الملك، بوصفه ممثلا للسلطة المركزية ولدينا معلومات شحيحة عن وزراء الملك في هذه الفترة الذين يفترض البعض أن يكونوا من المقربين للملك الذي يزودهم بصلاحيات إدارية كما أنشأ أسطول بحري يضمن المناعة ضد أطماع الأعداء، ويحمي المسالك والمبادلات التجارية.
لكن تحقيق هذا المخطط يقتضي القيام بحروب ضد الأجانب والأعداء ، وكانت الحروب ضد قرطاجة لاسترجاع بعض الأراضي التي تعود إلى أسلافه خير مساعد على نمو شعور الاعتزاز بالحاجة إلى سلطة مركزية.
أما عن إدارة الأقاليم فلدينا بعض النُّصوص التاريخية التي تتحدث عن ولاَّة الملك في الأقاليم ، فهناك نص للمؤرخ تيتوس ليفيوس يتحدث عن تعيين الإغليد لولاَّة له في بلاد الماسيل يتولون تسيير شؤون الأقاليم.(32)
أما عن تنظيم الحياة في المدن النوميدية ، فقد كانت منظمة تنظيمًا محليًا فيما يخصُّ حياتها الداخلية، أي شبه مستقلة في نظامها الداخلي (33)، فقد نقلت إلينا المصادر المختلفة صورة عن الحالة العامة لهذه المدن عند نهاية القرن الثاني قبل الميلاد ، حيث كان يترأسها مجلس شيوخ أو (أشفاطًا) يُديرون المدن مثل (دوقة، مكثر، ليميسا، التيبوروس، مسولولة، قفصة، قالمة)، وكان إلى جانب هؤلاء الأشفاط مجلس شيوخ بلدي، حيث نجد أول أعضاء المجلس– ربُّ الميرزَة – متبوعا بواحد وثلاثين اسمًا ، إضافة إلى هؤلاء نجد موظِّفين محليِّين عُرفوا في بعض النقوش بالقيمين .(Aediles)(34)
إضافة إلى هذه الرتب الإدارية، هناك رتب أخرى أشارت إليها العديد من النقوش التي تم العثور عليها في معبد الحفرة بقسنطينة ، والتي تعود إلى الفترة ما بين القرن الثالث والأول ق.م إلى الكتَّاب والأمناء والمحاسبين وأُمناء الخزينة وناقلو البريد وجُباة الضرائب.(35)
ويعتر جباة الضرائب أهم وظيفة إدارية تعتمد عليها المملكة في إيراداتها، وتُوكل مهمة تحصيل الضرائب إلى مكلَّفين محليِّين في المدن والقرى والقبائل، ويكون هؤلاء تحت رقابة أُمناء يعيِّنهم الملك، حيث كان هؤلاء الأمناء يفرضونها عينًا على أهل البادية والرُّحل، وتشمل هذه الضرائب حسب ما ذكره سترابون محاصيل الحبوب و كذلك المواشي.(36)
أما في المدن فكانت الضرائب تدفع نقدًا لقاء ما يمارسه الشخص من نشاط ( صناعة، تجارة وزراعة)(37) ، وكانت خزائن المملكة مليئة على ما تشهد به النصوص التاريخية ، خاصَّة في سيرتا، وزاما، وقالمة.(38)
ب- نظام الجيش:
حاول ماسينيسا منذ بداية حكمه أن يكوِّن جيشًا نظاميًّا وتدريبه على أحسن النظم الحديثة والمعاصرة، لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية أساسه القبائل الموالية له، وكان يتشكَّل من الصنفين التاليين:
1- الدائم أو(النظامي): يقيم بالقرب من القصر الملكي وفي العواصم الإقليمية، وهو مسلَّح بأسلحة دفاعية وهجومية، يتكون من المشاة والفرسان، كما كان يوزَّع في وحدات تحت قيادة ضُبَّاط يتولُّون تدريبهُ(39)، وقد عمل ماسينيسا على سنّ الخدمة العسكرية في وسط الشباب وتسخيرهم لخدمة الدولة والمجتمع ، ثم توسيع حدود المملكة ، مما أثَّر في ازدهار الحياة الاقتصادية والثقافية في فترة حكمه.(40)
2- وحدات الاحتياط والمرتزقة: يتم تجنيدهم عند اندلاع الحروب ويسرحون مباشرة بمجرد انتهائها.
ج- العلاقات الخارجية:
بعد أن قام ماسينيسا بتعزيز علاقاته مع الرومان وتوطيد سلطانه على كامل نوميديا، بدأ بالمطالبة بما ملكه أسلافه داخل الأراضي التي استولت عليها قرطاجة، فقام سنة 193 ق.م باختراق إقليم امبوريا (Emporia) بدعوى ملاحقة أحد المتمردين ، فاستولى على المنطقة الممتدة بين لمطة (Leptis Minors) وطرابلس، وفرض الغرامة على بعض مدنها ، كما قام بعمليات أخرى سنوات 182، 174-172، 162، 153 ق.م لاسترداد أراضي كانت ملكا لوالده جايا.
ورغم شكاوي قرطاجة العديدة لمجلس الشيوخ الروماني (Senat) على اعتداءات ماسينيسا ، إلا أنَّ روما غضَّت الطرف ووقفت ساكنة إزاء هذه الأحداث، بدعوى أحقية ماسينيسا في استرجاع أملاك أجداده ، مما أجبر قرطاجة إلى قيامها بمناوشات مع النوميديين خسرت فيها الحروب واضطرت في الأخير إلى التفاوض والرضوخ لشروط ماسينيسا.(41)
وانطلاقا من الحسابات السياسية التي أشرنا إليها سابقا، والتي تتمثل بتنظيم العلاقات الخارجية مع أبرز قوة صاعدة في حوض المتوسط ، وهنا راح ماسينيسا ينسج في دهاء خيوط دبلوماسية ماهرة ، فأبدى صداقة لروما ولم يتردد في أن يبذل لها ما تحتاجه من إعانات اقتصادية وعسكرية ، وهذا من أجل المُضي قُدمًا في إنشاء مملكة نوميدية موحدة واسعة الأطراف.(42)
والحقيقة أن هذا الصراع كان يخدم بالدرجة الأولى المصالح الرومانية، وهذا ما نستنتجه ممَّا ذكره المؤرخ أبيانوس عندما قال: " والأصح أن نُراعي مصلحة الشعب الروماني وبالتالي يجب أن يستمر النزاع بين الطرفين"،(43) يقصد قرطاجة والنوميديين.
وتجدر الإشارة إلى أن الإغليد ماسينيسا أنشأ علاقات حسنة مع بلاد الإغريق، تتلخَّص أساسا في المصلحة والمنفعة المشتركة، والتعاون في المجال الاقتصادي والثقافي، فقد شهدت المبادلات التجارية مع جزيرة رودس (Rodes) نشاطا كبيرا ، حيث كان الملك ماسينيسا يزودها بالقمح مقابل كمية كبيرة من العملة الفضية ، كما أقام سكان جزيرة ديلوس (Delos) الإغريقية تمثالا لماسينيسا عِرفَانا له نظير هبته التي قدمها لهم سنة 179 ق.م وقدرها 11600 قنطارا من القمح، وازدهرت المبادلات التجارية حيث كانت نوميديا تزودهم بالخشب والعاج والحيوانات وتستورد منهم المصابيح وبعض المصنوعات.(44)
هذا مع العلم أن النقوش الإغريقية التي تذكر ماسينيسا عديدة ، فهي معاصرة له أو جاءت بفترة قليلة بعد وفاته، وهي عبارة عن مدح وثناء للملك ماسينيسا منها التي عثر عليها في جزيرة ديلوس ببلاد الإغريق وقد قام بإقامة هذه النقيشة الملك نيكوميد (Nicomade) الذي كان ملكا على بتينه (Bithynie) تشجيعا لمساعدته له على اعتلاء عرش ديلوس والقضاء على خصمه بروزيانس.(45)
التغيُّرات الاقتصادية والاجتماعية في نوميديا:
1- التغيُّرات الاقتصادية:
أجمع المؤرخون القدامى على الدور الكبير الذي لعبه ماسينيسا في مجال الزراعة، حتى ذهب بعضهم إلى اعتباره مُدخل الزراعة إلى نوميديا التي كان سكانها يقتاتون على النبات، لأنهم لم يكونوا يعرفون الزراعة ، وفي هذا الشأن يذكر سترابون، أن ماسينيسا هو الذي جعل النوميديين أناسًا اجتماعيين حضَّرهم بعد أن جعلهم مزارعين.(46)
أما بوليبيوس فيعتبر أعمال ماسينيسا في المجال الزراعي أعظم الأعمال ، إذ كانت في نظره نوميديا قبل ماسينيسا عديمة الفائدة ، وعاجزة عن إنتاج المزروعات.(47)
لكن واستناد إلى المعطيات الأثرية، نجد أن ظهور الزراعة في بلاد المغرب القديم تعود إلى ما قبل ماسينيسا بزمن طويل ، وأن انتظامها وتوسُّعها بدأ بالتَّدرُّج إلى غاية مجيء هذا الملك الذي اهتم أكثر بالفلاحة ، وذلك بالحد من أراضي الرعي ومن تنقلات الرعاة بإقامته القلاع وتأمين حياة الاستقرار للزراع ،(48) وقد يساعد ذكر بعض الأرقام المتوفرة لدينا والتي أوردها المؤرخون الكلاسيكيون على استجلاء هذه الحقيقة:
- سنة 200 ق.م: أرسل ماسينيسا للجيوش الرومانية المحاربة في مقدونيا 200 ألف صاع من القمح (أي 14 ألف قنطار) وكمية مماثلة من الشعير.
- سنة 198 ق.م: أرسل ماسينيسا 200 ألف صاع من القمح إلى الجيوش المحاربة في اليونان.
- سنة 191 ق.م: أرسل إلى روما 300 ألف صاع من القمح، و250 ألف صاع من الشعير، وأرسل في نفس السنة 500 ألف صاع من القمح و300 ألف صاع من الشعير إلى اليونان.
- سنة 170 ق.م: قدم هبة من القمح إلى الجيوش الرومانية المحاربة في مقدونيا تقدر بمليون صاع (70 ألف قنطار).
ورغم أن هذه الأرقام لا تحسم موضوع الإنتاج ، لكنها تبيِّن لنا على الأقل التَّطور السريع في الصادرات، الذي لا شكّ أنه انعكاس لتطور مماثل في الإنتاج الزراعي في عهد الملك ماسينيسا.(49)
ورغم التوسع الزراعي الذي عرفته نوميديا والذي تسبَّب في تقلُّص الرّعي، فإن ذلك لم يمنع من استمرار الحياة الرعوية كحرفة رئيسية لعدد كبير من النوميديين، وقد أكد العديد من المؤرخين الكلاسيكيين أن قطعان الماشية هي ثروة النوميديين الأساسية(50)، ومن بين ذلك ما أورده سترابون في أن الملوك النوميد كانوا يقومون سنويا بإحصاء المهور لأهميتها في الحروب.(51)
وعلى العموم فإن الاقتصاد النوميدي يكون قد تحوَّل من اقتصاد طبيعي (مقايضة) إلى اقتصاد نقدي منذ القرن الثالث قبل الميلاد على الأقل، وذلك بتحول المعاملات التجارية إلى معاملات نقدية خاصة في المدن، وتكون المقايضة قد استمرت إلى حد ما في الأرياف.
فالمدن التي تقوم بعملية المبادلات التجارية هي المدن الزراعية الكبرى، مثل باجة وسيرتا والكاف ( سيقا Sicca) التي كانت تمثل سوقا ضخمة للحبوب تباع فيها الحبوب المنتجة في السهول الكبرى ، وقد جذب سوقها حتى التجار الإيطاليين.(52)
وقد نشطت صادرات نوميديا مع الدول المجاورة ، فكانت أهم صادراتها ، ريش النعام بيض النعام حيوانات السرك الخيول التي صدرت منها مثلا 1200 فرس سنة 170 ق.م وكذلك الفيلة، (53) وخشب التويا (thuya) الذي يصنع منه أنواع الأثاث الرفيع.(54)
كما ذكرت المصادر عددا من المدن التجارية الأخرى كانت مقرات للخزينة الملكية، منها سيرتا العاصمة، سوثول ، تالة ، كابسة ، كما تعتبر هذه المدن أنها كانت مقرات جهوية للإدارة المالية التي تقوم بدفع رواتب الموظفين والعمال في تلك الأقاليم، وكانت هذه الخزائن تحتوي على رصيد نقدي كبير حسب ما ذكره بعض المؤرخين الكلاسيكيين.(55)
2- التغيُّرات الاجتماعية:
كانت نوميديا أثناء فترة الملوك النوميديين الأوائل ملتقى ثقافات متعددة ومتنوعة، وكان الملك ماسينيسا يدرك جيدا أهمية الانفتاح الثقافي ، ومد جسور التعاون مع الدول المجاورة، لذلك عمل على تقوية الروابط الاجتماعية من خلال العادات والتقاليد التي تحولت تدريجيا إلى أعراف ، ونشأت التقاليد والعادات من الاحتكاك اليومي بالبيئة الطبيعية والاجتماعية ، وكانت الأعراف أحد الأركان الأساسية التي يتأسَّس عليها المجتمع ، وتنشأ عنه النُّظم الاجتماعية، فالتَّشكيلة الاجتماعية للأسرة كانت أساس ظهور الدولة.(56)
فقد كانت حركة القبائل أداة للدمج الاجتماعي منذ البدايات الأولى لتكون مجتمع الشمال الإفريقي ، فكان للنوميد والجيتول والمور وغيرهم من القبائل الصغرى امتدادات في مختلف جهات الشمال الإفريقي القديم، وكانت الحدود بين هذه القبائل حدود سياسية ولم تكن حدودا ثقافية أو اجتماعية أو دينية.
ولا شك أن ماسينيسا قد اصطدم في هذه النقطة بطبيعة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الذي كان سائدا في نوميديا، وهو نظام ثنائي في الغالب، يتمثل في وجود الحياة الزراعية القائمة على الاستقرار إلى جانب الحياة الرعوية التي تتطلب التنقل المستمر، فيكمن دور ماسينيسا في تطوير الزراعة إلى ما يلي:
أولا: تعويد النوميديين على النظام نظرا لارتباط الإنتاج الزراعي بمواعيد معين من السنة.
ثانيا: تعويد سكان النوميديين على حياة الاستقرار، لأن الزراعة تفرض على من يعتني بها أن يستقر في انتظار المحصول، ومع طول الوقت يزداد التعلق بالأرض الذي يكون هو أولى مراحل التعلق بالوطن.
ثالثا: تحويل الفرد النوميدي من شخص يصعب اللحاق به جبائيا إلى مصدر منتظم من مصادر الخزينة.(57)
أما إذا نظرنا إلى أسلوب حياة النوميديين، فقد كانت القروية هي الطابع المميز لعموم النوميديين، وهذه القرى هي التي أشارت إليها المصادر اللاتينية والدراسات الأثرية الحديثة بعبارة قلاع (Castella) وهي نواة أغلب مدن إفريقيا الرومانية فيما بعد مثل: تاكاباس، توبورسيكو، تيجيس، تبيليس، تيدِّيس، ...إلخ (58)، وفي وقت لاحق منح ماسينيسا المدن والحواضر الجديدة تنظيما مستلهما من تنظيم المدن البونية بحَاكم أطلق عليه اسم سوفات (Suffétes)، فتطورت الحياة الحضرية في نوميديا عن طريق الاحتكاك بالقرطاجيين والإغريق، ثم الرومان ، وكانت هذه المدن لا تختلف في شيء عن مثيلتها في عموم المنطقة المتوسطية، فمن المدن الرئيسية بالمملكة النوميدية نجد:
عواصـم: سيرتا ، سيقا ، يول ، زاما.
مدن ريجيا: تيميديا ريجيا ، زاما ريجيا ، بولا ريجيا ، هيبوريجيوس.
مقرات خزائن المملكة: مكثر (Mactar)، ثيميديا، ثالا ((Thala، كابسا ((Capsa، سوتول (Suthul)، كالاما ((Calama، سيرتا ، كاستيلوم مولوشه (Castellum de la Mulucha).
مدن أخرى: ماكاماراتا، مادوروس (Madauros) إيكوزيوم، لاريس (Lares)، ماكوماديس Macomades))، روسكاد، صالداي، سيكا.(Sicca).(59)
هذا ومن خلال ما سبق نستنتج أن المجتمع النوميدي ظلت حياته كغيره من مجتمعات الشعوب الأخرى يعتني بتقاليده وعاداته وأعرافه وبُناه الاجتماعية لضمان الانسجام والاستقرار على المستوى الاجتماعي عموما، وكانت الجماعة هي الهيئة الاجتماعية والسياسية الأولى التي أفرزتها الأعراف ومنها انبثقت القيادة السياسية، وكانت النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في نوميديا تنمو تدريجيا لتشكل كيانا سياسيا كبيرا، ولكن ما كادت تكتمل حتى حل الاستعمار الروماني لينهي هذه الزعامة ويحدث تأثيرا على كل الأصعدة.
المصادر والمراجع المعتمدة:
(1) محمد البشير شنيتي، الاحتلال الروماني لبلاد المغرب (سياسة الرومنة. 146 ق.م-40م)، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط3، الجزائر،1985 ، ص 18
(2) محمد الصغير غانم، المملكة النوميدية والحضارة البونية، شركة دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 1998 ، ص 53
(3) STRABON, Géographie de Strabon, trad nouvelle par. Amedée Tarieu. Librairie Hachette. Paris, 1867, II, 5, 33.
(4) STRABON, XVII, 3, 15
(5) غايوس كريسبوس سالوستيوس، حرب يوغرطة، تر، العربي عقون، دار الهدى، الجزائر، 2006، الفقرة 17.
(6) VIRGILE, L'Eneide, Trad. Maurice Rat, éd- garnier frères. Paris, 1965, XII, 26, 6 (7) POLYBE, Histoire, Trad. Roussel, coll., la pleide, 1970, III, 23, 2.
( محمد بن المبارك الميلي، تاريخ الجزائر في القديم والحديث، ج1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص 110.
(9) محمد الصغير غانم، المرجع السابق، ص 50.
(10) POLYBE, III, 33,15
(11) CAMPS (G),Aux origines de la Berberie, Massinissa ou les débuts de L'histoire, ed. Imp. Officielle, Alger, 1961, p 179.
(12) TITE-LIVE, Histoire Romaine,(10 vol).trad. E.Lassere, ed.classique Garnier,Paris,1943-1958, V, 17
(13) STRABON, II, 5, 33; XVII, 3, 6.
(14) . TITE-LIVE, XXXVIII, 18, 7 ; POLYBE, XI, 24
(15) GSELL,(St),Histoire Ancien d'Afrique du Nord, T.IV, ed. Hachette,(Paris 1913-1928), p 186
(16) . TITE-LIVE, XXVIII, 17
(17) DIODORE de SICILE, Bibliothèque Historique, Trad. Par Hoefev(F), 3ed.Hachette, Paris 1843, XX, 17,1
(18) GSELL, (St), Massinissa, p 159
(19) DIODORE de SICILE, XX 58
(20) DECRET(F), FANTAR(M), Histoire d'Afrique du nord dans l'antiquité des origines aux 5eme S. apr J.C, éd. Payot, (Paris 1981), p 99
(21) محمد الصغير غانم، المرجع السابق، ص 54.
(22) نفسه، ص 118.
(23) TITE-LIVE, XXXI, XI
(24) Ibid, XXXVII, 59, 22
(25) محمد الهادي حارش، التاريخ المغاربي القديم ( السياسي والحضاري منذ فجر التاريخ إلى الفتح الإسلامي)، المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر، 1992 ، ص 104.
(26) TITE-LIVE, XXXIX,29, 6-11
(27) محمد الهادي حارش، التاريخ المغاربي القديم ، 105.
(28) محمد الصغير غانم، المرجع السابق، ص 158.
(29) نفسه، ص 157.
(30) نفسه، ص ص 71،72
(31) نفسه، ص ص 158- 160.
(32) TITE-LIVE, XXX, 11, 2
(33) DECRET (F), FANTAR(M), op cit, p86 (34) محمد الهادي حارش، التاريخ المغاربي القديم، ص ص108،109.
(35) نفسه، ص111.
(36) STRABON, XVII, 3, 19
(37) TITE-LIVE, XXXIV, 62, 2
(38) سالوست، حرب يوغرطة، الفقرات XXII, XXXVII, ؛ أنظر كذلك Strabon, XVII,
(39) نفسه، الفقرات XLIX, LXXIV
(40) محمد الصغيرغانم، المرجع السابق، ص 164
(41) محمد الهادي حارش، التطور السياسي والاقتصادي في نوميديا (منذ اعتلاء ماسينيسا العرش إلى وفاة يوبا الأول 203-46 ق.م)، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 1996، ص ص 27، 28.
(42) أحمد السليماني، تاريخ ملوك البربر في الجزائر القديمة، دار القصبة للنشر، الجزائر 2006، ص 121.
(43) أنظر، محمد الهادي حارش، التطور السياسي والاقتصادي في نوميديا، ص 30.
(44) العربي عقون، الإقتصاد والمجتمع في الشمال الإفريقي القديم، دار الهدى، الجزائر،2008، ص 45.
(45) محمد الصغير غانم، المرجع السابق، ص167.
(46) STRABON, XVII, 3, 15
(47) POLYBE, XXXVI, 16, 7
(48) محمد الهادي حارش، التطور السياسي والاقتصادي، ص 95، 96
(49) نفسه، ص ص 108، 109.
(50) محمد العربي عقون، المرجع السابق، ص ص 17، 18.
(51) STRABON, XVII, 3, 19 (52) محمد الهادي حارش، التطور السياسي والاقتصادي، ص 149.
(53) محمد الهادي حارش، التاريخ المغاربي القديم، ص 129.
(54) محمد الهادي حارش، التطور السياسي والاقتصادي في نوميديا، ص 156.
(55) محمد العربي عقون، المرجع السابق، ص47.
(56) نفسه، ص 165.
(57) محمد إبراهيم الميلي، الجزائر في ضوء التاريخ، مطبعة البعث، قسنطينة، 1980، ص ص 78، 79.
(58) محمد العربي عقون، المرجع السابق، ص178.
(59) محفوظ قداش، الجزائر في العصور القديمة، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1993، ص 79
0 التعليقات:
إرسال تعليق