تمهيد
تعتبر حركة عدم الانحياز، واحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ونتيجة مباشرة أكثر، للحرب الباردة التي تصاعدت بين المعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو) وبين المعسكر الشرقي (الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو) حال نهاية الحرب العالمية الثانية وتدمير دول المحور، وكان هدف الحركة هو اللإبتعاد عن سياسات الحرب الباردة
تأسست الحركة من 29 دولة، وهي الدول التي حضرت مؤتمر باندونج 1955 ، والذي يعتبر أول تجمع منظم لدول الحركة.
و يعتبر مؤسسي الحركة الأوائل هم الرئيس المصري جمال عبد الناصر و رئيس الوزراء الهندى جواهر لال نهرو و الرئيس اليوغوسلافي تيتو وأيضا الرئيس الأندونيسى أحمد سوكارنو.
وانعقد المؤتمر الأول للحركة في بلجراد عام 1961، وحضره ممثلو 25 دولة، ثم توالى عقد المؤتمرات حتى المؤتمر الأخير بكوالامبور فبراير 2003. ووصل عدد الأعضاء في الحركة الآن إلى أكثر من 116 دولة، وفريق رقابة مكون من 17 دولة و7 منظمات.
خطة البحث
تمهيد
مقدمة
المبحث الأول: مفهوم حركة عدم الانحياز وعلاقتها بالحياد الإيجابي
المبحث الثاني: نشأة حركة عدم الانحياز وتطورها التاريخي
المبحث الثالث: الإطار المؤسسي لحركة عدم الانحياز
المبحث الرابع : تقويم مسيرة حركة عدم الانحياز حتى مؤتمر القمة السابع
المبحث الخامس : تقويم مسيرة حركة عدم الانحياز منذ مؤتمر القمة الثامن
المبحث السادس : حركة عدم الانحياز والعلاقات الدولية
المبحث السابع: تحديات حركة عدم الانحياز
المبحث الثامن: حركة عدم الانحياز والنظام العالمي الجديد
المبحث التاسع : العوامل التي أدت إلى تراجع حركة عدم الانحياز
تطور اهتمامات حركة عدم الانحياز
الهيكل التنظيمي لحركة عدم الانحياز
الدول الأعضاء والمراقبون والضيوف
أعضاء حركة عدم الانحياز (حسب الإقليم)
خاتمة
المقدمة
منذ مطلع القرن العشرين تعددت الأحداث العالمية، التي أدت إلى انتشار أفكار ومبادئ تحررية، تمثلت في استقلال العديد من المستعمرات في القارات الثلاثة أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، خاصة بعد بداية انهيار النظام الرأسمالي العالمي، بسبب الأزمات المتتالية التي انعكست على هذا النظام نتيجة لتناقضاته الداخلية، كما ساعد على زعزعة أركان هذا النظام أحداث عالمية متتالية، أهمها كانت الحرب العالمية الأولى خلال الفترة بين عام 1914م وعام 1918م، كذلك ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917م، وأيضا الحرب العالمية الثانية خلال الفترة بين عامي 1939م و1945م، وأخيراً كانت الثورة الصينية عام 1949م. ونتيجة لهذه الأحداث العالمية بدأت الدول حديثة الاستقلال تتطلع لدور حيوي في النظام العالمي، يقوم أساساً على عدم الارتباط بأي من الكتلتين شرقية كانت أو غربية، ومعارضة سياسات الحرب الباردة والتكتلات والأحلاف العسكرية، إضافة إلى إتاحة الفرصة للدول حديثة الاستقلال لتحقيق مزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولم يكن أمام هذه الدول إلا المطالبة بوضع أسس جديدة للعلاقات الدولية تضع نهاية للسيطرة والهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها، على أن يكون التعاون الدولي القائم على مبادئ الاستقلال والمساواة بين المكونات السياسية للنظام العالمي شرطاً أساسياً لحريتها وتقدمها ونموها، كما أن مبدأ التعايش السلمي يكون القاعدة الأساسية لإقامة العلاقات الدولية.
وقد كانت للطبيعة الاستعمارية التي تعرضت لها معظم شعوب العالم دوراً فاعلاً في ظهور محاولات التضامن بين هذه الشعوب، ولم يتحدد أبعاد هذا الدور إلا مع ظهور الحركة التحررية التي اجتاحت المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عند نشوب النزاع الإندونيسي ـ الهولندي خلال الفترة بين عام 1945م وعام 1949م، حيث اجتمعت خمسة عشر دولة في نيودلهي عام 1949م وقررت اتخاذ إجراءات جماعية ضد هولندا وتوحيد جهودها داخل منظمة الأمم المتحدة، وبعد انتهاء الحرب الكورية استمر التعاون الأفرو ـ آسيوي لتوطيد العلاقات فيما بين شعوبهم، ورغم أن المسيرة النضالية لم تتوقف منذ عقد مؤتمر الأجناس المضطهدة عام 1910م، إلا أن مؤتمر باندونج الذي عقد في 18 أبريل 1955م يعتبر تأكيداً للمواقف التي اتخذتها دول قارة أسيا وأفريقيا، وتواصلت هذه الجهود واتسعت لتشمل العديد من دول قارات أخرى عانت من الوضع الاستعماري، وبذلك تحولت الحركة من أفرو آسيوية تقوم أساساً على موقع جغرافي محدد، إلى حركة أوسع تقوم على أساس نضالي أشمل، وتمثلت هذه الحركة الجديدة في ظهور حركة عدم الانحياز في بلجراد في سبتمبر 1961م.
المبحث الأول : مفهوم حركة عدم الانحياز وعلاقتها بالحياد الإيجابي
كان للصراع الذي عرفه المجتمع الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف التحول من نظام عالمي يقوم على مبادئ سيطرة وهيمنة القوى الاستعمارية إلى نظام عالمي يقوم على مبادئ التعاون والتبادل والحرية والمساواة والعدالة، أثره في زيادة النشاط الاستعماري من أجل الحفاظ على مراكز نفوذه في العالم بصفة عامة وفي المستعمرات بصفة خاصة، واتبع الاستعمار عدة أساليب اتخذت أشكال متعددة، منها إقامة التكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك بث روح الفرقة والخلاف بين الدول حديثة النشأة والاستقلال والتدخل في شؤونها الداخلية. ولمواجهة هذه المخاطر، لم يكن أمام الدول حديثة الاستقلال إلا المطالبة بأسس جديدة للعلاقات الدولية تضع نهاية للسيطرة والهيمنة الأجنبية بمختلف أنواعها وأشكالها، حتى تتمكن من فرض وجودها على الساحة الدولية وتحرير المزيد من المستعمرات، وقد كانت محاولات التضامن بين شعوب هذه الدول منذ زمن بعيد، لكن هذه المحاولات لم تتبلور بشكل منظم وواضح إلا مع ظهور الحركة التحررية التي اجتاحت المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتعددت اللقاءات الإقليمية الهادفة إلى توحيد الصف، وتوطيد العلاقات فيما بين الشعوب، حتى بدأت تتضح معالم التعاون الأفرو ـ آسيوي بعد انعقاد مؤتمر كولومبو عام 1954م، وبالرغم من أن التضامن الأفرو ـ آسيوي لم يكن ظاهرة حديثة، إلا أن هذا التضامن يستند إلى جذور عميقة في التاريخ، تتمثل في قيام حضارات وثقافات أفرو ـ آسيوية عرفتها شعوب القارتين في كل من وادي النيل ووادي دجلة والفرات وشبه الجزيرة العربية، وكذلك في الهند والصين وأفريقيا، حيث قامت في هذه المناطق حضارات وثقافات عريقة0
ولقد أثرت وتأثرت هذه الحضارات ببعضها البعض، ويفسر ذلك ظهور التضامن الأفرو آسيوي في هاتين القارتين، ولم تتوقف الحركة النضالية الأفرو ـ آسيوية عند مجرد عقد المؤتمرات الإقليمية، ولقد مرت محاولات التعاون الأفرو ـ آسيوية بعدة مراحل تمثلت في الآتي:
أولاً: مرحلة ما قبل مؤتمر باندونج:
عقدت عدة اجتماعات ومؤتمرات دولية في باريس عام 1920م، وفي لندن عام 1923م، ضمت ممثلين من شعوب إفريقيا وآسيا المضطهدة ، إلا أن ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917م، كانت من أهم عوامل بلورة هذا التوجه المناهض للاستعمار وتحرر شعوب العالم الثالث، وكان مؤتمر باكو عام 1920م، ومؤتمر إركوتسك عام 1921م، قد مهدا لإنشاء رابطة مناهضة للإمبريالية عام 1924م، التي بادرت إلى الدعوة لعقد المؤتمر الأول للشعوب المقهورة في موسكو، وفي عام 1927م عقد مؤتمر بروكسل الذي شمل أول تعبير لفكرة عدم الانحياز، كذلك عقدت عدة مؤتمرات في الفترة ما بين الحربين العالميتين في القاهرة ومكة المكرمة عام 1926م، وفي مدينة القدس عام 1931م، وقد أدانت هذه المؤتمرات الاستعمار بكافة أشكاله.
ثانياً: مرحلة بعد الحرب العالمية الثانية:
كان نشأة جامعة الدول العربية عام 1945م، التي سبقها بروتوكول الإسكندرية وانعقاد المؤتمر العربي في القاهرة عام 1944م بمثابة خطوة أساسية نحو الأفرو ـ آسيوية، وفي الهند كان انعقاد مؤتمر العلاقات الآسيوية في نيودلهي عام 1947م، الذي حضره أكثر من 25 دولة آسيوية بهدف مكافحة الاستعمار، ويعتبر هذا المؤتمر خطوة تجاه بلورة التوجه التعاوني الأفريقي ـ الآسيوي، وخلال عام 1949م تشكلت في الأمم المتحدة كتلة من حوالي 12 دولة أطلق عليها في البداية المجموعة العربية ـ الآسيوية، ثم بعد انضمام مصر وأثيوبيا إلى المجموعة أصبحت تعرف بالكتلة الأفرو ـ آسيوية، وكانت هذه المجموعة تحاول انتهاج سياسة محايدة بين الكتلتين.
ثالثاً: مؤتمر باندونج عام 1955:
هو أول مؤتمر لتأسيس الحركة الأفرو ـ آسيوية كظاهرة مناهضة للاستعمار في باندونج بإندونيسيا وكان أبرز المشاركين فيه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru، والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو Ahmed Sukarno، والسياسي الصيني شو إن لاي Chou En Lay[1]، ولقد أخذت التوجهات التعاونية الأفرو ـ آسيوية مدلولاً جديداً مع ظهور سياسة عدم الانحياز حتى كان مؤتمر القاهرة عام 1957م، والذي حضرته سبع وأربعون دولة بوفود شعبية غير رسمية، وأصدرت خلاله عدة قرارات أكثر تشدداً تجاه الغرب والاستعمار، وقرر هذا المؤتمر إنشاء أمانة عامة يكون مقرها القاهرة، ويكون هدفها نشر الفكر الأفرو ـ آسيوي التقدمي. وفي عام 1961م انعقد مؤتمر بلجراد بغياب كل من الصين والاتحاد السوفيتي، وتحددت خلاله فكرة عدم الانحياز، ومنذ ذلك التوقيت بدأ اختفاء الحركة الأفرو ـ آسيوية بسبب الصراعات المحلية بين بلدان العالم الثالث نفسها وتبعية العديد من الدول المستقلة للغرب، وقد ساهم ذلك في فقد الحركة لمضمونها الثوري، خاصة بعد تأجيل انعقاد مؤتمر الجزائر عام 1965م لأجل غير مسمى والذي وضع بذلك نهاية لهذه المرحلة، إلا أن معظم دول العالم الثالث بدأت استبدال المؤتمرات الأفرو ـ آسيوية بمؤتمرات دول عدم الانحياز، والتي أخذت تركز جهودها على البعد الاقتصادي للتحرر والاستقلال، وتشجيع حركات التحرر، وطرحت نفسها كممثل للدول الفقيرة في مواجهة الدول الغنية المتقدمة.
في إطار ممارسة الحق الشرعي لشعوب العالم في استقرار الأمن والسلم الدوليين، قامت معظم الدول فرادى أو مجمعة بانتهاج سياسة تكفل لها تحقيق أهدافها وغايتها القومية، وكانت لهذه السياسة سمات متعددة خلال عدة مراحل. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي المرحلة الأولى وخلال السعي لتحقيق التوازن النووي كان الاتجاه الشعبي أكثر ميلاً إلى سياسة عدم التوسط بين القوى الدولية مهما كانت الأسباب والظروف، وفي المرحلة الثانية والتي تحقق فيها توازن دولي قائم على سياسة الانتقام الشامل البعيد المدى، انتهجت معظم دول العالم سياسة الحياد الإيجابي في إطار تبنى توجهات خاصة حيال تصرف بعض الدول في مجال الانتقام بعيد المدى، وفي المرحلة الثالثة والتي تحقق فيها التوازن النووي الكامل، تبنت هذه الدول سياسة عدم الانحياز، تأكيداً على مشاركتها في الحفاظ على السلام العالمي والتعايش السلمي، كأحد الأهداف التي كانت تسعى إلى تحقيقها الدول غير المنحازة، ورغم التفسيرات المختلفة والمتباينة لمفهوم التعايش السلمي إلا أن اتجاهات عدم الانحياز والتعايش السلمي في ظهورها كسياسة جديدة دفعت إليها اعتبارات الحرب الباردة والتكتل العالمي، والصراع بين المعسكرين والأهوال التي تهدد العالم من احتمالات نشوب حرب، تستخدم فيها الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.
ولقد أثبتت وقائع ما بعد الحرب العالمية الثانية عجز منظمة الأمم المتحدة في احتواء العديد من المشاكل، كذلك وضح تدخل مجلس الأمن لصالح الدول الكبرى والعظمى، ونتيجة لانحياز مجلس الأمن في مواقفه، وكذلك زيادة حدة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، بدأت بعض الدول المستقلة تتجمع تحت شعار الحياد، لتمارس الضغط على الكتلتين بهدف تحقيق السلام والأمن الدوليين، وفي هذا الإطار ظهرت سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والذي تعددت الآراء حول أشكاله وأقسامه، إلا أنه يوجد اتفاق عام على أن الحياد له أنواع محددة تتمثل في الآتي:
1. الحياد العرضي وهو ما يسمى الحياد بالإرادة المنفردة.
2. الحياد الدائم أو ما يطلق عليه الحياد الاتفاقي.
3. الحياد في حالة الحرب.
4. الحياد الملازم والمكون لكيان الدولة.
5. التحييد كصيغة لاتفاق الكتلتين وهو ما يعرف بالحياد الوسطي.
6. الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
رابعاً: المفاهيم المختلفة للحياد الإيجابي وعدم الانحياز:
إن الحياد الإيجابي من الناحية السياسية هو من صور الحياد، التي ترتب عليها ظهور الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، في محيط العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية، وفي إطار الحياد الإيجابي تتبنى الدولة سياسة محايدة تبعدها عن الحرب الباردة وتكتلاتها، حتى تتمكن من القيام بدور إيجابي تحقق من خلاله تخفيف حدة التوتر الدولي، وفض المنازعات بالطرق السلمية، والدول التي تأخذ بهذه السياسة تلتزم ببذل الجهد للتوفيق بين الأطراف المتصارعة أو المتنازعة، وتؤيد صاحب الحق في قضيته إعمالاً بنظرية الحرب العادلة والحرب الغير عادلة. ورغم اختلاف الأصول الفكرية والمدلولات اللغوية والسياسية للحياد التقليدي القانوني أو الحياد الإيجابي أو عدم الانحياز، إلا أن الهدف واحد وهو الرغبة في اتباع سياسة تبتعد عن النزاعات والحروب.
يوجد تمايز واضح بين الحياد الإيجابي المعاصر والحياد التقليدي القانوني، الذي يقصد به مجموعة القواعد والنظم القانونية الدولية التي تنظم العلاقات فيما بين الدول المتحاربة والدول الغير متحاربة، والذي بموجبه تبقى الدول الغير متحاربة بعيدة عن دائرة الصراع المسلح، وهو ما يطلق عليه حق الحياد، ولقد أرسى مؤتمر فيينا عام 1815م القواعد الأساسية لنظام الحياد، كذلك كان لتطبيق قواعد الحياد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية منذ إعلان مبدأ مونرو عام 1823م، وحتى خروجها من عزلتها عام 1917م أثر كبير في تحديد وتطور مفهوم الحياد.
وخلال القرن التاسع عشر كان المعنى المقصود بالحياد هو المعنى العسكري، وقد حفدد بشكل خاص في مؤتمر لاهاي الخامس حول الحقوق والواجبات للدول المحايدة عام 1907م، والذي من خلاله وضعت قواعد الحياد في الحرب البرية والبحرية، وجاء إعلان لندن عام 1909م مكملاً لمؤتمر لاهاي الخامس بتنظيمه للحياد في الحروب البحرية، وقبل بداية الحرب العالمية الأولى تعرضت قواعد الحياد التقليدي القانوني إلى العديد من النقد، حيث لم يلتزم بها عدد كبير من الدول، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وضح أهمية تغيير النظام التقليدي للحياد، مما أدى إلى وضع معايير جديدة للحياد والتي تتفق مع مقتضيات ومتطلبات استقرار المجتمع الدولي، حيث لم يعد هناك حق للدولة ذات السيادة في استخدام القوة لحل مشاكلها، وأصبح إعلان الحرب عملاً غير مشروع، وترتب على ذلك مسؤولية دولية تعطي للغير الحق في اتخاذ مواقف معينة، والتمييز بين الأطراف المتحاربة ومعاملتهم وفقاً لمشروعية دعواه وحقوقه. ومن هذا المنطلق ظهرت فكرة الحياد الإيجابي الذي تنحاز فيه الدول إلى أحد طرفي النزاع أو الصراع.
واختلفت آراء مؤسسي سياسة الحياد الإيجابي حول المصطلح نفسه، فكان جواهر لال نهرو يعترض على هذا المصطلح، رغم أن الهند منذ استقلالها وهي تأخذ بسياسة الحياد الإيجابي، وكان نهرو يفضل استخدام مصطلح اللاالتزام، ويرجع ذلك إلى تخوفه من مصطلح حياد إذ يعني مدلولها اللغوي اللامبالاة. أما جمال عبدالناصر فكان يفضل استخدام كلا المصطلحين معاً؛ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وكان يفضل أحياناً مصطلح الحياد الإيجابي، بينما كان الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito يقتصر استخدامه على مصطلح عدم الانحياز مع تجنبه لاستخدام مصطلح الحياد الإيجابي، إلا أنه رغم اختلاف الأصول الفكرية والمدلولات اللغوية والسياسية لهذه المصطلحات الثلاث المتعلقة بالحياد التقليدي والحياد الإيجابي وعدم الانحياز فإن الهدف في جملته واحد، وهو الرغبة في الابتعاد عن النزاعات والحروب، سواء كانت حروباً كلاسيكية أو حروباً باردة، ومن ثم فإن تعبير الحياد الإيجابي له دلالة قاطعة على شكل الحياد بمعناه وشكله الحديث. وتتحدد مبادئ الحياد الإيجابي في الآتي:
1. عدم المشاركة في الأحلاف العسكرية، كذلك عدم الانحياز إلى أحد أطرافها في إطار الحرب الباردة.
2. التعاون والتعامل مع كلا المعسكرين الشرقي والغربي مع المحافظة على الاستقلال للدول المحايدة.
3. المشاركة في حل المشاكل والأزمات الدولية، مع مساندة الشعوب غير المستقلة وحديثة الاستقلال، ودعم منظمة الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها وإجراءات تنفيذها لصالح هذه الدول.
وفي إطار هذه المبادئ لا يكون هناك اختلاف بين الحياد التقليدي والحياد الإيجابي من حيث الامتناع عن الاشتراك في الصراعات المسلحة، إلا أن الاختلافات الأساسية بينهما تتمثل في أن الحياد التقليدي لا يوجد له دور في التعامل مع الأطراف المتصارعة، بهدف إيجاد الحلول واحتواء الصراع، بينما الحياد الإيجابي يقوم أساساً بالتعاون مع أطراف الصراع لاحتوائه، أما في حالة دعم ومساندة حركات التحرر، فإن دول الحياد الإيجابي ودول عدم الانحياز ملزمة بمساندة كافة حركات التحرر وتكون منحازة لها وتدعمها.
فضلت الدول المشاركة في مؤتمر بلجراد عام 1961م، استخدام مصطلح عدم الانحياز على مصطلح الحياد الإيجابي، الذي يفترض قيام الصراع المسلح، مع تأكيد الرغبة في الابتعاد عن هذا الصراع مهما كانت دوافعه أو طبيعته، أما في حالة تعرض دولة حديثة الاستقلال لاعتداء خارجي ودخولها في صراع مسلح سواء مع إحدى الكتلتين أو دولة منضمة إلى إحداهما، فإن الدول غير المنحازة لا يكون موقفها محايداً، بل تناصر وتساند الدولة حديثة الاستقلال، وبذلك لا يوجد تطابق بين مصطلحي الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، سواء من الناحية اللغوية أو من حيث المدلول السياسي، لأن عدم الانحياز في الواقع يمثل جانب من جوانب الحياد الإيجابي، كما أن عدم الانحياز يمثل الناحية السلبية لمنطلق سياسي إيجابي، خاصة وأن مصطلح عدم الانحياز يعكس فكرة تقليدية قديمة، مؤداها رغبة بعض الشعوب في حصر آثار الحرب في مناطق معينة وعدم الاشتراك فيها. وبذلك يعتبر عدم الانحياز من الناحية اللفظية كلمة ناقصة فيما تعبر عنه، فمصطلح عدم الانحياز لا يعني أن الدول التي تتبنى هذه السياسة لا تهدف إلى تجريد نفسها من إمكانيات اتخاذ مواقف
لا تكون منحازة مسبقاً إلى أي منهما، بل انحيازها يكون بعد دراسة وتقييم مسبق للموقف، وبذلك يكون الانحياز كامن لكن تتضح معالمه على أساس كل قضية على حدة، ومن ثم يكون انحياز الدول والحركات الشعبية غير المنحازة تمليه المصلحة الوطنية لهذه الدول والحركات، وبذلك لا يكون هناك عدم انحياز ثابت ومستمر، وإنما توجد مواقف غير منحازة أي حياد إيجابي.
ومن منطلق المفهوم القانوني توجد اختلافات واضحة بين سياستي الحياد وعدم الانحياز، فبعد أن تطور مفهوم الحياد خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وتأكد خلال القرن العشرين، برزت سياسة عدم الانحياز، وكان يطلق عليها الحياد Neutrality وأحياناً Neutralism وأحياناً أخرى أضيف إليها تعبير إيجابي، إلا أن الحياد كمفهوم قانوني قد حفدد في مؤتمر لاهاي عام 1907م، حيث يفترض في الدول المحايدة الامتناع عن المساهمة في أي صراع مسلح، أو تقديم أية مساعدات للأطراف المتحاربة وتتمثل الاختلافات بين سياسة عدم الانحياز والحياد في الآتي:
أ. إن أساس الحياد هو اتفاقات دولية أو قوانين داخلية، أي أنه ينبع من أساس قانوني، في حين أن عدم الانحياز يقوم على اعتبارات سياسية وليست قانونية.
ب. إن الشاغل الأساسي للدول المحايدة هو الحرب، والابتعاد عنها في حالة اندلاعها واتباع سياسة تهيئ لهذا الموقف في حالة السلام، أما عدم الانحياز فهو سياسة شاغلها الرئيسي هو وقت السلم، وفي حالة نشوب الصراع المسلح فإن للدولة حرية اتخاذ قرارها.
ج. إن سياسة الحياد كما ظهرت في أوروبا هي سياسة سلبية في المقام الأول، أما سياسة عدم الانحياز كما تبلورت في العالم الثالث فهي سياسة إيجابية في المقام الأول، حيث اضطلعت بعدة مبادرات لتعزيز السلام وتخفيف حدة التوتر الدولي، وتغيير هيكل النظام السياسي والاقتصادي، فهدف الدول المحايدة هو مجرد الحفاظ على حيادها وقت الحرب، أما هدف الدول غير المنحازة فهو بناء عالم جديد.
د. إن الحياد كمفهوم قانوني يترتب عليه حقوق والتزامات بين الدول المحايدة والدول المتحاربة إزاء بعضها البعض، كما أنه يستلزم اعتراف الدول المتحاربة بحياد دولة ما، وإلا فإن ما يعرف بالحياد المسلح للدفاع عن النفس يمكن أن يظهر في الواقع الفعلي.
خامساً: مفهوم العقيدة الإسلامية للحياد الإيجابي وعدم الانحياز:
يقسم الفقه الإسلامي العالم إلى دار إسلام ودار حرب، ويجمع الفقهاء على أن ما دخل في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيه أحكامه وأقيمت شعائره قد صار من دار الإسلام، ووجب على المسلمين في حالة الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً كفائياً بقدر الحاجة وإلا فوجوبها عينياً[2]، وكانوا كلهم آثمين بتركه، وإن الاستيلاء عليه من جانب أعداؤه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وإن طال الزمن، وبذلك تضم دار الإسلام كافة الأراضي والبلاد الإسلامية مهما كانت متباعدة، ورعاياها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أما دار الحرب، فطبقاً للفقه الإسلامي فهي البلاد التي لا يطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية وليس فيها سلطة إسلامية، ولذلك فهي خارج نطاق السلطة الإسلامية، ولقد خرج الإمام الشافعي رضي الله عنه عن هذا التقسيم الثنائي بإضافة دار ثالثة، وهي الدار التي تتمثل في الدول المحايدة، أي التي لا تعتبر دار إسلام ولكنها لا تعادي دار الإسلام، بل تدفع لها الجزية، كما تعتبر دار حرب، دار العهد، أو دار الصلح، وهي الدار التي قصد بها الأمام الشافعي الدار التي لم يسيطر عليها المسلمون، وعقد أهلها الصلح بينهم وبين المسلمين على شيء يؤدونه في أرضهم يسمى خراجاً، دون أن تؤخذ منهم الجزية لأنهم في غير دار الإسلام، ولقد وضح ذلك خلال الفتوحات الإسلامية في بلاد النوبة وصلح أرمينية وكذلك نجران، فقد عقد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صلحاً مع نصارى نجران، أمنهم فيه على حياتهم، وفرض عليهم خراج وقيل أنها جزية.
ورغم اختلاف الفقهاء حول تقسيم العالم، حيث يعتقد بعضهم بعدم وجود ما يسمى بالحياد في الإسلام، والواقع أن الحياد كنظام سياسي قانوني من خصائص سيادة الدولة ولم يعرف إلا حديثاً، إلا أن من دراسة الفقه الإسلامي يظهر وجود فكرة لمبدأ الحياد، تشبه إلى حد كبير نظام الحياد الحالي حيث يوجد حالات حياد من الناحية التاريخية الإسلامية، قائمة على أساس اعتبارات عملية تكون قسماً مستقلاً من العالم يسمى دار الحياد أو عالم الحياد، وهي البلاد التي يوافق العالم على إعفائها من الجهاد وهذا يختلف عن حياد اليوم، وبذلك يكون الحياد المفروض هو الشكل الوحيد من الحياد المسموح به في الإسلام، ويتمثل ذلك في حالة إثيوبيا الحيادية حيث لم يعتبر المسلمون الحبشة سابقاً دار حرب، نظراً للعلاقات الحسنة التي كانت قائمة بين المسلمين الأوائل والأحباش، فقد وفر النجاشي الحماية للمهاجرين إليه من المسلمين من بطش قريش، كما أحسن الرد على كتاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي دعاه فيه إلى الإسلام فأسلم، ومن ثم فإنه لا يمكن اعتبار بلاد الحبشة من دار الإسلام حيث لم تكن أحكام الإسلام مطبقة فيها، كذلك لم تكن دار حرب لمواءمة الإسلام لها، كذلك لا يمكن أن يطلق عليها دار حياد، ولكن يوجد حالة مغايرة لأحكام دار الحرب ودار الإسلام معاً، وخير ما يمكن الاستشهاد به ما جاء في القرآن ]وَإفنْ طَائففَتَانف مفنَ الْمفؤْمفنفينَ اقْتَتَلفوا فَأَصْلفحفوا بَيْنَهفمَا فَإفنْ بَغَتْ إفحْدَاهفمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتفلفوا الَّتفي تَبْغفي حَتَّى تَففيءَ إفلَى أَمْرف اللَّهف[ w (سورة الحجرات، الآية 9). ومن هذه الآية الكريمة يبدو أن الخطاب الموجه إلى الدول التي تقف بعيداً عن الخلافات والنزاعات ويرسم لها الإسلام دوراً محدداً، ولعل هذا الدور الذي حدده الإسلام سابقاً وفي إطار المتغيرات العالمية من تكتلات وأحلاف، فإن أفضل ما يمثله هو الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
سادساً: أيديولوجية القومية العربية وسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز:
تستند القومية العربية في مجالها السياسي إلى مبدأي الاستقلال والوحدة كذلك تقوم على سياسة مستقلة تنبع من مصلحة الأمة العربية ذاتها، وتلك هي سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إلى أي من الكتلتين الغربية أو الشرقية، ويرتبط بذلك المشاركة الإيجابية من أجل تحقيق السلام، وإقرار مبدأ التعايش السلمي بين دول العالم، مهما اختلفت العقائد والمذاهب بينها، وكذلك فإن القومية العربية باعتبارها قومية متحررة فهي قومية محررة في الوقت نفسه، من حيث إنها لا تعمل على التحرر من الاستعمار في الدائرة العربية فحسب، وإنما تحمل مسؤوليات تجاه حركات التحرر في العالم ـ خاصة في الدائرة الأفريقية، وما يتطلب ذلك من مناهضة الاستعمار حينما وجد. ومن خلال اختلاف مفهوم الحياد الإيجابي عن مفهوم الحياد المطلق، فالحياد الإيجابي الذي يعتبر إحدى القواعد الدولية في بناء المذهب القومي العربي يقوم على مبدأين أساسيين هما عدم الانزلاق أو الانحياز إلى أي من الكتلتين الدوليتين المتناهضتين والتعايش السلمي مع الجميع، والمبدأ الثاني إيجاد قاعدة ارتكاز أو جبهة عدم انحياز تحقق التوازن الدولي، بمشاركتها في حل المشكلات الدولية حلاً سلمياً، وتخفيف حدة الصراع الدولي، فالقومية العربية حين نادت بمبدأ وسياسة الحياد الإيجابي لا تعني أن يكون حياداً انفرادياً، وإنما تعني حياداً تحتفظ فيه بحرية حركتها وزيادة فعاليتها وإيجابيتها في إنكار سياسة الاعتداء، ومواجهة التنافس بين الكتلتين الهادف إلى السيطرة على الدول المختلفة، والعمل من جهة أخرى على نصرة قضايا الشعوب الساعية إلى تحررها، فلا يمكن أن يكون هناك حياد بين القومية والاستعمار، ولا بين التعاون القائم على أساس من عدم الاحترام المتبادل، وكذلك مع الاستغلال القائم على أسس غير متكافئة وفرض الهيمنة والسيطرة. والقومية العربية بمقوماتها وأهدافها ومنهجها تحقق فكرة التعاون الدولي والتفاهم الدولي في إطار مبادئ أساسية هي:
1. احترام الاستقلال السياسي لكل دولة، ومراعاة العدالة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
2. حق كل دولة في اختيار ما تراه صالحاً لها من النظم السياسية والاقتصادية.
ويعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي السوري أول حركة سياسية عربية قومية نادت بسياسة الحياد الإيجابي، حيث كان يعترض الحزب على سياسة الأحزاب الشيوعية التي تنادي بالوقوف اللا مشروط إلى جانب الكتلة الشرقية، كما كان يعارض الأحزاب اليمينية والدينية في مناداتها بالوقوف إلى جانب الكتلة الغربية، تحت ستار محاربة الزحف الشيوعي، ولقد حدد حزب البعث العربي الاشتراكي السوري مفهومه عن الحياد الإيجابي خلال المؤتمر القومي الثالث في عام 1959م، والذي تمثل في الآتي:
أ. الحياد الإيجابي هو طريق العرب إلى حماية جبهتهم الوطنية الداخلية، ولنجاح ثورتهم، ومكافحة السيطرة الاستعمارية والتسلط الأجنبي، فالتبعية لأحد المعسكرين الدوليين تؤدي إلى تفسخ هذه الجبهة وإخضاع الثورة العربية لتيارات الحرب الباردة.
ب. الحياد الإيجابي هو طريق العرب إلى ربط ثورتهم بالثورة التحررية المتعاظمة في آسيا وأفريقيا.
ج. الحياد الإيجابي هو طريق العرب للمساهمة في تخفيف حدة التوتر الدولي وإقرار التعايش السلمي، وإبعاد شبح الحرب نهائياً، فالحياد الإيجابي بتكوينه قوى شعبية ضخمة ترفض التبعية، وفكرة اقتسام العالم بين المعسكرين، كما أن فكرة الحياد الإيجابي تخفف من حدة هذا الانقسام، ويوجد منطقة سلام منيعة واسعة تساعد كل معسكر على مواجهة أزمته وتصحيح أوضاعه، وتفرز ظروف التعايش والتقدم الإنساني السلمي.
******************************
[1] يكتب الاسم في بعض المراجع هكذا: Zhou Enlai .
[2] فرض الكفاية يعني إن قام به البعض سقط عن الآخرين إلا في حالة الاحتياج فإنه يكون واجب على الجميع. أما فرض العين فيجب على كل مسلم أن يفعله وإن لم يفعله فهو آثم.
المبحث الثاني : نشأة حركة عدم الانحياز وتطورها التاريخي
نشأت حركة عدم الانحياز في ظل ظروف متعددة ومتغيرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث اشتدت حدة التنافس والصراع بهدف فرض النفوذ، وظهرت الحرب الباردة خلال نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات، وكان للتيارات الفكرية والفلسفية التي سادت بعض مناطق العالم لها تأثير واضح على ظهور الحركة الأفرو ـ آسيوية وحركة عدم الانحياز، حيث بدأت تتضح المعالم السياسية والأيديولوجية لهاتين الحركتين، ولقد ساهمت المؤتمرات القارية سواء كانت مؤتمرات آسيوية أو مؤتمرات أفريقية، في إرساء الأسس السياسية للحياد الإيجابي وعدم الانحياز (أفنظر جدول مؤتمرات دول قارتي آسيا وأفريقيا قبل انعقاد مؤتمر باندونج)، حتى انعقاد مؤتمر باندونج بعد أن أدركت شعوب القارتين بأنها تعاني من مشاكل واحدة ومعبرها واحد وتواجه عدو واحد، ولقد تعددت المؤتمرات القارية التي سبقت مؤتمر باندونج، الذي يعتبر نهاية لمرحلة المؤتمرات الإقليمية محدودة العدد والمحصورة في إطار القارة الواحدة، وهي في أغلبها مؤتمرات آسيوية، بسبب محدودية الدول الأفريقية المستقلة خلال فترة الأربعينيات، وبصفة عامة اتسمت هذه المؤتمرات بعدة ظواهر تمثلت في الآتي:
1. محدودية عدد الدول المشاركة، وهو ما يعكس الاهتمام الإقليمي أكثر من الاهتمام العالمي، وكانت معظم الدول المتواجدة دول آسيوية. كذلك كانت بعض الدول منتظمة في حضور هذه المؤتمرات، والبعض الآخر كان متغير وفقاً لأهمية وأهداف المؤتمر.
2. تحددت أهداف المؤتمر في مناقشة قضية أساسية واحدة، كان منها قضايا حرب الهند الصينية وقضية إندونيسيا، وكذلك قضايا التفرقة العنصرية والاستعمار الغربي.
3. لم يكن لمعظم الدول الآسيوية ميولاً كبيرة لإقامة تنظيمات إقليمية، ويرجع ذلك لرغبتها في إيجاد دوراً فاعلاً في السياسيات العالمية، وبالتالي كان حضورها لتحقيق هذا الهدف.
4. كانت معظم الدول الأفريقية ذات نشأة حديثة، ولذلك كانت نظرتها إلى الوحدة الأفريقية تفوق في جديتها نظرتها إلى الاجتماعات والمؤتمرات الأفرو ـ آسيوية.
بدأت مرحلة التضامن الأفرو ـ آسيوي في إطار سياسة التشاور والتقارب بين الشعوب والدول في قارتي آسيا وأفريقيا، بهدف تحقيق التعاون على كافة المستويات، ومكافحة الاستعمار، وتأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولقد تعزز هذا التضامن في مؤتمر باندونج عام 1955، وأخذت الشعوب الآسيوية ـ الأفريقية على عاتقها مهمة تدعيم هذا التضامن، فأنشئت منظمة هي منظمة تضامن الشعوب الأفريقية ـ الآسيوية، وأقامت لها أمانة عامة، وعقدت مؤتمراتها في القاهرة عام 1957م، وكوناكري عام 1960م، وتنزانيا عام 1963م، وغانا عام 1965م، وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لبدايات التضامن الآسيوي ـ الأفريقي فإنه حقق أهدافه عندما تجاوز حدوده الإقليمية، وتجسد في حركة عدم الانحياز وتضامن دول القارات الثلاث بدخول دول أمريكا اللاتينية. لكن وضح منذ تأسيس منظمة تضامن الشعوب الأفريقية ـ الأسيوية عام 1957م، تأثير الاتحاد السوفيتي والصين عليها، ومع زيادة حدة الخلاف الصيني ـ السوفيتي والصراعات المحلية بين بلدان العالم الثالث نفسها وتبعية العديد من هذه البلدان المستقلة حديثاً شكلياً للغرب، قد ساهم في التأثير على فكرة التضامن الأفرو ـ آسيوي وتفريغها من مضمونها، وكان تأجيل انعقاد مؤتمر الجزائر عام 1965م لأجل غير مسمى قد وضع حداً لهذه المرحلة، حيث اتجهت معظم دول العالم الثالث لاستبدال المؤتمرات الأفرو ـ آسيوية بمؤتمرات بلدان عدم الانحياز.
أولاً: الأسباب المنطقية لسياسة عدم الانحياز:
1. بدأت معالم سياسة عدم الانحياز تتضح في ظل متغيرات عالمية، وضح خلالها زيادة انتشار التوجهات الاشتراكية والشيوعية بينما اختفت الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية، ومن ثم تحتم على الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة السعي لإيقاف انتشار التوجهات الشيوعية. إلا أنه كان هناك رفض واضح للدول المستقلة حديثاً للانضمام إلى الأحلاف المختلفة في توجهاتها، ويرجع ذلك لرغبتها في أن تظل في منأى عن المنازعات، إلا في الحالات التي يطلب إليها أن تتدخل فيها كوسيط، كما أنها رغبت في الابتعاد عن اشتباكات الحرب الباردة، فقد كان هناك في السابق شكلان للسياسة المناهضة للأحلاف، إلا أن سياسة الحياد قد أضافت شكل ثالث مما يؤكد تزايد العداء تجاه الأحلاف بصفة عامة، فكان الشكل الأول المناوئ للأحلاف يقضي بمناهضة أي تحالف مع بلاد معينة، وإن كان يؤيد أو يتسامح مع سياسة الأحلاف بصورة عامة، حيث كان الرفض لحلف بالذات مع إمكانية توسيع نطاق البحث عن حلفاء لتعبئتهم ضد أعدائها. ويقضي الشكل الثاني من السياسات المناوئة للأحلاف بالامتناع عن الدخول في أي حلف مهما كان شكله، ويمكن اتباع هذه السياسة بعد دراسات تشمل الموازنة بين السلبيات والإيجابيات التي قد تتحقق باتباع أي سياسات أخرى، وهذا ما تتبعه دول الحياد التقليدية، ولا تتطلب هذه السياسة في الواقع أن تعارض الدولة التي تتبعها في وجود الأحلاف بين الدول الأخرى، أما الشكل الثالث من الحياد المناوئ للأحلاف فيقوم على معارضة أية تحالفات تعقد حتى ولو كانت بين دول أخرى، وحتى إن لم يكن لا شأن لها بها، حيث ترى أن التنافس على الحلفاء قد يكون سبباً في التوتر الدولي، ومن ثم الوصول إلى حالة الصراع المسلح، خاصة وأن التحالفات تضاعف مجموع القوى وتشجع على استخدامها وتحرض على سباق التسلح، والذي ينعكس بالقطع على معدلات التنمية الداخلية، ولما كانت الأحلاف تقوم على الاشتراك في العداء وليس في الصداقة، فإنها تميل في الغالب إلى التفكك والتمزق، وآنذاك تصبح الحرب وسيلة للحيلولة دون هذا التفكك بين أعضاء الحلف، فإذا كانت سياسة الأحلاف لها انعكاساتها على سياسة الدولة الخارجية، فإنها تؤثر كذلك على الأوضاع الداخلية، ومن ثم فإن تبنى سياسة عدم الانحياز يقوم عل ضوء التقديرات العقلانية للأوضاع التي يتطلبها الأمن القومي والاستقرار الداخلي.
2. لقد تعددت دوافع اتباع سياسة عدم الانحياز، فمع زيادة الصراعات الدولية زاد تخوف الدول الصغرى حديثة الاستقلال من أن تجرفها سياسة الأحلاف إلى اكتساب أعداء جدد، ومما لاشك فيه أن الثمن السياسي للحلف يصبح كبيراً عندما يتجاوز نطاق التفاهم الأولى مع الحليف، ويصل إلى حد اكتساب عداء أعدائه كذلك، ولقد وجدت دول الحياد ودول عدم الانحياز أن تبنيها لفكر مناهض للأحلاف كان في إطار الفكرة الحيادية، التي تؤكد على عدم إمكانية الدول النامية حديثة الاستقلال من خلال جهودها الفردية أو الجماعية في تحقيق أمنها وسلامتها، وخاصة ضد أسلحة الدمار الشامل، وبذلك يكون التضامن الذاتي للدول التي تتبنى سياسة عدم الانحياز في معارضتها للدول العظمى للتحالف معها هو في حد ذاته حلف فعال في الأجواء النووية المحيطة لها. كذلك رأت الدول حديثة الاستقلال التي عملت ضد سياسة الأحلاف أنه يوجد علاقة تربط بين سياسة الأحلاف الغربية وبين الاستعمار الغربي، حيث رأت أن الغرب كان يسعى لإقامة أحلاف تربط بينه وبين الدول التي كانت تستعمرها، وقد تشمل دول لم تكن من المستعمرات في السابق، ومن ثم فإن هذه الأحلاف ستكون صورة جديدة للاستعمار، الذي سيجعل الوجود الغربي دائماً وأزلياً، ولذلك كانت معظم التوجهات والرؤى للدول الحديثة الاستقلال أن أخطار الأحلاف الاستعمارية الجديدة قد تهدد بصورة غير مباشرة كافة دول المنطقة.
3. أدى افتراض تحقيق النصر في الحرب الباردة إلى زيادة الشعور ضد الانحياز، حيث وضح أن معظم حركات التحرر الاستقلالية نجحت إلى حد كبير بسبب الحرب العالمية الثانية التي منيت خلالها الدول الغربية بهزائم أولية، ولكنها تمكنت من الانتصار، وقد أكد ذلك للحياديين إمكان انتصار الغرب على الكتلة الشرقية في النهاية ولذا فهو ليس في حاجة إلى أية مساعدة، ومن ثم أصبح لزاماً على الدول التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية أن تستخدم نفس أساليبها في نيل استقلالها، حتى تثبت دعائم هذا الاستقلال وتأكيده. ومن ثم كان تفهم الدول حديثة الاستقلال بخطورة الحرب الباردة والتي هي في الأصل بديلاً عن الحرب العالمية الثالثة والتي كانت في صورة تنافس اقتصادي أثرت على بناء الدول النامية.
4. وكان إعلان العديد من قادة دول عدم الانحياز عن خوفهم من السيطرة الشيوعية، وكذلك سخطهم على الإرهاب النووي السوفيتي جزءاً لا يتجزأ من سياسة عدم الانحياز، ومن ثم دفعهم هذا الخوف إلى الحيطة والحذر وكان سبباً واضحاً من أسباب المواقف اللا انحيازية، لكن انعدام الخوف يمكن أن يكون كذلك سبباً من أسباب اللا انحياز، خاصة عندما يكون الابتعاد عن الكتلة الشيوعية أحد العوامل التي تحقق المناعة من مخاطرها، ومن ثم فإن جوانب كثيرة من العقائد الحيادية في الأمن الدولي ترتكز إلى درجة متفائلة من الثقة في الحماية الذاتية.
5. وفي إطار ميل العديد من الدول حديثة الاستقلال إلى تدويل سياساتها الخارجية، على غرار التركيب الحزبي الداخلي التي كانت تتحالف مع مختلف القوى الخارجية وتتلقى العون المادي والمعنوي منها، فإن سياسات عدم الانحياز والحياد الإيجابي ليست إلا من وسائل المعارضة لمثل هذه الاتجاهات، ومن المفروض أن يؤدي عدم الانحياز إلى تعزيز الوضع الدولي للدولة، ومن ثم إلى تقوية السلطة الداخلية لنظام الحكم، كما تؤدي هذه السياسة كذلك إلى تحقيق الاستقرار على المدى القصير، ويستهوي الأساس اللاانحيازي الأحزاب الوطنية والتقليدية، كما يعمل على عزل الصراعات الحزبية والإقليمية في البلاد عن مشاكل التدخل الخارجي، وكلما كانت المتاعب الداخلية أكثر حدة زاد الميل إلى تجاوز حدود عدم الانحياز إلى سياسة الحياد النضالي، ومما لاشك فيه أن الخوف من الانقسامات الداخلية هو أحد الأسباب في تنمية الروح النضالية التي تسيطر على حكومات الدول الحديثة التي لم تتعزز وحدتها الداخلية بعد، ويوفر الحياد كسياسة خارجية فعالة محوراً للتماسك الداخلي، كما يحد من المعارضة الداخلية للحكومات، يضاف إلى ذلك أن سياسة الحياد النضالي كانت تستهوي الكثير من الدول الحديثة كرد فعل طبيعي لتبعية أيام الاستعمار السابقة.
ثانياً: رؤية الزعامات التاريخية لسياسة عدم الانحياز:
لم يكن العداء الاستعماري إلا رد فعل سياسي ونفسي للسيطرة السياسية الأوروبية السابقة والتسلط الاقتصادي، فكان تمجيداً للاستقلال الذي تحقق، وكذلك مطالبة بالحرية والاستقلال للدول التي مازالت تعاني من التبعية للاستعمار، أما في الإطار الأفريقي ـ الآسيوي كان انعكاساً لصراع سياسي ومذهبي يتحتم خلاله أن يتعزز الموقف بين الانحياز وعدم الانحياز، وكذلك موقفها من الحرب الباردة التي اعتبرها الزعماء التاريخيين لسياسة عدم الانحياز، جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو والسياسي الغاني كوامي نكروما Kwame Nkrumah أنها لا تقل خطورة عن الاستعمار، وقد اختار كل منهم سياسة عدم الانحياز لرغبته في الاحتفاظ باستقلال بلاده وحيادها الذي لا يميل إلى الكتلة الشيوعية ولا إلى التحالف الغربي، ولقد رأى الزعماء التاريخيين لسياسة عدم الانحياز التي تعبر عن مصلحة ذاتية متفتحة، تحقق العديد من المزايا للدول الغير منحازة على الصعيد العسكري تتمثل في الآتي:
1. تضمن سياسة عدم الانحياز الحرية السياسية والاستقلال، كما تسهم في تعزيز المكانة الوطنية.
2. تتيح سياسة عدم الانحياز حرية العمل، بعكس الانتماء إلى الأحلاف التي تحد من هذه الحرية.
3. تحقق سياسة عدم الانحياز الابتعاد عن التورط في الصراعات الكبرى التي تعنيها.
4. يزيد الانحياز من المشاكل المحلية الداخلية ويجعلها عسيرة الحل.
5. تحول الأحلاف بما تنطوي عليه من التزامات عسكرية، عن متطلبات التنمية الاقتصادية الضرورية والملحة، في إطار موارد محدودة لدى الدول حديثة الاستقلال.
6. تكون الدول اللا منحازة في موقف أفضل يمكنها من تقبل أو تطلب العون الاقتصادي من طرفي الصراع في الحرب الباردة.
رغم أن زعماء حركة عدم الانحياز يعللون اتباعهم لهذه السياسة بمقتضيات الحاجة والمصلحة القومية، والمبادئ الأخلاقية السامية، ويؤكد كل منهم أن الرغبة في عدم الانحياز هي ثمرة طبيعية لتاريخ شعبه المميز، كما يعترفوا بأن متطلبات السياسات العالمية والاهتمام بالمصالح القومية تشير كلها إلى أن سياسة عدم الانحياز هي أفضل السياسات، إلا أنهم لم يتشابهوا كل التشابه في تقديراتهم لسياسة عدم الانحياز، فكان نهرو يميل إلى تبرير سياسته على صعيد المبادئ الأخلاقية العالمية الشمولية، لا على صعيد المصالح القومية، أما عبدالناصر ونكروما فكانا أقل ميلاً إلى مثل هذا التبرير، حيث أكد كل منهما على أن سياسة عدم الانحياز وتأييدهما للتعايش السلمي سيؤثران على أوضاع الصراع بين الشرق والغرب، ويحدان من احتمالات الحرب النووية، بل وتضع حداً كبيراً للحرب الباردة.
حدد زعماء حركة عدم الانحياز أربعة أهداف أساسية يسعون لتحقيقها هي تثبيت دعائم استقلالهم السياسي، والقضاء على الاستعمار الأوروبي، وتنمية اقتصادهم الوطني، والقيام بدور خاص إما فرادى أو مجتمعين في محاولة لتسوية الصراعات بين الدول الكبرى، وقد تعرضت سياسة عدم الانحياز لعدة اختبارات وإن كان تطبيقها قد تأثر ببعض الأحداث، إلا أن الزعماء الثلاثة قد استمروا على سياستهم الحيادية، وكان كل منهم يؤمن بأن نظريته قد باتت عميقة الجذور، بحيث تمكنه من دعم سياساته المتبدلة، التي كان يرسمها أحياناً لمواجهة الظروف السريعة التغيير والتحول على الساحة الدولية. وقد كان نهرو أكثر اهتماماً من عبدالناصر ونكروما باحتواء الأخطار الناجمة عن الاستقطاب النووي، إلا أنهما قاما بتأييد جهوده السلمية في الأمم المتحدة، ويعتبر نهرو من المنفذين لسياسة الوساطة كأسلوب أمثل لحل المشاكل العالمية واحتواء منازعات الحرب الباردة، أما عن نكروما فإنه لا يؤيد كثيراً قيام دول عدم الانحياز بدور الوساطة في الحرب الباردة، ولكن طالب بإيجاد قوة ثالثة غير نووية تضم دول عدم الانحياز، وتعمل كقوة عازلة للحروب بين الكتلتين الشرقية والغربية، وكان يرى أنه على الكتلة الثالثة التي تضم الدول الأفريقية والآسيوية أن تدعم القضايا التي تعزز السلام والأمن الدوليين، وأن تقوم بالضغط الأوروبي على الكتلتين الرئيسيتين لمنعهما من دفع الدول المختلفة إلى حرب مفجعة، ويعارض نهرو، نكروما في تكوين قوة ثالثة منظمة، حيث كان يعتبر نفسه الفاعل الأساسي والناطق الرئيسي باسم تجمع حيادي طارئ ويتعمد الإبقاء عليه غامضاً، كما إن عبدالناصر لم يظهر اهتماماً كبيراً باقتراح نكروما الخاص بتكوين قوة ثالثة أو بجهود نهرو للوساطة لاحتواء الحرب الباردة، إذ أن اهتمامه كان منصرفاً إلى قضايا أخرى أكثر صلة ببلاده، وكان يعارض تكوين كتلة حيادية ويطالب بتطبيق سياسة عدم الانحياز أولاً، قبل أن يصبح العالم ثلاث كتل بدلاً من اثنتين.
عارض كل من نهرو وعبد الناصر ونكروما النشاط العسكري الذي ينطوي على المواثيق والتعاون العسكري، فلقد رأى نهرو أن المواثيق العسكرية في كافة صورها تؤدي إلى زيادة التوتر والمخاوف، ولذلك كان يعارض جميع الأحلاف العسكرية بما فيها حلف شمال الأطلسي، وحلف جنوب شرق آسيا، وحلف بغداد، وحلف وارسو، والميثاق السوفيتي ـ الصيني، كما عارض سباق التسلح والمنافسات بين الدول الكبرى، كما أكد عبدالناصر على أن سياسة الكتل والمواثيق العسكرية تؤدي في النهاية إلى سباق تسلح، يخلق مزيد من التوتر، لذلك فإنه عارض حلف بغداد، حيث طالب بأنه إذا كان لابد من عقد مواثيق دفاعية في العالم العربي، فإن هذه المواثيق يجب أن تكون عربية خالصة. كما كان يصر نكروما على أن سياسة الكتل والمنافسات ستزيد حدة الخلافات الدولية وكان يحذر الدول الأفريقية من الدخول في مواثيق دفاعية مع دول خارجية، لأن ذلك يهدد الوحدة الأفريقية وينقل ساحة الحرب الباردة إلى القارة الأفريقية.
أجمع أبرز زعماء عدم الانحياز الثلاثة على معارضتهم للتسلح النووي، وتأييدهم لاقتراحات نزع السلاح، وبالرغم من أن الآراء المتعلقة بنزع السلاح والتي أعلنوها في دورة الأمم المتحدة عام 1960م، كانت تتفق بصورة عامة مع مواقفهم، حيث أيد نهرو عقد اتفاق على منع التجارب النووية كما طالب عبدالناصر بوضع حد لهذه التجارب مع إيجاد نظام للإشراف والمراقبة يؤدي إلى تحقيق السلام والأمن الدوليين، كما دعا إلى الخفض المستمر في نفقات التسليح. كما أكد نكروما على النتائج الاقتصادية السلبية الناجمة عن سباق التسليح والدور الذي تستطيع دول عدم الانحياز أن تؤديه في مجال الإشراف على التسليح ومراقبته.
من تحليل آراء نهرو وعبد الناصر ونكروما في سياسة عدم الانحياز نجد أنها تميزت بعدة خصائص أثرت على السياسات الخارجية لكل من الهند ومصر وغانا في الآتي:
أ. كانت القومية هي الهدف الأساسي لجميع دول عدم الانحياز، حيث كانت تسعى لبناء دولة قومية قادرة على توطيد استقلالها السياسي وتأمين تنميتها الاقتصادية، ولذلك كان النضال الأساسي لدول عدم الانحياز هو صراع بين القومية والاستعمار، وليس الصراع بين المعسكر الشرقي والغربي، حيث كان يعتبر الاستعمار هو الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالحها وأهدافها.
ب. لم تكن سياسة عدم الانحياز إلا انعكاس للحرب الباردة، حيث عملت دول عدم الانحياز على نشأة كتلة ثالثة تمثلت في الحياد الأفرو ـ آسيوي، خاصة بعد تأثر السياسات الخارجية للدول الحديثة الاستقلال بالماضي الاستعماري من جانب، وبالحرب الباردة من جانب آخر، إلا أن بعض الدول كان لها ميلاً واضحاً إلى جانب المعسكر الشرقي، على حين تميل دول أخرى إلى جانب المعسكر الغربي.
ج. وضح اقتناع قادة الدول الحديثة الاستقلال ذات التوجهات اللاانحيازية أن هذه السياسة هي المثلى لتحقيق مصالحهم القومية، وعلى الرغم من أن زعماء حركة عدم الانحياز نهرو ـ عبدالناصر ـ نكروما يعترفون بأن الحكمة والحاجة تمليان السياسة الحيادية، إلا أنهم كانوا يفسرون دائماً عدم انحيازهم في السياسات الخارجية والداخلية ويبررونه على صعيد المبادئ الأخلاقية السامية وأن هذه السياسة هي السبيل الأمثل لإسهام بلادهم في السلام العالمي.
د. رغم انعكاس آثار الحرب الباردة على معظم الدول، ومنها دول عدم الانحياز، إلا أن بعضها تمكن من تحقيق نفعاً محدوداً على المدى القصير، حيث تلقت بعض المعونات الاقتصادية من المعسكرين الشرقي والغربي، ولو لم تكن هناك حرب باردة، لكانت المساعدات التي تلقتها دول عدم الانحياز أقل بكثير مما حصلت عليه فعلاً. كما أن بعض دول عدم الانحياز استطاعت التمتع بميزة اقتصادية من جراء عدم ارتباطها العسكري بأي من الكتلتين، إذ أن بقاءها غير منحازة أدت إلى خفض نفقاتها العسكرية.
هـ. كان إسهام دول عدم الانحياز في الحفاظ على السلام العالمي والاستقرار محدوداً بعض الشيء، حيث لم يكن هناك جهوداً للتوسط في خلافات الدول الكبرى بفاعلية إلا عندما تكون الدول الكبرى راغبة في تسوية خلافاتها، حيث كان يجري التوصل إلى اتفاق من طريق الوسائل الدبلوماسية العادية دون الحاجة إلى وساطة، ويتحدد بذلك دور دول عدم الانحياز بالمشاركة في فرق المراقبة الدولية التابعة للأمم المتحدة.
و. كانت تتوقف درجة وحدة الكتلة الأفرو ـ آسيوية في سياستها الخارجية ضمن كتلة عدم الانحياز على أبعاد المشكلة المعروضة، حيث كانت تقترع هذه الدول كثيراً في الأمم المتحدة ككتلة واحدة لأنها كانت تتجاوب إما مع قضايا مناهضة الاستعمار، أو مع إقرار عام يتناول شؤون السلام، ولكن هذه الوحدة المرتكزة على عداء الاستعمار والرغبة في تحقيق السلام العالمي كانت تنهار وتظهر الاختلافات عندما تكون المشكلة مؤثرة على مصالح وصراعات محلية وإقليمية.
ثالثاً: الإطار الدولي لنشأة سياسة عدم الانحياز:
إن عدم الانحياز ليس مفهوماً سلبياً فهو ليس حياداً، ولم يكن سياسة القوى أو الانعزال، بل هو تعبير عن حركة دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تهدف إلى تحويل النظام الدولي بما يحتويه من صراعات إلى نظام يقوم على العدالة لخدمة مصالحهم القومية، من أجل بناء اجتماعي واقتصادي قوي، وكذلك إقامة نظم سياسية صالحة، ولقد كانت البيئة الدولية السائدة سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها ذات تأثير بالغ على نشأة سياسة عدم الانحياز، حيث تميز الوضع السياسي في المرحلة الأولى اللاحقة على الحرب العالمية الثانية، وخاصة في نهاية الأربعينيات وفترة الخمسينيات بالآتي:
1. ظهرت القوة النووية كأداة للصراع المسلح حيث ألقيت أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما في 6 أغسطس 1945م، وألقيت القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكى في 9 أغسطس 1945م ، وانعكس ذلك على أساليب الحرب، مما أدى إلى تسابق في تطوير وسائل التدمير، حيث أمكن التوصل لصناعة القنبلة الهيدروجينية عام 1952م.
2. انقسم العالم إلى معسكرين، وظهرت معالم الحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انقسم الحلفاء لاختلاف توجهاتهم الأيديولوجية، حيث كانت بداية انتشار الفكر الشيوعي في أوروبا الشرقية منذ عام 1949، وبدأت الثورة الشيوعية في الصين عام 1949م، وبدأت حركة التحرر الوطني في فيتنام ونشبت حرب كوريا عام 1950.
3. أدى تسابق المعسكرين الشرقي والغربي من أجل التسلح والسيطرة وإيقاف توسع المعسكر الآخر إلى وضوح معالم الحرب الباردة، والتي كانت عبارة عن صراع دولي غير مسلح يقوم على التهديد باستعمال القوة، وكان ينعكس ذلك على زيادة حدة التوتر التي تجعل من الصراع المسلح احتمال قريب الحدوث، ولقد تمثلت معالم الحرب الباردة في الإذاعات العدائية والدعايات المثيرة، وتناول الاتهامات والتصرفات العدائية بين الزعماء والقادة، وتوجيه الإنذارات والتهديدات بين الدول، وسرعة حشد القوات العسكرية في مناطق التوتر.
4. حققت الولايات المتحدة الأمريكية سبقاً نووياً في بداية الحرب الباردة حتى استطاع الاتحاد السوفيتي تحقيق تفجيره النووي عام 1953م، ثم تسابق الطرفان في تفجيراتهما الهيدروجينية عام 1954م، إلا أن الاتحاد السوفيتي حقق تفوق في الفضاء بإطلاق أول قمر صناعي عام 1957م.
5. ظهرت بعض الدول التي كان لها موقف خاص في بداية الحرب الباردة ومنها يوغسلافيا، حيث سعى جوزيف بروز تيتو منذ عام 1948م للمحافظة على استقلالية بلاده من النفوذ السوفيتي رغم توجهاته الشيوعية، وواجه عداء الكتلة الشيوعية، كذلك لم يقبل المساعدات التي عرضتها عليه الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد ساعد ذلك على تبلور سياسة الحياد وعدم الانحياز.
6. برزت معالم سياسة الأحلاف العسكرية خاصة بعد سلسلة المعاهدات التي أبرمها الاتحاد السوفيتي في عام 1943م، مع تشيكوسلوفاكيا، وفي عام 1945م مع يوغسلافيا وبولندا، الأمر الذي اعتبر قيام تجمع دولي يقوده الاتحاد السوفيتي، وتمثل الرد الغربي في معاهدة بروكسل للضمان الجماعي عام 1948م بين كل من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولكسمبورج، ثم كانت معاهدة حلف شمال الأطلسي بين دول معاهدة بروكسل وكندا وإيطاليا والدانمارك والنرويج والبرتغال وأيسلندا إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
7. مع تبلور معالم الحرب الباردة وآثارها عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إيقاف المد الشيوعي واحتوائه بسلسلة من الأحلاف والمعاهدات الدولية والتي تمثلت في الآتي:
أ. معاهدة شمال الأطلسي عام 1949م، وانضمت إليها كل من تركيا واليونان عام 1951م، ثم ألمانيا الغربية عام 1955م، وعمد هذا الحلف إلى تعزيز ودعم قوة أعضائه العسكرية حيث تبنى سياسة عسكرية تقوم على التسلح النووي.
ب. حلف البلقان بين تركيا واليونان ويوغسلافيا عام 1953م، وبهدف إيجاد تعاون دولي ضد الحظر الشيوعي. إلا أن هذا الحلف سرعان ما تفكك بسبب نبذ يوغسلافيا لسياسة الأحلاف
ج. حلف جنوب شرق آسيا، والذي سعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلاله حصار النجاح الشيوعي في الصين، وتعاظم حركات التحرر الوطني في آسيا، وتكون هذا الحلف من استراليا وفرنسا ونيوزيلندا وباكستان والفليبين وتايلاند والولايات المتحدة الأمريكية، ووقعت هذه الدول على معاهدة جنوب شرق آسيا للدفاع الجماعي في مانيلا عام 1954م.
8. اعتمد الأسلوب السوفيتي في التوسع على مساعدة الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا، وبوصولها للسلطة تعقد الاتفاقات معها، حيث تمكنت من توقيع معاهدات ثنائية مع كل من تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا خلال عامي 1943م ـ 1945م، كذلك قامت يوغسلافيا بعقد عدة معاهدات مع كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا والمجر وبلغاريا خلال عامي 1946م ـ 1947م، كذلك تمكن الاتحاد السوفيتي من عقد معاهدات ثنائية مع كل من رومانيا والمجر وبلغاريا وفنلندا عام 1948م. وتلاحظ خلال هذه المرحلة انفصال يوغسلافيا عن الكومنفورم الشيوعي، ومن ثم ألغى الاتحاد السوفيتي معاهدته معها عام 1948م.
9. إزاء قيام حلف شمال الأطلسي ونشأته ككتلة يضم ألمانيا ، بدأ الاتحاد السوفيتي في الشعور بأن المعاهدات الثنائية أصبحت غير مناسبة، لذا عمل على تكوين حلف وارسو عام 1955م، والذي تكون من الاتحاد السوفيتي وألبانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وبولندا ورومانيا، إضافة إلى إعلان الاتحاد السوفيتي عن مشروع مولوتوف للتعاون الاقتصادي مع دول شرق أوروبا لمواجهة مشروع مارشال، ثم أنشأ مجلس المعونة الاقتصادية المتبادلة "الكوميكون" عام 1949م للإشراف على مشروع مولوتوف. كذلك كون الكومنفورم.
10. كان نشأة عصبة الأمم عام 1920م بهدف تحقيق السلام الدولي ومنع الحروب وتنشيط التعاون بين الدول، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م واستمرارها لمدة ستة سنوات، حتى أمكن عقد مؤتمر سان فرانسسكو عام 1945م، لوضع نظام دولي جديد والتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م، والذي أوضح أهدافها في الآتي:
أ. حفظ السلم والأمن الدوليين.
ب. إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس المساواة بين الدول.
ج. تحقيق التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لكن رغم الآمال التي كانت معقودة على الأمم المتحدة كمنظمة دولية تستطيع القيام بدور فعال في حفظ السلام زادت حدة التوترات والصراعات الدولية ومنيت خلالها بإخفاقات متعددة.
رابعاً: الإطار العربي لنشأة سياسة عدم الانحياز:
لقد عانت المنطقة العربية من السيطرة الاستعمارية، حيث تقاسمتها العديد من الدول الاستعمارية بريطانيا ـ فرنسا، ونظراً لوضوح معالم الحركات الوطنية العربية المطالبة بالاستقلال، عملت القوى الغربية لإقامة الأحلاف الهادفة إلى فرض سيطرتها على المنطقة، ومن ثم عرضت أشكال مختلفة لهذه الأحلاف تختلف في الآتي:
1. مشروع قيادة الشرق الأوسط، على أساس إنشاء منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط تضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والدول العربية وإسرائيل وجنوب أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا، على أن تكون مصر مقر قيادة قوات المنظمة التي تخصصها الحكومات، إلا أن مصر عارضت هذه المنظمة عام 1951.
2. حلف بغداد، الذي تطورت الدعوة لإقامته عبر مراحل مختلفة، أولها كان عقد اتفاقات ثنائية بين العراق وتركيا في فبراير عام 1955م لإقامة حلف بينهما للمساعدة في الدفاع الجماعي عن النفس طبقاً لميثاق الأمم المتحدة، وانضمت المملكة المتحدة للحلف في مايو 1955م، وتبعتها باكستان في يوليه 1955م، ثم إيران في نوفمبر 1955م، وانضمت الولايات المتحدة للجنة العسكرية واللجان الأخرى في عام 1957م، وكانت هي المصدر الأساسي لتسليم أعضاءه ورسم إستراتيجيتهم.
3. مبدأ إيزنهاور، الذي أعلن أثر إخفاق العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، والذي يسمح من خلاله استخدام القوات الأمريكية في الشرق الأوسط إذا كانت هناك ضرورة، على أن يرتبط ذلك بتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية لدول الشرق الأوسط التي توافق على المبدأ ولقد قام مبدأ أيزنهاور على أساس عدة اعتبارات هي:
أ. ملء الفراغ الذي نتج في الشرق الأوسط بعد انتهاء الاستعمار الإنجليزي والفرنسي ويجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تشغل هذا الفراغ.
ب. عدم تحديد المقصود بالشرق الأوسط لذا اختلفت حدود منطقة الشرق الأوسط والتي شملت المنطقة من مضيق جبل طارق حتى بحر العرب ومن تركيا حتى المملكة العربية السعودية، كما قد تمتد لتشمل إثيوبيا وغيرها.
ج. تترك عملية تحديد ضرورة التدخل الأمريكي حسب تقدير السلطة الأمريكية.
ولقد قبلت المشروع كل من لبنان ودول حلف بغداد، وقد عارضه كل من مصر وسورية والأردن واليمن، وطرح جمال عبدالناصر نظرية الحياد وعدم الانحياز كبديل أساسي لنظرية الأحلاف التي سعت الكتلتين لفرضها على المنطقة.
المبحث الثالث : الإطار المؤسسي لحركة عدم الانحياز
اتسمت حركة عدم الانحياز منذ نشأتها بأنها تجمع اختياري حر للدول حديثة الاستقلال والتكوين، والتي سعت إلى الحفاظ على استقلالها وسيادتها، ومن ثم كانت معارضة أعضاء هذه الحركة لسياسة التكتل والأحلاف الدولية، ولقد تميزت سياسة عدم الانحياز بوجود إطار مؤسسي له خواصه ومميزاته التي تختلف عن التنظيمات الإقليمية والدولية التي اتصفت بالآتي:
1. وجود تنظيم إقليمي أو دولي له إطار مؤسس، ونظام للعضوية محدد يختص بالقبول والفصل والإيقاف، وأسلوب الإدلاء بالأصوات واتخاذ القرارات، واللوائح المنظمة للإجراءات.
2. كان الهدف الأساسي للتنظيمات الإقليمية والدولية هو توفير الحماية العسكرية للدول الأعضاء من خصومهم، وارتبط ذلك بالصراع والاستقطاب الدولي.
3. رغم أن التنظيمات الإقليمية والدولية تأخذ بقاعدة المساواة، إلا أنه من الناحية العملية تقوم على أسلوب الدولة القائدة، وبذلك يكون هناك اختلافات وتمايز بين أطراف التنظيم أو التحالف من حيث القوة الاقتصادية أو العسكرية أو النفوذ السياسي، وانعكس ذلك في أداء المنظمات الدولية والإقليمية.
لم يقنع بالاعتبارات السابقة مؤسسي حركة عدم الانحياز، حيث رأوا أن معظم أشكال وصور التجمعات الإقليمية والدولية ليست إلا دعوة للاستقطاب الدولي، الهادفة إلى فرض السيطرة الإقليمية أو الدولية، ولذلك وجهوا اهتمامهم إلى الأهداف والغايات أكثر من اهتمامهم ببناء الهيكل التنظيمي والمؤسسي، ولم يستقر على تحديد التوصيف منذ اللقاءات الأولى، من حيث كونه حركة أو جماعة أو تنظيم، واكتفي عند النشأة بتسمية مؤتمر كتعبير محايد عن نوعية اللقاء، وبذلك تكون حركة عدم الانحياز منذ نشأتها تفعبر عن اتجاه سياسي تمثل في الآتي:
1. إن سياسة عدم الانحياز تمثل التوجهات السياسية للدول النامية حديثة الاستقلال.
2. تطورت سياسة عدم الانحياز بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى مرحلة التأثير الدولي في ظل الحرب الباردة، وطورت من برامجها لتحقيق مبادئها في الاستقلال الشامل.
3. حظيت سياسة عدم الانحياز باهتمام التجمعات الدولية بعد أن كانت تعتبرها منذ نشأتها انتهازية، ورجع هذا الاهتمام بعد تعميق جذورها وتزايد عضويتها ودورها الذي تؤديه.
أولاً: نظام وقيود العضوية في حركة عدم الانحياز:
في المؤتمر التحضيري لحركة عدم الانحياز الذي عقد في القاهرة في 5 يونيه 1961م، وحضره 22 دولة، تحددت معايير العضوية في حركة عدم الانحياز، والتي على أساسها وجهت الدعوة للدول المشتركة في مؤتمر بلجراد، وتمثلت هذه المعايير الخمسة في الآتي:
أولاً: أن تكون الدولة قد انتهجت سياسة مستقلة مبنية على التعايش السلمي بين الدول ذات النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، وأن تكون قد أظهرت اتجاهات نحو هذه السياسة.
ثانياً: أن تكون الدولة مؤيدة باستمرار لحركات التحرر الوطني.
ثالثاً: ألا تكون الدولة عضواً في حلف عسكري متعدد الأطراف، في نطاق الصراع بين الدول الكبرى.
رابعاً: إذا كانت الدولة طرفاً في اتفاقية عسكرية ثنائية مع دولة كبرى، أو إذا كانت عضواً في حلف إقليمي، فإن الاتفاق أو الحلف يجب ألا يكون قد عقد في نطاق منازعات الدول الكبرى.
خامساً: إذا كانت الدولة قد سمحت بوجود قواعد عسكرية لدولة أجنبية كبرى، فإن هذا السماح يجب ألا يكون في نطاق منازعات الدول الكبرى.
وقد تميزت هذه المعايير بالمرونة بدرجة كبيرة، حيث إنها لم تستبعد الدول التي كانت بها قواعد عسكرية، ولكن اشترطت ألا تكون هذه القواعد في إطار سياسات القوى الكبرى، كذلك لم تؤكد على أهمية انتهاج الدولة سياسة مستقلة، بل اكتفت بأن تعلن الدولة رغبتها عن تبني هذه السياسة، كذلك يلاحظ أن هذه المعايير التي حفددت لم تكن مرنة في صياغتها فقط، بل كانت مرنة في إطار التطبيق العملي أيضاً، فلم تفثار التساؤلات حول العديد من الدول التي كان لها توجهات مخالفة لسياسة عدم الانحياز، وبعد تحديد هذه المعايير عفقدت لجنة على مستوى السفراء للدول المشتركة في المؤتمر التحضيري بالقاهرة يوم 21 يونيه عام 1961م، لتحديد الدول التي ستوجه الدعوة إليها لحضور مؤتمر عدم الانحياز، ولقد قامت كل من مصر ويوغسلافيا وإندونيسيا بالدعوة للمؤتمر الذي عفقد في بلجراد أول سبتمبر 1961م، واشتركت فيه 25 دولة بصفة عضواً، وهي مصر ويوغسلافيا والهند وإندونيسيا وأفغانستان والجزائر وبورما وكمبوديا وسيلان وكوبا وقبرص وإثيوبيا وغانا وغينيا والعراق ولبنان ومالي والمغرب ونيبال والمملكة العربية السعودية والصومال والسودان وتونس واليمن والكونغو، إضافة إلى ثلاث دول حضروا كمراقبين وهم بوليفيا والبرازيل والإكوادور.
أخذت عملية الانضمام لعضوية حركة عدم الانحياز عدة صور من خلال حضور مؤتمرات الحركة، فكانت الصورة الأولى مشاركة الدول كأعضاء عن طريق دعوة الدول ذات العضوية الدائمة، ويقوم بتوجيه الدعوة نيابة عنها إما مجموعة الدول الداعية أو الدولة المضيفة، وكانت تجرى كافة المراحل الإجرائية للانضمام للحركة خلال مؤتمر تحضيري، يعقد قبل عقد مؤتمر قمة الحركة، أما الصورة الثانية فكانت الحضور بصفة مراقب وكانت توجه الدعوة للدول التي تنطبق عليها معايير العضوية، ولكنها بمحض إرادتها لم تكن راغبة في الحضور، وكذلك الدول التي لا تنطبق عليها كافة معايير الانضمام، ولكنها ترغب في المشاركة، أما الصورة الثالثة للمشاركة فكانت الحضور بصفة ضيف، وفي مقدمة المشاركين في هذه الصفة حركات التحرر الوطني، إلا أنه يلاحظ عدم وجود معايير خاصة بالمشاركين بصفة مراقبين أو ضيوف، كذلك اختلف التوصيف بالنسبة لحركات التحرر، فكانت تدعى للحضور دون توصيف في مرحلة من مراحل الحركة الأولى، ثم يفجرى توصيفها كضيوف في مراحل تالية، حيث إن صفة المشاركة والعضوية لم تكن واضحة لقادة الحركة المؤسسين، وإنما تطورت بتطور الاجتماعات، إلا أن توجيه الدعوات للحضور والمشاركة كان يتقرر خلال المؤتمرات التحضيرية، التي كانت تسبق مؤتمرات القمة للحركة، ونظراً لأن حركة عدم الانحياز ظهرت وتطورت أساساً كحركة مناهضة لاختلال التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الدولي، لذا فإنها لم تضع قواعد ملزمة لعضويته، وكذلك لم تحدد حالات إيقاف العضوية أو فصل أحد أعضائها أو المطالبة بذلك، وكذلك حالة الانسحاب من الحركة.
لقد مرت عملية الانضمام للحركة بعدة مراحل، حيث كان هناك تزايد مستمر للدول الأعضاء في الحركة، ففي عام 1961م كان هناك ثلاث دول ذات عضوية دائمة في الحركة قامت بتوجيه الدعوة لعقد مؤتمر القمة الأول التأسيسي، لحركة عدم الانحياز في بلجراد واشترك فيه خمس وعشرون دولة بصفة عضو، كذلك شارك في المؤتمر ثلاث دول بصفة مراقب، وفي الفترة من 5 – 10 أكتوبر 1964م من خلال مؤتمر القمة الثاني للحركة الذي عقد في القاهرة ارتفع عدد الدول الدائمة العضوية إلى عشرة دول معظمها من أمريكا اللاتينية باستثناء فنلندا، وبينها دولة اشتركت في المؤتمر الأول ولم تشترك في المؤتمر الثاني وهي الإكوادور، واشترك في المؤتمر سبعة وأربعون دولة بصفة عضو، أما عدد الدول المشاركة بصفة مراقب كانت عشرة دول، وبذلك كان هناك زيادة اثنين وعشرون دولة في عدد أعضاء الحركة، ويلاحظ أنه من بين الدول التي انضمت للحركة خلال هذه المرحلة ستة عشر دولة أفريقية حصلت على استقلالها، إضافة إلى ستة دول عربية ودولة آسيوية، وتعتبر هذه المرحلة هي قمة المد التي وصلت إليها حركة عدم الانحياز في إطار تصديها للاستعمار في كل المناطق التي تنتمي للعالم الثالث، وقد شعرت الولايات المتحدة بخطورة حركة عدم الانحياز وتفاعلاتها الدولية في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا، التي كان الاستعمار الأمريكي يرى أنه الوريث الطبيعي للاستعمار الأوروبي فيها، ولقد تبلور موقفها في انقلاب البرازيل الذي سبق مؤتمر بلجراد، والذي كان هدفه منع اشتراك البرازيل كعضو عامل في حركة عدم الانحياز، واعتبر ذلك إنذاراً لكل دول أمريكا اللاتينية، ومن ثم كان أحد الأسباب التي جعلت دول أمريكا اللاتينية تكتفي بعضوية الحركة كمراقب فقط، ويلاحظ خلال هذه المرحلة أنه أمام شعبية قيادة الحركة ومواقفهم المناهضة للاستعمار، أصبحت هذه السياسة ذات جاذبية خاصة لدول العالم الثالث حتى أصبحت كل دولة تحصل على استقلالها لا تجد أمامها سبيلاً لتأكيد استقلالها سوى الإعلان عن انضمامها لحركة عدم الانحياز، وخلال هذه المرحلة فقدت الحركة قبيل عقد المؤتمر الثاني واحداً من أبرز قادتها وهو الزعيم الهندي نهرو.
في الفترة من 8 - 10 سبتمبر 1970م انعقد مؤتمر القمة الثالث في لوساكا عاصمة زامبيا، واشتركت فيه أربعة وخمسون دولة بزيادة سبع دول عن مؤتمر القمة الثاني، ولكن كان الانضمام الفعلي ثلاثة عشر دولة، حيث كان هناك دولاً لم تحضر المؤتمر الثالث رغم اشتراكها في المؤتمر الأول ببلجراد والمؤتمر الثاني بالقاهرة، وهذه الدول بورما ـ المملكة العربية السعودية، وكذلك كان هناك دولاً اشتركت في المؤتمر الثاني ولم تحضر المؤتمر الثالث، وهي الداهومي، كما أنه يوجد دولاً انقسمت إلى دولتين وهي الكونغو واليمن، ويلاحظ خلال هذه المرحلة غياب معظم قادة حركة عدم الانحياز، حيث لم يحضر مؤتمر القمة الثالث كل من نكروما وسوكارنو بسبب تعدد الانقلابات الداخلية في بلادهم، كذلك كان غياب جمال عبدالناصر بسبب أحداث سبتمبر ضد الثورة الفلسطينية في الأردن، كذلك سقط عدداً من دول عدم الانحياز في دائرة مناطق النفوذ الاستعماري وإن لم تعلن تخليها عن مبادئ الحركة، وأمام هذه العوامل بدأ شعور عام ينتاب دول عدم الانحياز بعدم فاعلية الحركة، وطرحت بعض الاقتراحات الهادفة إلى إنشاء جهاز ثابت يختص لمتابعة قرارات مؤتمرات القمة لدول حركة عدم الانحياز وتنسيق العمل بين دول المجموعة، إلا أن العديد من الدول عارضت فكرة إنشاء هذا الجهاز، إذ اعتبرته الأغلبية أنه سيكون رمزاً للتكتل الذي قامت المجموعة أساساً لتعارضه، واستقر الرأي على انتخاب أحد رؤساء الدول رئيساً للحركة خلال الفترة بين المؤتمرين، على أن يقوم بمتابعة قرارات وتوجيهات مؤتمرات الحركة، على أن يقوم ممثلو الحركة في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بالتعاون وتنسيق جهودهم لتنفيذ قرارات الحركة.
وفي الفترة من 5 - 9 سبتمبر 1973م انعقد مؤتمر القمة الرابع لحركة عدم الانحياز في الجزائر، وحضره ستة وسبعون دولة أي بزيادة إحدى وعشرون دولة عن المؤتمر السابق، ويلاحظ خلال هذه المرحلة اشتراك كل الدول العربية، كما أن مشاركة دول أمريكا اللاتينية عدا كوبا كانت بصفة مراقبين، كما أن شيلي اشتركت بوفد شعبي بعد أن أيدت الولايات المتحدة الأمريكية الانقلاب الذي انتهى باغتيال رئيس شيلي والاستيلاء على الحكم، وسفمح خلال هذه المرحلة بمشاركة حركات التحرير المختلفة، كما تقرر عقد مؤتمر وزاري سنوي في نيويورك خلال شهر سبتمبر من كل عام بهدف التنسيق بين دول حركة عدم الانحياز داخل الأمم المتحدة، كما تقرر تشكيل لجنة دائمة من سبعة دول أعضاء يفجرى انتخابهم سنوياً على أساس جغرافي في المؤتمر السنوي لوزراء الخارجية، وعملها الأساسي هو دراسة الأعمال التحضيرية لمؤتمر وزراء الخارجية في نيويورك.
انعقد مؤتمر القمة الخامس لحركة عدم الانحياز في كولومبو، الفترة من 16 ـ 19 أغسطس 1976م اشترك فيه سبعة وثمانون دولة أي بزيادة عشر دول، منهم سبع دول أفريقية نالت استقلالها، كما انضمت دولة من أمريكا اللاتينية هي بنما، كذلك تقرر اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية عضواً كاملاً في حركة عدم الانحياز، كذلك استمر حضور دول أمريكا اللاتينية بصفة مراقبين، وخلال الفترة من 3 – 9 سبتمبر 1979م انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز في كوبا، وقارب عدد المشاركين خلال هذه المرحلة مائة دولة كاملة العضوية، وبلغ عدد المراقبين اثنتي عشر دولة من دول العالم الثالث، وكان التوزيع الجغرافي للدول الأعضاء كالآتي 33% من آسيا، 55% من أفريقيا، 9% من أمريكا اللاتينية، 3% من أوروبا، وفي الفترة من 7 - 12 سبتمبر 1983م انعقد المؤتمر السابع لقمة حركة عدم الانحياز في ني ودلهي، بعد نقله من بغداد بسبب الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبلغ عدد الأعضاء خلال هذه المرحلة مائة وواحد عضواً، ومع تعدد مؤتمرات القمة لدول عدم الانحياز كانت هناك زيادة مستمرة في العضوية حتى كان مؤتمر القمة العاشر الذي عفقد في جاكرتا في الفترة من 1-6 سبتمبر 1992م، والذي وصل فيه عدد الأعضاء إلى مائة واثنتي عشرة دولة، وخلال مؤتمر القمة الثاني عشر والذي عفقد في الفترة من 2 – 3 سبتمبر 1998م في ديربان بجنوب أفريقيا، وصل فيه عدد الأعضاء إلى مائة وثلاثة عشر دولة بصفة أعضاء دائمين، ولقد وصل عدد الدول التي حضرت بصفة مراقب حوالي ثلاثة عشرة دولة.
ثانياً: الهيكل التنظيمي لحركة عدم الانحياز:
من السمات الرئيسية لحركة عدم الانحياز هي معارضتها في وضع هياكل تنظيمية وإطارات محددة تماثل الأحلاف والتكتلات الدولية، ومن ثم كان هناك عدة تقسيمات تطلق على الدول التي تبنت هذه السياسة، فكان يطلق عليها منذ النشأة مجموعة عدم الانحياز أو دول عدم الانحياز، إلا أنه منذ السبعينيات تحدد الاسم الذي يطلق عليها ليكون حركة عدم الانحياز، وعارضت الحركة لفترة طويلة الدعوة لإنشاء سكرتارية لها، خشية أن تتحول الحركة إلى تكتل دولي، إلا أنه في مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز والذي عقد في الجزائر عام 1973م جرت الموافقة على إنشاء مكتب للتنسيق والذي يعتبر الجهاز التنفيذي الدائم الوحيد للحركة، وكان عدد أعضاء هذا المكتب سبعة عشر عضواً، زاد عددهم في مؤتمر كولومبو عام 1976م ليكون 25 عضواً، وفي مؤتمر هافانا عام 1979م أصبح عدد أعضاؤه ستة وثلاثون عضواً جرى توزيعهم على أساس جغرافي بحيث شغلت الدول الأفريقية سبعة عشر مقعداً والدول الآسيوية اثنا عشر مقعداً، بينما شغلت دول أمريكا اللاتينية ستة مقاعد، أما المقعد الرابع والثلاثين فتناوب عليه كل من الدول الأفريقية والأوروبية المنتخبة لمدة سنة ونصف، وفي قمة نيودلهي أصبحت العضوية لمكتب التنسيق مفتوحة لكافة الأعضاء ولذلك أصبح يضم أربعة وسبعون عضواً، وقفصد بهذا العدد الكبير تحقيق توازن جغرافي في داخل مجموعة عدم الانحياز حيث خصص ستة وثلاثون مقعداً للدول الأفريقية وثلاثة وعشرون مقعداً للدول الآسيوية واثني عشر مقعداً لدول أمريكا اللاتينية وثلاثة مقاعد للدول الأوروبية.
تعقد اجتماعات مكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز إما خلال اجتماعاتها الدورية على مستوى المندوبين الدائمين، وتفجرى هذه الاجتماعات في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، أو قد تكون اجتماعات استثنائية وتفعقد في إحدى دول عدم الانحياز، ومعظم هذه الاجتماعات تكون على المستوى الوزاري، وتكون بهدف دراسة مشكلة محدودة. ولقد تقرر خلال مؤتمر قمة كولومبو عام 1976م تشكيل وتحديد اختصاصات مكتب التنسيق للحركة، حيث تحددت مهام المكتب في تنسيق عمل الحركة بين أعضائها في الفترة ما بين انعقاد مؤتمرات القمة، كما يكلف بتنفيذ البرامج والقرارات التي تتخذها مؤتمرات القمة، ويجري اختيار أعضاء مكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز من خلال مؤتمرات القمة، ويتولى رئاسة مكتب التنسيق ممثل الدولة التي استضافت القمة الأخيرة، ويكلف الرئيس بمهام دعوة المكتب للانعقاد للتنسيق والتشاور في نشاطات الحركة والقضايا السياسية والاقتصادية الهامة والتي ستطرح على الأمم المتحدة.
تحددت الخطوط الاسترشادية لمهام أعضاء مكتب التنسيق وأسلوب عملهم في الآتي:
1. لا يوجد تمييز بين الدول أعضاء مكتب التنسيق والدول غير الأعضاء فيه، من حيث طلب الكلمة وتحديد مواعيد ومقار الاجتماعات، والمشاركة في أعمال اللجنة الفرعية ومجموعات العمل وتقديم المقترحات الخاصة بالقضايا والمشاكل المعروضة.
2. من حق جميع الدول أعضاء حركة دول عدم الانحياز المشاركة في اجتماعات مكتب التنسيق وبحث القضايا التي تهمهم على قدم المساواة.
3. يحتفظ مكتب التنسيق بسجلات للاجتماعات الرسمية والاجتماعات العامة التي تعقد، كما يجري التقديم للاجتماعات التالية للتصديق عليها.
4. تقدم جميع القرارات التي يتخذها المكتب على مستوى المندوبين الدائمين في الاجتماعات العامة للحركة بناءً على طلب أحد الدول أعضاء الحركة.
ولم يتوقف تطوير الهيكل التنظيمي لمكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز، حيث أخذت تطور مفاهيمها وأبعادها كما طورت كذلك في إطارها المؤسسي وكذلك أسلوب عملها، (أفنظر شكل الهيكل التنظيمي لحركة عدم الانحياز).
ثالثاً: آلية صنع القرارات في حركة عدم الانحياز:
يجري اتخاذ القرارات في اجتماعات حركة عدم الانحياز من خلال توافق الآراء، حيث يجرى حوار ديموقراطي حر بين جميع الأعضاء، وإذا كان هناك اتفاق عام على تصور ما أو فقرة يجري إقرارها، ورغم إقرار دول الحركة لبياناتها بتوافق الآراء فيما بينها، إلا أنه لم يوجد مفهوم محدد لمعنى توافق الآراء، ولم يفطرح هذا الموضوع للبحث في إطار الحركة حتى عام 1973م، واختلفت الآراء حوله، حيث أكد بعض الأعضاء في الحركة إلى أن هذا المفهوم له صفة غير محددة وإن كان يعني بوجه عام وجود اتفاق في الرأي، كما يعني كذلك إمكانية وجود الاختلافات المتبادلة، إلا أنه يوجد حتمية العمل على أن يحقق القرار استيعاباً متبادلاً لوجهات النظر المختلفة والمتعددة من خلال عملية المواءمة.
لقد حددت مجموعة عدم الانحياز بعد إجراء العديد من المناقشات حول موضوع توافق الرأي أن مفهوم توافق الآراء منهج أفرو ـ آسيوي ولاتيني وعربي لاتخاذ القرارات في المجتمعات منذ القدم، والذي يتفق مع مفهوم الإجماع في الشريعة الإسلامية وليس الإجماع بمفهومه الحديث، إلا أن تحقيق توافق الرأي يعتبر عملية معقدة تستلزم مزيد من الجهد والوقت عن أي أسلوب آخر، وفي ذات الوقت كان إتباع أسلوب توافق الرأي للوصول إلى اتفاق عام من أسباب الحفاظ على وحدة حركة عدم الانحياز وتماسكها واستمرارها، كذلك أمكن تطوير مبادئها في إطار حكم الالتزام بالمبادئ والقيم الأساسية.
ولكي يمكن الوصول إلى توافق في الرأي، تجرى عدة مراحل سابقة يفدرس خلالها الموضوع في إطار المجموعات المصغرة، ثم يفنتقل بعد ذلك بالدراسة على مستوى المندوبين، ثم مستوى الوزراء، وفي النهاية تفعرض على مؤتمر القمة لدول عدم الانحياز، إلا أنه يظهر خلال هذه المرحلة دور رئيس المؤتمر، لأنه المسؤول عن إعلان الوصول لتوافق الرأي من عدمه، ولذلك تكون قدرات رئيس مؤتمر القمة من الأهمية لتحقيق الوفاق والتعاون والتضامن، ومن ثم تكون عملية اختيار الرئيس من خلال توفر هذه القدرات والإمكانيات حتى لا تكون سبباً لبث الفرقة والخصام، والتي بالقطع ستنعكس على الحركة وإضعافها وتفتيتها، كما يتحتم على رئيس المؤتمر تحديد التوقيت المناسب للوصول إلى توافق في الرأي بين الأعضاء، وقد يتدخل لدفعهم نحو هذا الاتجاه، أو قد يعلن صعوبة تحقيق توافق الرأي، ويجب إعلان ذلك، مع اقتراحه بتأجيل بحث موضوع الخلاف، ولقد وضح خلال مؤتمرات قمة عدم الانحياز أهمية تحديد المؤثرات والإجراءات المتبعة في حالة عدم تحقيق توافق الرأي، خاصة بعد تزايد عدد الأعضاء الذين لهم توجهات يسارية منذ عام 1979م، لذلك وفضعت مبادئ محددة يجري إتباعها في حالات الخلاف بين الأعضاء تمثلت في الآتي:
1. يفعلن عن عدم تحقيق توافق الرأي، وتأجيل عرض موضوع الخلاف إذا حدثت مواجهات واختلافات في الآراء، الأمر الذي قد يهدد الحركة نفسها.
2. يلزم على رئيس المؤتمر أو سكرتارية المؤتمر أو الرئيس أو الوفود المهتمة بالمساعدة في إنهاء النزاع القائم في الاجتماع.
3. يجب إجراء مشاورات غير رسمية مسبقاً بين أعضاء الحركة حول كل الموضوعات والمشاكل التي ستفطرح.
4. يمكن الاعتماد على مجموعات عمل مؤقتة يتم تكوينها غير مقيدة العضوية، بهدف المساعدة في التوصل لتوافق في الرأي.
5. في حالة عرض موضوع له اعتبارات جغرافية أو سياسية يجب إجراء مشاورات مسبقة بينهم للوصول إلى توافق في الرأي قبل عرض الموضوع ذات الحساسية الخاصة للأعضاء أو بعضهم.
6. في حالة وجود معارضة قوية عند عرض أحد الموضوعات، فإن ذلك يعتبر مؤشراً على أهمية وخطورة الموضوع، ولذا يجب إتاحة الفرصة لعرض مختلف وجهات النظر حتى يمكن دراستها والوصول إلى توافق في الرأي.
7. في حالة استنفاذ شتى المراحل السابقة ولم يتحقق توافق في الرأي، تفحدد نقاط الخلاف على الفقرة أو الفقرات وأسباب الاعتراض والتحفظات الخاصة بها، على أن يفضاف ملحق خاص بكامل نصوص التحفظات والاعتراضات.
أما في حالة الطرح الفعلي لأي موضوع فإنه قد يكون هناك تفاوت في مواقف الدول بشأنه، ويتمثل في الآتي:
1. وجود اتفاق للرأي بين الدول الأعضاء ومن ثم يفقر البند المطروح حول القضية.
2. وجود معارضة شديدة لا يمكن خلالها الوصول إلى التوافق المطلوب، ولذلك لا يقر البند المطروح دون أية إشارة أو تحديد لذلك، كما يمكن الإشارة بأنه جرى بحث الموضوع ولم يتحقق توافق الآراء بخصوصه، ومن ثم يقرر الاجتماع تأجيل بحث الموضوع إلى اجتماع تالي، أو قد يفحال إلى مستوى أعلى، وقد تفشكل لجنة خاصة لبحث الموضوع وعرضه.
3. أما في حالة وجود توافق غير كامل، أي وجود معارضة من دولة ما أو أكثر من دولة، يفسمح للمعترض بالتعبير عن موقف بأكثر من أسلوب كالآتي:
أ. الإعراب شفوياً في قاعة الاجتماع عن تحفظها أو معارضتها.
ب. الإعراب عن التحفظ مكتوب في صورة بيان، والذي يعتبر من وثائق المؤتمر.
ج. الإعراب عن التحفظ مكتوباً على فقرة أو عدة فقرات، ويعتبر هذا الأسلوب هو السائد.
د. الإعراب عن التحفظ مكتوب بصيغة عامة على البيان النهائي ككل، خاصة بالنسبة لأية بنود لا تتفق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع المبادئ والأهداف السياسية للدولة العضو.
مما سبق نجد أن حركة عدم الانحياز عند اتخاذها لأسلوب توافق الآراء والحوار والتشاور الهادف، من العوامل التي أدت إلى الحفاظ على استمرار وحدتها وتعاونها وتضامنها، كما أدى ذلك إلى تزايد أعضاء الحركة، وتنوع اتجاهاتها، خاصة مع تطور مبدأ أو أسلوب الإعراب عن التحفظات، مما انعكس في النهاية على وضوح خصوصيتها وذاتيتها في الإطار العام للحركة السياسية الدولية.
رابعاً: تقويم وتحليل معايير سياسة حركة عدم الانحياز:
كان وعي وفهم الشعوب الأفريقية والآسيوية وبعض دول أمريكا اللاتينية بطبيعة وأبعاد النسق الدولي، قد ساعد على ظهور العالم الثالث على الساحة الدولية خلال الفترة من عام 1959م إلى عام 1960م، والذي أدى إلى ظهور فكرة الحياد الإيجابي، وتحدد منهاجها في المؤتمر الأفرو ـ آسيوي الأول بباندونج عام 1955م، وفي المؤتمر التحضيري الذي عقد في القاهرة في يونيه 1961م توطئة لعقد المؤتمر التأسيسي الأول، ثم تحدد مفهوم عدم الانحياز والذي تبلور خلاله ثلاثة مبادئ أساسية تشترط الانضمام الدولي إلى حركة عدم الانحياز، وخلال انعقاد مؤتمر بلجراد التأسيسي عام 1961م وفضعت أول مقاييس ومعايير للدول غير المنحازة وهي ما أطلق عليها الإعلان الخماسي، ومن تحليل مقاييس ومعايير الإعلان الخماسي يتضح الآتي:
1. إن سياسة التعايش السلمي هي سياسة الحياد السياسي وليس الحياد القانوني، لأنه من الناحية السياسية فالتعايش السلمي لا يقوم على أية التزامات أو نص قانوني، كما أنه لا يرفض التحالفات والمعاهدات العسكرية، إلا أن هدف سياسة التعايش السلمي هو عدم اللجوء لاستعمال القوة في العلاقات الدولية، أما هدف عدم الانحياز هو المحافظة على السلم الدولي والتعايش السلمي عن طريق رفض الدخول أو الانضمام إلى الأحلاف العسكرية، ورغم هذه الفروق الواضحة بينهما فإن اعتبارهما كمقياس للدول غير المنحازة بهذه الصورة لا تفسر بوضوح سياسة عدم الانحياز كما لا تحدد الفروق بينهما في كثير من الجوانب.
2. إن حركة عدم الانحياز بتأكيدها على مساندة وتأييد حركات التحرر الوطني تكون قد اختلفت في توجهاتها عن دول الحياد التقليدي فيما يخص حركات التحرر الوطني والقومي، حيث تعتبرها دول الحياد التقليدي نزاعات داخلية، حيث يبنى موقفها على التمييز بين الوضع القانوني الداخلي، والوضع القانوني الخارجي وفقاً للقانون الدولي العام، الذي يعتبر عائقاً أمام حركات التحرر الوطنية، خاصة وأن هذا القانون من وضع الدول والقوى الاستعمارية.
3. إن معيار الامتناع عن الدخول في الأحلاف بمحض الإرادة يعني أن القبول المفروض مسموح به، بينما القبول دون ممارسة ضغوط خارجية معينة يعتبر مرفوضاً، ومن ثم يوجد في العديد من دول عدم الانحياز قواعد عسكرية لحلف شمال الأطلسي، كذلك كان يوجد العديد من الخبراء والمستشارين السوفيت في العديد من هذه الدول.
4. إن معيار رفض التحالفات الثنائية حدد هذه التحالفات بألا تفجرى مع دول كبرى، ولكنه لم يمنع قيام تحالفات فيما بين دول عدم الانحياز، ولقد كان هناك العديد من المعاهدات بين الاتحاد السوفيتي وبعض دول عدم الانحياز، التي كانت تؤكد أن إبرام هذه المعاهدات لا يعني تخليها عن سياسة عدم الانحياز، كما كان ينص عليها في المعاهدات نفسها، كذلك يؤخذ على هذا المعيار عدم تحديده الدقيق لنوع وطبيعة المعاهدات التي أشار إليها هذا المقياس.
5. يعتبر مقياس عدم الدخول في أية تحالفات عسكرية في إطار النزاعات بين القوى الكبرى، هو التوجه الأساسي لسياسة عدم الانحياز، ومن ثم تتضح أهميته، ويلاحظ الالتزام الواضح لدول عدم الانحياز بهذا المقياس حيث أنه لم يكن هناك دولة من دول عدم الانحياز عضو في الأحلاف العسكرية التابعة للقوى الكبرى مثل حلف شمال الأطلسي أو حلف وارسو قبل حله.
تعتبر حركة عدم الانحياز، واحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ونتيجة مباشرة أكثر، للحرب الباردة التي تصاعدت بين المعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو) وبين المعسكر الشرقي (الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو) حال نهاية الحرب العالمية الثانية وتدمير دول المحور، وكان هدف الحركة هو اللإبتعاد عن سياسات الحرب الباردة
تأسست الحركة من 29 دولة، وهي الدول التي حضرت مؤتمر باندونج 1955 ، والذي يعتبر أول تجمع منظم لدول الحركة.
و يعتبر مؤسسي الحركة الأوائل هم الرئيس المصري جمال عبد الناصر و رئيس الوزراء الهندى جواهر لال نهرو و الرئيس اليوغوسلافي تيتو وأيضا الرئيس الأندونيسى أحمد سوكارنو.
وانعقد المؤتمر الأول للحركة في بلجراد عام 1961، وحضره ممثلو 25 دولة، ثم توالى عقد المؤتمرات حتى المؤتمر الأخير بكوالامبور فبراير 2003. ووصل عدد الأعضاء في الحركة الآن إلى أكثر من 116 دولة، وفريق رقابة مكون من 17 دولة و7 منظمات.
خطة البحث
تمهيد
مقدمة
المبحث الأول: مفهوم حركة عدم الانحياز وعلاقتها بالحياد الإيجابي
المبحث الثاني: نشأة حركة عدم الانحياز وتطورها التاريخي
المبحث الثالث: الإطار المؤسسي لحركة عدم الانحياز
المبحث الرابع : تقويم مسيرة حركة عدم الانحياز حتى مؤتمر القمة السابع
المبحث الخامس : تقويم مسيرة حركة عدم الانحياز منذ مؤتمر القمة الثامن
المبحث السادس : حركة عدم الانحياز والعلاقات الدولية
المبحث السابع: تحديات حركة عدم الانحياز
المبحث الثامن: حركة عدم الانحياز والنظام العالمي الجديد
المبحث التاسع : العوامل التي أدت إلى تراجع حركة عدم الانحياز
تطور اهتمامات حركة عدم الانحياز
الهيكل التنظيمي لحركة عدم الانحياز
الدول الأعضاء والمراقبون والضيوف
أعضاء حركة عدم الانحياز (حسب الإقليم)
خاتمة
المقدمة
منذ مطلع القرن العشرين تعددت الأحداث العالمية، التي أدت إلى انتشار أفكار ومبادئ تحررية، تمثلت في استقلال العديد من المستعمرات في القارات الثلاثة أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، خاصة بعد بداية انهيار النظام الرأسمالي العالمي، بسبب الأزمات المتتالية التي انعكست على هذا النظام نتيجة لتناقضاته الداخلية، كما ساعد على زعزعة أركان هذا النظام أحداث عالمية متتالية، أهمها كانت الحرب العالمية الأولى خلال الفترة بين عام 1914م وعام 1918م، كذلك ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917م، وأيضا الحرب العالمية الثانية خلال الفترة بين عامي 1939م و1945م، وأخيراً كانت الثورة الصينية عام 1949م. ونتيجة لهذه الأحداث العالمية بدأت الدول حديثة الاستقلال تتطلع لدور حيوي في النظام العالمي، يقوم أساساً على عدم الارتباط بأي من الكتلتين شرقية كانت أو غربية، ومعارضة سياسات الحرب الباردة والتكتلات والأحلاف العسكرية، إضافة إلى إتاحة الفرصة للدول حديثة الاستقلال لتحقيق مزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولم يكن أمام هذه الدول إلا المطالبة بوضع أسس جديدة للعلاقات الدولية تضع نهاية للسيطرة والهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها، على أن يكون التعاون الدولي القائم على مبادئ الاستقلال والمساواة بين المكونات السياسية للنظام العالمي شرطاً أساسياً لحريتها وتقدمها ونموها، كما أن مبدأ التعايش السلمي يكون القاعدة الأساسية لإقامة العلاقات الدولية.
وقد كانت للطبيعة الاستعمارية التي تعرضت لها معظم شعوب العالم دوراً فاعلاً في ظهور محاولات التضامن بين هذه الشعوب، ولم يتحدد أبعاد هذا الدور إلا مع ظهور الحركة التحررية التي اجتاحت المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عند نشوب النزاع الإندونيسي ـ الهولندي خلال الفترة بين عام 1945م وعام 1949م، حيث اجتمعت خمسة عشر دولة في نيودلهي عام 1949م وقررت اتخاذ إجراءات جماعية ضد هولندا وتوحيد جهودها داخل منظمة الأمم المتحدة، وبعد انتهاء الحرب الكورية استمر التعاون الأفرو ـ آسيوي لتوطيد العلاقات فيما بين شعوبهم، ورغم أن المسيرة النضالية لم تتوقف منذ عقد مؤتمر الأجناس المضطهدة عام 1910م، إلا أن مؤتمر باندونج الذي عقد في 18 أبريل 1955م يعتبر تأكيداً للمواقف التي اتخذتها دول قارة أسيا وأفريقيا، وتواصلت هذه الجهود واتسعت لتشمل العديد من دول قارات أخرى عانت من الوضع الاستعماري، وبذلك تحولت الحركة من أفرو آسيوية تقوم أساساً على موقع جغرافي محدد، إلى حركة أوسع تقوم على أساس نضالي أشمل، وتمثلت هذه الحركة الجديدة في ظهور حركة عدم الانحياز في بلجراد في سبتمبر 1961م.
المبحث الأول : مفهوم حركة عدم الانحياز وعلاقتها بالحياد الإيجابي
كان للصراع الذي عرفه المجتمع الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف التحول من نظام عالمي يقوم على مبادئ سيطرة وهيمنة القوى الاستعمارية إلى نظام عالمي يقوم على مبادئ التعاون والتبادل والحرية والمساواة والعدالة، أثره في زيادة النشاط الاستعماري من أجل الحفاظ على مراكز نفوذه في العالم بصفة عامة وفي المستعمرات بصفة خاصة، واتبع الاستعمار عدة أساليب اتخذت أشكال متعددة، منها إقامة التكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك بث روح الفرقة والخلاف بين الدول حديثة النشأة والاستقلال والتدخل في شؤونها الداخلية. ولمواجهة هذه المخاطر، لم يكن أمام الدول حديثة الاستقلال إلا المطالبة بأسس جديدة للعلاقات الدولية تضع نهاية للسيطرة والهيمنة الأجنبية بمختلف أنواعها وأشكالها، حتى تتمكن من فرض وجودها على الساحة الدولية وتحرير المزيد من المستعمرات، وقد كانت محاولات التضامن بين شعوب هذه الدول منذ زمن بعيد، لكن هذه المحاولات لم تتبلور بشكل منظم وواضح إلا مع ظهور الحركة التحررية التي اجتاحت المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتعددت اللقاءات الإقليمية الهادفة إلى توحيد الصف، وتوطيد العلاقات فيما بين الشعوب، حتى بدأت تتضح معالم التعاون الأفرو ـ آسيوي بعد انعقاد مؤتمر كولومبو عام 1954م، وبالرغم من أن التضامن الأفرو ـ آسيوي لم يكن ظاهرة حديثة، إلا أن هذا التضامن يستند إلى جذور عميقة في التاريخ، تتمثل في قيام حضارات وثقافات أفرو ـ آسيوية عرفتها شعوب القارتين في كل من وادي النيل ووادي دجلة والفرات وشبه الجزيرة العربية، وكذلك في الهند والصين وأفريقيا، حيث قامت في هذه المناطق حضارات وثقافات عريقة0
ولقد أثرت وتأثرت هذه الحضارات ببعضها البعض، ويفسر ذلك ظهور التضامن الأفرو آسيوي في هاتين القارتين، ولم تتوقف الحركة النضالية الأفرو ـ آسيوية عند مجرد عقد المؤتمرات الإقليمية، ولقد مرت محاولات التعاون الأفرو ـ آسيوية بعدة مراحل تمثلت في الآتي:
أولاً: مرحلة ما قبل مؤتمر باندونج:
عقدت عدة اجتماعات ومؤتمرات دولية في باريس عام 1920م، وفي لندن عام 1923م، ضمت ممثلين من شعوب إفريقيا وآسيا المضطهدة ، إلا أن ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917م، كانت من أهم عوامل بلورة هذا التوجه المناهض للاستعمار وتحرر شعوب العالم الثالث، وكان مؤتمر باكو عام 1920م، ومؤتمر إركوتسك عام 1921م، قد مهدا لإنشاء رابطة مناهضة للإمبريالية عام 1924م، التي بادرت إلى الدعوة لعقد المؤتمر الأول للشعوب المقهورة في موسكو، وفي عام 1927م عقد مؤتمر بروكسل الذي شمل أول تعبير لفكرة عدم الانحياز، كذلك عقدت عدة مؤتمرات في الفترة ما بين الحربين العالميتين في القاهرة ومكة المكرمة عام 1926م، وفي مدينة القدس عام 1931م، وقد أدانت هذه المؤتمرات الاستعمار بكافة أشكاله.
ثانياً: مرحلة بعد الحرب العالمية الثانية:
كان نشأة جامعة الدول العربية عام 1945م، التي سبقها بروتوكول الإسكندرية وانعقاد المؤتمر العربي في القاهرة عام 1944م بمثابة خطوة أساسية نحو الأفرو ـ آسيوية، وفي الهند كان انعقاد مؤتمر العلاقات الآسيوية في نيودلهي عام 1947م، الذي حضره أكثر من 25 دولة آسيوية بهدف مكافحة الاستعمار، ويعتبر هذا المؤتمر خطوة تجاه بلورة التوجه التعاوني الأفريقي ـ الآسيوي، وخلال عام 1949م تشكلت في الأمم المتحدة كتلة من حوالي 12 دولة أطلق عليها في البداية المجموعة العربية ـ الآسيوية، ثم بعد انضمام مصر وأثيوبيا إلى المجموعة أصبحت تعرف بالكتلة الأفرو ـ آسيوية، وكانت هذه المجموعة تحاول انتهاج سياسة محايدة بين الكتلتين.
ثالثاً: مؤتمر باندونج عام 1955:
هو أول مؤتمر لتأسيس الحركة الأفرو ـ آسيوية كظاهرة مناهضة للاستعمار في باندونج بإندونيسيا وكان أبرز المشاركين فيه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru، والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو Ahmed Sukarno، والسياسي الصيني شو إن لاي Chou En Lay[1]، ولقد أخذت التوجهات التعاونية الأفرو ـ آسيوية مدلولاً جديداً مع ظهور سياسة عدم الانحياز حتى كان مؤتمر القاهرة عام 1957م، والذي حضرته سبع وأربعون دولة بوفود شعبية غير رسمية، وأصدرت خلاله عدة قرارات أكثر تشدداً تجاه الغرب والاستعمار، وقرر هذا المؤتمر إنشاء أمانة عامة يكون مقرها القاهرة، ويكون هدفها نشر الفكر الأفرو ـ آسيوي التقدمي. وفي عام 1961م انعقد مؤتمر بلجراد بغياب كل من الصين والاتحاد السوفيتي، وتحددت خلاله فكرة عدم الانحياز، ومنذ ذلك التوقيت بدأ اختفاء الحركة الأفرو ـ آسيوية بسبب الصراعات المحلية بين بلدان العالم الثالث نفسها وتبعية العديد من الدول المستقلة للغرب، وقد ساهم ذلك في فقد الحركة لمضمونها الثوري، خاصة بعد تأجيل انعقاد مؤتمر الجزائر عام 1965م لأجل غير مسمى والذي وضع بذلك نهاية لهذه المرحلة، إلا أن معظم دول العالم الثالث بدأت استبدال المؤتمرات الأفرو ـ آسيوية بمؤتمرات دول عدم الانحياز، والتي أخذت تركز جهودها على البعد الاقتصادي للتحرر والاستقلال، وتشجيع حركات التحرر، وطرحت نفسها كممثل للدول الفقيرة في مواجهة الدول الغنية المتقدمة.
في إطار ممارسة الحق الشرعي لشعوب العالم في استقرار الأمن والسلم الدوليين، قامت معظم الدول فرادى أو مجمعة بانتهاج سياسة تكفل لها تحقيق أهدافها وغايتها القومية، وكانت لهذه السياسة سمات متعددة خلال عدة مراحل. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي المرحلة الأولى وخلال السعي لتحقيق التوازن النووي كان الاتجاه الشعبي أكثر ميلاً إلى سياسة عدم التوسط بين القوى الدولية مهما كانت الأسباب والظروف، وفي المرحلة الثانية والتي تحقق فيها توازن دولي قائم على سياسة الانتقام الشامل البعيد المدى، انتهجت معظم دول العالم سياسة الحياد الإيجابي في إطار تبنى توجهات خاصة حيال تصرف بعض الدول في مجال الانتقام بعيد المدى، وفي المرحلة الثالثة والتي تحقق فيها التوازن النووي الكامل، تبنت هذه الدول سياسة عدم الانحياز، تأكيداً على مشاركتها في الحفاظ على السلام العالمي والتعايش السلمي، كأحد الأهداف التي كانت تسعى إلى تحقيقها الدول غير المنحازة، ورغم التفسيرات المختلفة والمتباينة لمفهوم التعايش السلمي إلا أن اتجاهات عدم الانحياز والتعايش السلمي في ظهورها كسياسة جديدة دفعت إليها اعتبارات الحرب الباردة والتكتل العالمي، والصراع بين المعسكرين والأهوال التي تهدد العالم من احتمالات نشوب حرب، تستخدم فيها الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.
ولقد أثبتت وقائع ما بعد الحرب العالمية الثانية عجز منظمة الأمم المتحدة في احتواء العديد من المشاكل، كذلك وضح تدخل مجلس الأمن لصالح الدول الكبرى والعظمى، ونتيجة لانحياز مجلس الأمن في مواقفه، وكذلك زيادة حدة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، بدأت بعض الدول المستقلة تتجمع تحت شعار الحياد، لتمارس الضغط على الكتلتين بهدف تحقيق السلام والأمن الدوليين، وفي هذا الإطار ظهرت سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والذي تعددت الآراء حول أشكاله وأقسامه، إلا أنه يوجد اتفاق عام على أن الحياد له أنواع محددة تتمثل في الآتي:
1. الحياد العرضي وهو ما يسمى الحياد بالإرادة المنفردة.
2. الحياد الدائم أو ما يطلق عليه الحياد الاتفاقي.
3. الحياد في حالة الحرب.
4. الحياد الملازم والمكون لكيان الدولة.
5. التحييد كصيغة لاتفاق الكتلتين وهو ما يعرف بالحياد الوسطي.
6. الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
رابعاً: المفاهيم المختلفة للحياد الإيجابي وعدم الانحياز:
إن الحياد الإيجابي من الناحية السياسية هو من صور الحياد، التي ترتب عليها ظهور الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، في محيط العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية، وفي إطار الحياد الإيجابي تتبنى الدولة سياسة محايدة تبعدها عن الحرب الباردة وتكتلاتها، حتى تتمكن من القيام بدور إيجابي تحقق من خلاله تخفيف حدة التوتر الدولي، وفض المنازعات بالطرق السلمية، والدول التي تأخذ بهذه السياسة تلتزم ببذل الجهد للتوفيق بين الأطراف المتصارعة أو المتنازعة، وتؤيد صاحب الحق في قضيته إعمالاً بنظرية الحرب العادلة والحرب الغير عادلة. ورغم اختلاف الأصول الفكرية والمدلولات اللغوية والسياسية للحياد التقليدي القانوني أو الحياد الإيجابي أو عدم الانحياز، إلا أن الهدف واحد وهو الرغبة في اتباع سياسة تبتعد عن النزاعات والحروب.
يوجد تمايز واضح بين الحياد الإيجابي المعاصر والحياد التقليدي القانوني، الذي يقصد به مجموعة القواعد والنظم القانونية الدولية التي تنظم العلاقات فيما بين الدول المتحاربة والدول الغير متحاربة، والذي بموجبه تبقى الدول الغير متحاربة بعيدة عن دائرة الصراع المسلح، وهو ما يطلق عليه حق الحياد، ولقد أرسى مؤتمر فيينا عام 1815م القواعد الأساسية لنظام الحياد، كذلك كان لتطبيق قواعد الحياد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية منذ إعلان مبدأ مونرو عام 1823م، وحتى خروجها من عزلتها عام 1917م أثر كبير في تحديد وتطور مفهوم الحياد.
وخلال القرن التاسع عشر كان المعنى المقصود بالحياد هو المعنى العسكري، وقد حفدد بشكل خاص في مؤتمر لاهاي الخامس حول الحقوق والواجبات للدول المحايدة عام 1907م، والذي من خلاله وضعت قواعد الحياد في الحرب البرية والبحرية، وجاء إعلان لندن عام 1909م مكملاً لمؤتمر لاهاي الخامس بتنظيمه للحياد في الحروب البحرية، وقبل بداية الحرب العالمية الأولى تعرضت قواعد الحياد التقليدي القانوني إلى العديد من النقد، حيث لم يلتزم بها عدد كبير من الدول، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وضح أهمية تغيير النظام التقليدي للحياد، مما أدى إلى وضع معايير جديدة للحياد والتي تتفق مع مقتضيات ومتطلبات استقرار المجتمع الدولي، حيث لم يعد هناك حق للدولة ذات السيادة في استخدام القوة لحل مشاكلها، وأصبح إعلان الحرب عملاً غير مشروع، وترتب على ذلك مسؤولية دولية تعطي للغير الحق في اتخاذ مواقف معينة، والتمييز بين الأطراف المتحاربة ومعاملتهم وفقاً لمشروعية دعواه وحقوقه. ومن هذا المنطلق ظهرت فكرة الحياد الإيجابي الذي تنحاز فيه الدول إلى أحد طرفي النزاع أو الصراع.
واختلفت آراء مؤسسي سياسة الحياد الإيجابي حول المصطلح نفسه، فكان جواهر لال نهرو يعترض على هذا المصطلح، رغم أن الهند منذ استقلالها وهي تأخذ بسياسة الحياد الإيجابي، وكان نهرو يفضل استخدام مصطلح اللاالتزام، ويرجع ذلك إلى تخوفه من مصطلح حياد إذ يعني مدلولها اللغوي اللامبالاة. أما جمال عبدالناصر فكان يفضل استخدام كلا المصطلحين معاً؛ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وكان يفضل أحياناً مصطلح الحياد الإيجابي، بينما كان الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito يقتصر استخدامه على مصطلح عدم الانحياز مع تجنبه لاستخدام مصطلح الحياد الإيجابي، إلا أنه رغم اختلاف الأصول الفكرية والمدلولات اللغوية والسياسية لهذه المصطلحات الثلاث المتعلقة بالحياد التقليدي والحياد الإيجابي وعدم الانحياز فإن الهدف في جملته واحد، وهو الرغبة في الابتعاد عن النزاعات والحروب، سواء كانت حروباً كلاسيكية أو حروباً باردة، ومن ثم فإن تعبير الحياد الإيجابي له دلالة قاطعة على شكل الحياد بمعناه وشكله الحديث. وتتحدد مبادئ الحياد الإيجابي في الآتي:
1. عدم المشاركة في الأحلاف العسكرية، كذلك عدم الانحياز إلى أحد أطرافها في إطار الحرب الباردة.
2. التعاون والتعامل مع كلا المعسكرين الشرقي والغربي مع المحافظة على الاستقلال للدول المحايدة.
3. المشاركة في حل المشاكل والأزمات الدولية، مع مساندة الشعوب غير المستقلة وحديثة الاستقلال، ودعم منظمة الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها وإجراءات تنفيذها لصالح هذه الدول.
وفي إطار هذه المبادئ لا يكون هناك اختلاف بين الحياد التقليدي والحياد الإيجابي من حيث الامتناع عن الاشتراك في الصراعات المسلحة، إلا أن الاختلافات الأساسية بينهما تتمثل في أن الحياد التقليدي لا يوجد له دور في التعامل مع الأطراف المتصارعة، بهدف إيجاد الحلول واحتواء الصراع، بينما الحياد الإيجابي يقوم أساساً بالتعاون مع أطراف الصراع لاحتوائه، أما في حالة دعم ومساندة حركات التحرر، فإن دول الحياد الإيجابي ودول عدم الانحياز ملزمة بمساندة كافة حركات التحرر وتكون منحازة لها وتدعمها.
فضلت الدول المشاركة في مؤتمر بلجراد عام 1961م، استخدام مصطلح عدم الانحياز على مصطلح الحياد الإيجابي، الذي يفترض قيام الصراع المسلح، مع تأكيد الرغبة في الابتعاد عن هذا الصراع مهما كانت دوافعه أو طبيعته، أما في حالة تعرض دولة حديثة الاستقلال لاعتداء خارجي ودخولها في صراع مسلح سواء مع إحدى الكتلتين أو دولة منضمة إلى إحداهما، فإن الدول غير المنحازة لا يكون موقفها محايداً، بل تناصر وتساند الدولة حديثة الاستقلال، وبذلك لا يوجد تطابق بين مصطلحي الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، سواء من الناحية اللغوية أو من حيث المدلول السياسي، لأن عدم الانحياز في الواقع يمثل جانب من جوانب الحياد الإيجابي، كما أن عدم الانحياز يمثل الناحية السلبية لمنطلق سياسي إيجابي، خاصة وأن مصطلح عدم الانحياز يعكس فكرة تقليدية قديمة، مؤداها رغبة بعض الشعوب في حصر آثار الحرب في مناطق معينة وعدم الاشتراك فيها. وبذلك يعتبر عدم الانحياز من الناحية اللفظية كلمة ناقصة فيما تعبر عنه، فمصطلح عدم الانحياز لا يعني أن الدول التي تتبنى هذه السياسة لا تهدف إلى تجريد نفسها من إمكانيات اتخاذ مواقف
لا تكون منحازة مسبقاً إلى أي منهما، بل انحيازها يكون بعد دراسة وتقييم مسبق للموقف، وبذلك يكون الانحياز كامن لكن تتضح معالمه على أساس كل قضية على حدة، ومن ثم يكون انحياز الدول والحركات الشعبية غير المنحازة تمليه المصلحة الوطنية لهذه الدول والحركات، وبذلك لا يكون هناك عدم انحياز ثابت ومستمر، وإنما توجد مواقف غير منحازة أي حياد إيجابي.
ومن منطلق المفهوم القانوني توجد اختلافات واضحة بين سياستي الحياد وعدم الانحياز، فبعد أن تطور مفهوم الحياد خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وتأكد خلال القرن العشرين، برزت سياسة عدم الانحياز، وكان يطلق عليها الحياد Neutrality وأحياناً Neutralism وأحياناً أخرى أضيف إليها تعبير إيجابي، إلا أن الحياد كمفهوم قانوني قد حفدد في مؤتمر لاهاي عام 1907م، حيث يفترض في الدول المحايدة الامتناع عن المساهمة في أي صراع مسلح، أو تقديم أية مساعدات للأطراف المتحاربة وتتمثل الاختلافات بين سياسة عدم الانحياز والحياد في الآتي:
أ. إن أساس الحياد هو اتفاقات دولية أو قوانين داخلية، أي أنه ينبع من أساس قانوني، في حين أن عدم الانحياز يقوم على اعتبارات سياسية وليست قانونية.
ب. إن الشاغل الأساسي للدول المحايدة هو الحرب، والابتعاد عنها في حالة اندلاعها واتباع سياسة تهيئ لهذا الموقف في حالة السلام، أما عدم الانحياز فهو سياسة شاغلها الرئيسي هو وقت السلم، وفي حالة نشوب الصراع المسلح فإن للدولة حرية اتخاذ قرارها.
ج. إن سياسة الحياد كما ظهرت في أوروبا هي سياسة سلبية في المقام الأول، أما سياسة عدم الانحياز كما تبلورت في العالم الثالث فهي سياسة إيجابية في المقام الأول، حيث اضطلعت بعدة مبادرات لتعزيز السلام وتخفيف حدة التوتر الدولي، وتغيير هيكل النظام السياسي والاقتصادي، فهدف الدول المحايدة هو مجرد الحفاظ على حيادها وقت الحرب، أما هدف الدول غير المنحازة فهو بناء عالم جديد.
د. إن الحياد كمفهوم قانوني يترتب عليه حقوق والتزامات بين الدول المحايدة والدول المتحاربة إزاء بعضها البعض، كما أنه يستلزم اعتراف الدول المتحاربة بحياد دولة ما، وإلا فإن ما يعرف بالحياد المسلح للدفاع عن النفس يمكن أن يظهر في الواقع الفعلي.
خامساً: مفهوم العقيدة الإسلامية للحياد الإيجابي وعدم الانحياز:
يقسم الفقه الإسلامي العالم إلى دار إسلام ودار حرب، ويجمع الفقهاء على أن ما دخل في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيه أحكامه وأقيمت شعائره قد صار من دار الإسلام، ووجب على المسلمين في حالة الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً كفائياً بقدر الحاجة وإلا فوجوبها عينياً[2]، وكانوا كلهم آثمين بتركه، وإن الاستيلاء عليه من جانب أعداؤه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وإن طال الزمن، وبذلك تضم دار الإسلام كافة الأراضي والبلاد الإسلامية مهما كانت متباعدة، ورعاياها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أما دار الحرب، فطبقاً للفقه الإسلامي فهي البلاد التي لا يطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية وليس فيها سلطة إسلامية، ولذلك فهي خارج نطاق السلطة الإسلامية، ولقد خرج الإمام الشافعي رضي الله عنه عن هذا التقسيم الثنائي بإضافة دار ثالثة، وهي الدار التي تتمثل في الدول المحايدة، أي التي لا تعتبر دار إسلام ولكنها لا تعادي دار الإسلام، بل تدفع لها الجزية، كما تعتبر دار حرب، دار العهد، أو دار الصلح، وهي الدار التي قصد بها الأمام الشافعي الدار التي لم يسيطر عليها المسلمون، وعقد أهلها الصلح بينهم وبين المسلمين على شيء يؤدونه في أرضهم يسمى خراجاً، دون أن تؤخذ منهم الجزية لأنهم في غير دار الإسلام، ولقد وضح ذلك خلال الفتوحات الإسلامية في بلاد النوبة وصلح أرمينية وكذلك نجران، فقد عقد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صلحاً مع نصارى نجران، أمنهم فيه على حياتهم، وفرض عليهم خراج وقيل أنها جزية.
ورغم اختلاف الفقهاء حول تقسيم العالم، حيث يعتقد بعضهم بعدم وجود ما يسمى بالحياد في الإسلام، والواقع أن الحياد كنظام سياسي قانوني من خصائص سيادة الدولة ولم يعرف إلا حديثاً، إلا أن من دراسة الفقه الإسلامي يظهر وجود فكرة لمبدأ الحياد، تشبه إلى حد كبير نظام الحياد الحالي حيث يوجد حالات حياد من الناحية التاريخية الإسلامية، قائمة على أساس اعتبارات عملية تكون قسماً مستقلاً من العالم يسمى دار الحياد أو عالم الحياد، وهي البلاد التي يوافق العالم على إعفائها من الجهاد وهذا يختلف عن حياد اليوم، وبذلك يكون الحياد المفروض هو الشكل الوحيد من الحياد المسموح به في الإسلام، ويتمثل ذلك في حالة إثيوبيا الحيادية حيث لم يعتبر المسلمون الحبشة سابقاً دار حرب، نظراً للعلاقات الحسنة التي كانت قائمة بين المسلمين الأوائل والأحباش، فقد وفر النجاشي الحماية للمهاجرين إليه من المسلمين من بطش قريش، كما أحسن الرد على كتاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي دعاه فيه إلى الإسلام فأسلم، ومن ثم فإنه لا يمكن اعتبار بلاد الحبشة من دار الإسلام حيث لم تكن أحكام الإسلام مطبقة فيها، كذلك لم تكن دار حرب لمواءمة الإسلام لها، كذلك لا يمكن أن يطلق عليها دار حياد، ولكن يوجد حالة مغايرة لأحكام دار الحرب ودار الإسلام معاً، وخير ما يمكن الاستشهاد به ما جاء في القرآن ]وَإفنْ طَائففَتَانف مفنَ الْمفؤْمفنفينَ اقْتَتَلفوا فَأَصْلفحفوا بَيْنَهفمَا فَإفنْ بَغَتْ إفحْدَاهفمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتفلفوا الَّتفي تَبْغفي حَتَّى تَففيءَ إفلَى أَمْرف اللَّهف[ w (سورة الحجرات، الآية 9). ومن هذه الآية الكريمة يبدو أن الخطاب الموجه إلى الدول التي تقف بعيداً عن الخلافات والنزاعات ويرسم لها الإسلام دوراً محدداً، ولعل هذا الدور الذي حدده الإسلام سابقاً وفي إطار المتغيرات العالمية من تكتلات وأحلاف، فإن أفضل ما يمثله هو الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
سادساً: أيديولوجية القومية العربية وسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز:
تستند القومية العربية في مجالها السياسي إلى مبدأي الاستقلال والوحدة كذلك تقوم على سياسة مستقلة تنبع من مصلحة الأمة العربية ذاتها، وتلك هي سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إلى أي من الكتلتين الغربية أو الشرقية، ويرتبط بذلك المشاركة الإيجابية من أجل تحقيق السلام، وإقرار مبدأ التعايش السلمي بين دول العالم، مهما اختلفت العقائد والمذاهب بينها، وكذلك فإن القومية العربية باعتبارها قومية متحررة فهي قومية محررة في الوقت نفسه، من حيث إنها لا تعمل على التحرر من الاستعمار في الدائرة العربية فحسب، وإنما تحمل مسؤوليات تجاه حركات التحرر في العالم ـ خاصة في الدائرة الأفريقية، وما يتطلب ذلك من مناهضة الاستعمار حينما وجد. ومن خلال اختلاف مفهوم الحياد الإيجابي عن مفهوم الحياد المطلق، فالحياد الإيجابي الذي يعتبر إحدى القواعد الدولية في بناء المذهب القومي العربي يقوم على مبدأين أساسيين هما عدم الانزلاق أو الانحياز إلى أي من الكتلتين الدوليتين المتناهضتين والتعايش السلمي مع الجميع، والمبدأ الثاني إيجاد قاعدة ارتكاز أو جبهة عدم انحياز تحقق التوازن الدولي، بمشاركتها في حل المشكلات الدولية حلاً سلمياً، وتخفيف حدة الصراع الدولي، فالقومية العربية حين نادت بمبدأ وسياسة الحياد الإيجابي لا تعني أن يكون حياداً انفرادياً، وإنما تعني حياداً تحتفظ فيه بحرية حركتها وزيادة فعاليتها وإيجابيتها في إنكار سياسة الاعتداء، ومواجهة التنافس بين الكتلتين الهادف إلى السيطرة على الدول المختلفة، والعمل من جهة أخرى على نصرة قضايا الشعوب الساعية إلى تحررها، فلا يمكن أن يكون هناك حياد بين القومية والاستعمار، ولا بين التعاون القائم على أساس من عدم الاحترام المتبادل، وكذلك مع الاستغلال القائم على أسس غير متكافئة وفرض الهيمنة والسيطرة. والقومية العربية بمقوماتها وأهدافها ومنهجها تحقق فكرة التعاون الدولي والتفاهم الدولي في إطار مبادئ أساسية هي:
1. احترام الاستقلال السياسي لكل دولة، ومراعاة العدالة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
2. حق كل دولة في اختيار ما تراه صالحاً لها من النظم السياسية والاقتصادية.
ويعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي السوري أول حركة سياسية عربية قومية نادت بسياسة الحياد الإيجابي، حيث كان يعترض الحزب على سياسة الأحزاب الشيوعية التي تنادي بالوقوف اللا مشروط إلى جانب الكتلة الشرقية، كما كان يعارض الأحزاب اليمينية والدينية في مناداتها بالوقوف إلى جانب الكتلة الغربية، تحت ستار محاربة الزحف الشيوعي، ولقد حدد حزب البعث العربي الاشتراكي السوري مفهومه عن الحياد الإيجابي خلال المؤتمر القومي الثالث في عام 1959م، والذي تمثل في الآتي:
أ. الحياد الإيجابي هو طريق العرب إلى حماية جبهتهم الوطنية الداخلية، ولنجاح ثورتهم، ومكافحة السيطرة الاستعمارية والتسلط الأجنبي، فالتبعية لأحد المعسكرين الدوليين تؤدي إلى تفسخ هذه الجبهة وإخضاع الثورة العربية لتيارات الحرب الباردة.
ب. الحياد الإيجابي هو طريق العرب إلى ربط ثورتهم بالثورة التحررية المتعاظمة في آسيا وأفريقيا.
ج. الحياد الإيجابي هو طريق العرب للمساهمة في تخفيف حدة التوتر الدولي وإقرار التعايش السلمي، وإبعاد شبح الحرب نهائياً، فالحياد الإيجابي بتكوينه قوى شعبية ضخمة ترفض التبعية، وفكرة اقتسام العالم بين المعسكرين، كما أن فكرة الحياد الإيجابي تخفف من حدة هذا الانقسام، ويوجد منطقة سلام منيعة واسعة تساعد كل معسكر على مواجهة أزمته وتصحيح أوضاعه، وتفرز ظروف التعايش والتقدم الإنساني السلمي.
******************************
[1] يكتب الاسم في بعض المراجع هكذا: Zhou Enlai .
[2] فرض الكفاية يعني إن قام به البعض سقط عن الآخرين إلا في حالة الاحتياج فإنه يكون واجب على الجميع. أما فرض العين فيجب على كل مسلم أن يفعله وإن لم يفعله فهو آثم.
المبحث الثاني : نشأة حركة عدم الانحياز وتطورها التاريخي
نشأت حركة عدم الانحياز في ظل ظروف متعددة ومتغيرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث اشتدت حدة التنافس والصراع بهدف فرض النفوذ، وظهرت الحرب الباردة خلال نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات، وكان للتيارات الفكرية والفلسفية التي سادت بعض مناطق العالم لها تأثير واضح على ظهور الحركة الأفرو ـ آسيوية وحركة عدم الانحياز، حيث بدأت تتضح المعالم السياسية والأيديولوجية لهاتين الحركتين، ولقد ساهمت المؤتمرات القارية سواء كانت مؤتمرات آسيوية أو مؤتمرات أفريقية، في إرساء الأسس السياسية للحياد الإيجابي وعدم الانحياز (أفنظر جدول مؤتمرات دول قارتي آسيا وأفريقيا قبل انعقاد مؤتمر باندونج)، حتى انعقاد مؤتمر باندونج بعد أن أدركت شعوب القارتين بأنها تعاني من مشاكل واحدة ومعبرها واحد وتواجه عدو واحد، ولقد تعددت المؤتمرات القارية التي سبقت مؤتمر باندونج، الذي يعتبر نهاية لمرحلة المؤتمرات الإقليمية محدودة العدد والمحصورة في إطار القارة الواحدة، وهي في أغلبها مؤتمرات آسيوية، بسبب محدودية الدول الأفريقية المستقلة خلال فترة الأربعينيات، وبصفة عامة اتسمت هذه المؤتمرات بعدة ظواهر تمثلت في الآتي:
1. محدودية عدد الدول المشاركة، وهو ما يعكس الاهتمام الإقليمي أكثر من الاهتمام العالمي، وكانت معظم الدول المتواجدة دول آسيوية. كذلك كانت بعض الدول منتظمة في حضور هذه المؤتمرات، والبعض الآخر كان متغير وفقاً لأهمية وأهداف المؤتمر.
2. تحددت أهداف المؤتمر في مناقشة قضية أساسية واحدة، كان منها قضايا حرب الهند الصينية وقضية إندونيسيا، وكذلك قضايا التفرقة العنصرية والاستعمار الغربي.
3. لم يكن لمعظم الدول الآسيوية ميولاً كبيرة لإقامة تنظيمات إقليمية، ويرجع ذلك لرغبتها في إيجاد دوراً فاعلاً في السياسيات العالمية، وبالتالي كان حضورها لتحقيق هذا الهدف.
4. كانت معظم الدول الأفريقية ذات نشأة حديثة، ولذلك كانت نظرتها إلى الوحدة الأفريقية تفوق في جديتها نظرتها إلى الاجتماعات والمؤتمرات الأفرو ـ آسيوية.
بدأت مرحلة التضامن الأفرو ـ آسيوي في إطار سياسة التشاور والتقارب بين الشعوب والدول في قارتي آسيا وأفريقيا، بهدف تحقيق التعاون على كافة المستويات، ومكافحة الاستعمار، وتأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولقد تعزز هذا التضامن في مؤتمر باندونج عام 1955، وأخذت الشعوب الآسيوية ـ الأفريقية على عاتقها مهمة تدعيم هذا التضامن، فأنشئت منظمة هي منظمة تضامن الشعوب الأفريقية ـ الآسيوية، وأقامت لها أمانة عامة، وعقدت مؤتمراتها في القاهرة عام 1957م، وكوناكري عام 1960م، وتنزانيا عام 1963م، وغانا عام 1965م، وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لبدايات التضامن الآسيوي ـ الأفريقي فإنه حقق أهدافه عندما تجاوز حدوده الإقليمية، وتجسد في حركة عدم الانحياز وتضامن دول القارات الثلاث بدخول دول أمريكا اللاتينية. لكن وضح منذ تأسيس منظمة تضامن الشعوب الأفريقية ـ الأسيوية عام 1957م، تأثير الاتحاد السوفيتي والصين عليها، ومع زيادة حدة الخلاف الصيني ـ السوفيتي والصراعات المحلية بين بلدان العالم الثالث نفسها وتبعية العديد من هذه البلدان المستقلة حديثاً شكلياً للغرب، قد ساهم في التأثير على فكرة التضامن الأفرو ـ آسيوي وتفريغها من مضمونها، وكان تأجيل انعقاد مؤتمر الجزائر عام 1965م لأجل غير مسمى قد وضع حداً لهذه المرحلة، حيث اتجهت معظم دول العالم الثالث لاستبدال المؤتمرات الأفرو ـ آسيوية بمؤتمرات بلدان عدم الانحياز.
أولاً: الأسباب المنطقية لسياسة عدم الانحياز:
1. بدأت معالم سياسة عدم الانحياز تتضح في ظل متغيرات عالمية، وضح خلالها زيادة انتشار التوجهات الاشتراكية والشيوعية بينما اختفت الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية، ومن ثم تحتم على الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة السعي لإيقاف انتشار التوجهات الشيوعية. إلا أنه كان هناك رفض واضح للدول المستقلة حديثاً للانضمام إلى الأحلاف المختلفة في توجهاتها، ويرجع ذلك لرغبتها في أن تظل في منأى عن المنازعات، إلا في الحالات التي يطلب إليها أن تتدخل فيها كوسيط، كما أنها رغبت في الابتعاد عن اشتباكات الحرب الباردة، فقد كان هناك في السابق شكلان للسياسة المناهضة للأحلاف، إلا أن سياسة الحياد قد أضافت شكل ثالث مما يؤكد تزايد العداء تجاه الأحلاف بصفة عامة، فكان الشكل الأول المناوئ للأحلاف يقضي بمناهضة أي تحالف مع بلاد معينة، وإن كان يؤيد أو يتسامح مع سياسة الأحلاف بصورة عامة، حيث كان الرفض لحلف بالذات مع إمكانية توسيع نطاق البحث عن حلفاء لتعبئتهم ضد أعدائها. ويقضي الشكل الثاني من السياسات المناوئة للأحلاف بالامتناع عن الدخول في أي حلف مهما كان شكله، ويمكن اتباع هذه السياسة بعد دراسات تشمل الموازنة بين السلبيات والإيجابيات التي قد تتحقق باتباع أي سياسات أخرى، وهذا ما تتبعه دول الحياد التقليدية، ولا تتطلب هذه السياسة في الواقع أن تعارض الدولة التي تتبعها في وجود الأحلاف بين الدول الأخرى، أما الشكل الثالث من الحياد المناوئ للأحلاف فيقوم على معارضة أية تحالفات تعقد حتى ولو كانت بين دول أخرى، وحتى إن لم يكن لا شأن لها بها، حيث ترى أن التنافس على الحلفاء قد يكون سبباً في التوتر الدولي، ومن ثم الوصول إلى حالة الصراع المسلح، خاصة وأن التحالفات تضاعف مجموع القوى وتشجع على استخدامها وتحرض على سباق التسلح، والذي ينعكس بالقطع على معدلات التنمية الداخلية، ولما كانت الأحلاف تقوم على الاشتراك في العداء وليس في الصداقة، فإنها تميل في الغالب إلى التفكك والتمزق، وآنذاك تصبح الحرب وسيلة للحيلولة دون هذا التفكك بين أعضاء الحلف، فإذا كانت سياسة الأحلاف لها انعكاساتها على سياسة الدولة الخارجية، فإنها تؤثر كذلك على الأوضاع الداخلية، ومن ثم فإن تبنى سياسة عدم الانحياز يقوم عل ضوء التقديرات العقلانية للأوضاع التي يتطلبها الأمن القومي والاستقرار الداخلي.
2. لقد تعددت دوافع اتباع سياسة عدم الانحياز، فمع زيادة الصراعات الدولية زاد تخوف الدول الصغرى حديثة الاستقلال من أن تجرفها سياسة الأحلاف إلى اكتساب أعداء جدد، ومما لاشك فيه أن الثمن السياسي للحلف يصبح كبيراً عندما يتجاوز نطاق التفاهم الأولى مع الحليف، ويصل إلى حد اكتساب عداء أعدائه كذلك، ولقد وجدت دول الحياد ودول عدم الانحياز أن تبنيها لفكر مناهض للأحلاف كان في إطار الفكرة الحيادية، التي تؤكد على عدم إمكانية الدول النامية حديثة الاستقلال من خلال جهودها الفردية أو الجماعية في تحقيق أمنها وسلامتها، وخاصة ضد أسلحة الدمار الشامل، وبذلك يكون التضامن الذاتي للدول التي تتبنى سياسة عدم الانحياز في معارضتها للدول العظمى للتحالف معها هو في حد ذاته حلف فعال في الأجواء النووية المحيطة لها. كذلك رأت الدول حديثة الاستقلال التي عملت ضد سياسة الأحلاف أنه يوجد علاقة تربط بين سياسة الأحلاف الغربية وبين الاستعمار الغربي، حيث رأت أن الغرب كان يسعى لإقامة أحلاف تربط بينه وبين الدول التي كانت تستعمرها، وقد تشمل دول لم تكن من المستعمرات في السابق، ومن ثم فإن هذه الأحلاف ستكون صورة جديدة للاستعمار، الذي سيجعل الوجود الغربي دائماً وأزلياً، ولذلك كانت معظم التوجهات والرؤى للدول الحديثة الاستقلال أن أخطار الأحلاف الاستعمارية الجديدة قد تهدد بصورة غير مباشرة كافة دول المنطقة.
3. أدى افتراض تحقيق النصر في الحرب الباردة إلى زيادة الشعور ضد الانحياز، حيث وضح أن معظم حركات التحرر الاستقلالية نجحت إلى حد كبير بسبب الحرب العالمية الثانية التي منيت خلالها الدول الغربية بهزائم أولية، ولكنها تمكنت من الانتصار، وقد أكد ذلك للحياديين إمكان انتصار الغرب على الكتلة الشرقية في النهاية ولذا فهو ليس في حاجة إلى أية مساعدة، ومن ثم أصبح لزاماً على الدول التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية أن تستخدم نفس أساليبها في نيل استقلالها، حتى تثبت دعائم هذا الاستقلال وتأكيده. ومن ثم كان تفهم الدول حديثة الاستقلال بخطورة الحرب الباردة والتي هي في الأصل بديلاً عن الحرب العالمية الثالثة والتي كانت في صورة تنافس اقتصادي أثرت على بناء الدول النامية.
4. وكان إعلان العديد من قادة دول عدم الانحياز عن خوفهم من السيطرة الشيوعية، وكذلك سخطهم على الإرهاب النووي السوفيتي جزءاً لا يتجزأ من سياسة عدم الانحياز، ومن ثم دفعهم هذا الخوف إلى الحيطة والحذر وكان سبباً واضحاً من أسباب المواقف اللا انحيازية، لكن انعدام الخوف يمكن أن يكون كذلك سبباً من أسباب اللا انحياز، خاصة عندما يكون الابتعاد عن الكتلة الشيوعية أحد العوامل التي تحقق المناعة من مخاطرها، ومن ثم فإن جوانب كثيرة من العقائد الحيادية في الأمن الدولي ترتكز إلى درجة متفائلة من الثقة في الحماية الذاتية.
5. وفي إطار ميل العديد من الدول حديثة الاستقلال إلى تدويل سياساتها الخارجية، على غرار التركيب الحزبي الداخلي التي كانت تتحالف مع مختلف القوى الخارجية وتتلقى العون المادي والمعنوي منها، فإن سياسات عدم الانحياز والحياد الإيجابي ليست إلا من وسائل المعارضة لمثل هذه الاتجاهات، ومن المفروض أن يؤدي عدم الانحياز إلى تعزيز الوضع الدولي للدولة، ومن ثم إلى تقوية السلطة الداخلية لنظام الحكم، كما تؤدي هذه السياسة كذلك إلى تحقيق الاستقرار على المدى القصير، ويستهوي الأساس اللاانحيازي الأحزاب الوطنية والتقليدية، كما يعمل على عزل الصراعات الحزبية والإقليمية في البلاد عن مشاكل التدخل الخارجي، وكلما كانت المتاعب الداخلية أكثر حدة زاد الميل إلى تجاوز حدود عدم الانحياز إلى سياسة الحياد النضالي، ومما لاشك فيه أن الخوف من الانقسامات الداخلية هو أحد الأسباب في تنمية الروح النضالية التي تسيطر على حكومات الدول الحديثة التي لم تتعزز وحدتها الداخلية بعد، ويوفر الحياد كسياسة خارجية فعالة محوراً للتماسك الداخلي، كما يحد من المعارضة الداخلية للحكومات، يضاف إلى ذلك أن سياسة الحياد النضالي كانت تستهوي الكثير من الدول الحديثة كرد فعل طبيعي لتبعية أيام الاستعمار السابقة.
ثانياً: رؤية الزعامات التاريخية لسياسة عدم الانحياز:
لم يكن العداء الاستعماري إلا رد فعل سياسي ونفسي للسيطرة السياسية الأوروبية السابقة والتسلط الاقتصادي، فكان تمجيداً للاستقلال الذي تحقق، وكذلك مطالبة بالحرية والاستقلال للدول التي مازالت تعاني من التبعية للاستعمار، أما في الإطار الأفريقي ـ الآسيوي كان انعكاساً لصراع سياسي ومذهبي يتحتم خلاله أن يتعزز الموقف بين الانحياز وعدم الانحياز، وكذلك موقفها من الحرب الباردة التي اعتبرها الزعماء التاريخيين لسياسة عدم الانحياز، جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو والسياسي الغاني كوامي نكروما Kwame Nkrumah أنها لا تقل خطورة عن الاستعمار، وقد اختار كل منهم سياسة عدم الانحياز لرغبته في الاحتفاظ باستقلال بلاده وحيادها الذي لا يميل إلى الكتلة الشيوعية ولا إلى التحالف الغربي، ولقد رأى الزعماء التاريخيين لسياسة عدم الانحياز التي تعبر عن مصلحة ذاتية متفتحة، تحقق العديد من المزايا للدول الغير منحازة على الصعيد العسكري تتمثل في الآتي:
1. تضمن سياسة عدم الانحياز الحرية السياسية والاستقلال، كما تسهم في تعزيز المكانة الوطنية.
2. تتيح سياسة عدم الانحياز حرية العمل، بعكس الانتماء إلى الأحلاف التي تحد من هذه الحرية.
3. تحقق سياسة عدم الانحياز الابتعاد عن التورط في الصراعات الكبرى التي تعنيها.
4. يزيد الانحياز من المشاكل المحلية الداخلية ويجعلها عسيرة الحل.
5. تحول الأحلاف بما تنطوي عليه من التزامات عسكرية، عن متطلبات التنمية الاقتصادية الضرورية والملحة، في إطار موارد محدودة لدى الدول حديثة الاستقلال.
6. تكون الدول اللا منحازة في موقف أفضل يمكنها من تقبل أو تطلب العون الاقتصادي من طرفي الصراع في الحرب الباردة.
رغم أن زعماء حركة عدم الانحياز يعللون اتباعهم لهذه السياسة بمقتضيات الحاجة والمصلحة القومية، والمبادئ الأخلاقية السامية، ويؤكد كل منهم أن الرغبة في عدم الانحياز هي ثمرة طبيعية لتاريخ شعبه المميز، كما يعترفوا بأن متطلبات السياسات العالمية والاهتمام بالمصالح القومية تشير كلها إلى أن سياسة عدم الانحياز هي أفضل السياسات، إلا أنهم لم يتشابهوا كل التشابه في تقديراتهم لسياسة عدم الانحياز، فكان نهرو يميل إلى تبرير سياسته على صعيد المبادئ الأخلاقية العالمية الشمولية، لا على صعيد المصالح القومية، أما عبدالناصر ونكروما فكانا أقل ميلاً إلى مثل هذا التبرير، حيث أكد كل منهما على أن سياسة عدم الانحياز وتأييدهما للتعايش السلمي سيؤثران على أوضاع الصراع بين الشرق والغرب، ويحدان من احتمالات الحرب النووية، بل وتضع حداً كبيراً للحرب الباردة.
حدد زعماء حركة عدم الانحياز أربعة أهداف أساسية يسعون لتحقيقها هي تثبيت دعائم استقلالهم السياسي، والقضاء على الاستعمار الأوروبي، وتنمية اقتصادهم الوطني، والقيام بدور خاص إما فرادى أو مجتمعين في محاولة لتسوية الصراعات بين الدول الكبرى، وقد تعرضت سياسة عدم الانحياز لعدة اختبارات وإن كان تطبيقها قد تأثر ببعض الأحداث، إلا أن الزعماء الثلاثة قد استمروا على سياستهم الحيادية، وكان كل منهم يؤمن بأن نظريته قد باتت عميقة الجذور، بحيث تمكنه من دعم سياساته المتبدلة، التي كان يرسمها أحياناً لمواجهة الظروف السريعة التغيير والتحول على الساحة الدولية. وقد كان نهرو أكثر اهتماماً من عبدالناصر ونكروما باحتواء الأخطار الناجمة عن الاستقطاب النووي، إلا أنهما قاما بتأييد جهوده السلمية في الأمم المتحدة، ويعتبر نهرو من المنفذين لسياسة الوساطة كأسلوب أمثل لحل المشاكل العالمية واحتواء منازعات الحرب الباردة، أما عن نكروما فإنه لا يؤيد كثيراً قيام دول عدم الانحياز بدور الوساطة في الحرب الباردة، ولكن طالب بإيجاد قوة ثالثة غير نووية تضم دول عدم الانحياز، وتعمل كقوة عازلة للحروب بين الكتلتين الشرقية والغربية، وكان يرى أنه على الكتلة الثالثة التي تضم الدول الأفريقية والآسيوية أن تدعم القضايا التي تعزز السلام والأمن الدوليين، وأن تقوم بالضغط الأوروبي على الكتلتين الرئيسيتين لمنعهما من دفع الدول المختلفة إلى حرب مفجعة، ويعارض نهرو، نكروما في تكوين قوة ثالثة منظمة، حيث كان يعتبر نفسه الفاعل الأساسي والناطق الرئيسي باسم تجمع حيادي طارئ ويتعمد الإبقاء عليه غامضاً، كما إن عبدالناصر لم يظهر اهتماماً كبيراً باقتراح نكروما الخاص بتكوين قوة ثالثة أو بجهود نهرو للوساطة لاحتواء الحرب الباردة، إذ أن اهتمامه كان منصرفاً إلى قضايا أخرى أكثر صلة ببلاده، وكان يعارض تكوين كتلة حيادية ويطالب بتطبيق سياسة عدم الانحياز أولاً، قبل أن يصبح العالم ثلاث كتل بدلاً من اثنتين.
عارض كل من نهرو وعبد الناصر ونكروما النشاط العسكري الذي ينطوي على المواثيق والتعاون العسكري، فلقد رأى نهرو أن المواثيق العسكرية في كافة صورها تؤدي إلى زيادة التوتر والمخاوف، ولذلك كان يعارض جميع الأحلاف العسكرية بما فيها حلف شمال الأطلسي، وحلف جنوب شرق آسيا، وحلف بغداد، وحلف وارسو، والميثاق السوفيتي ـ الصيني، كما عارض سباق التسلح والمنافسات بين الدول الكبرى، كما أكد عبدالناصر على أن سياسة الكتل والمواثيق العسكرية تؤدي في النهاية إلى سباق تسلح، يخلق مزيد من التوتر، لذلك فإنه عارض حلف بغداد، حيث طالب بأنه إذا كان لابد من عقد مواثيق دفاعية في العالم العربي، فإن هذه المواثيق يجب أن تكون عربية خالصة. كما كان يصر نكروما على أن سياسة الكتل والمنافسات ستزيد حدة الخلافات الدولية وكان يحذر الدول الأفريقية من الدخول في مواثيق دفاعية مع دول خارجية، لأن ذلك يهدد الوحدة الأفريقية وينقل ساحة الحرب الباردة إلى القارة الأفريقية.
أجمع أبرز زعماء عدم الانحياز الثلاثة على معارضتهم للتسلح النووي، وتأييدهم لاقتراحات نزع السلاح، وبالرغم من أن الآراء المتعلقة بنزع السلاح والتي أعلنوها في دورة الأمم المتحدة عام 1960م، كانت تتفق بصورة عامة مع مواقفهم، حيث أيد نهرو عقد اتفاق على منع التجارب النووية كما طالب عبدالناصر بوضع حد لهذه التجارب مع إيجاد نظام للإشراف والمراقبة يؤدي إلى تحقيق السلام والأمن الدوليين، كما دعا إلى الخفض المستمر في نفقات التسليح. كما أكد نكروما على النتائج الاقتصادية السلبية الناجمة عن سباق التسليح والدور الذي تستطيع دول عدم الانحياز أن تؤديه في مجال الإشراف على التسليح ومراقبته.
من تحليل آراء نهرو وعبد الناصر ونكروما في سياسة عدم الانحياز نجد أنها تميزت بعدة خصائص أثرت على السياسات الخارجية لكل من الهند ومصر وغانا في الآتي:
أ. كانت القومية هي الهدف الأساسي لجميع دول عدم الانحياز، حيث كانت تسعى لبناء دولة قومية قادرة على توطيد استقلالها السياسي وتأمين تنميتها الاقتصادية، ولذلك كان النضال الأساسي لدول عدم الانحياز هو صراع بين القومية والاستعمار، وليس الصراع بين المعسكر الشرقي والغربي، حيث كان يعتبر الاستعمار هو الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالحها وأهدافها.
ب. لم تكن سياسة عدم الانحياز إلا انعكاس للحرب الباردة، حيث عملت دول عدم الانحياز على نشأة كتلة ثالثة تمثلت في الحياد الأفرو ـ آسيوي، خاصة بعد تأثر السياسات الخارجية للدول الحديثة الاستقلال بالماضي الاستعماري من جانب، وبالحرب الباردة من جانب آخر، إلا أن بعض الدول كان لها ميلاً واضحاً إلى جانب المعسكر الشرقي، على حين تميل دول أخرى إلى جانب المعسكر الغربي.
ج. وضح اقتناع قادة الدول الحديثة الاستقلال ذات التوجهات اللاانحيازية أن هذه السياسة هي المثلى لتحقيق مصالحهم القومية، وعلى الرغم من أن زعماء حركة عدم الانحياز نهرو ـ عبدالناصر ـ نكروما يعترفون بأن الحكمة والحاجة تمليان السياسة الحيادية، إلا أنهم كانوا يفسرون دائماً عدم انحيازهم في السياسات الخارجية والداخلية ويبررونه على صعيد المبادئ الأخلاقية السامية وأن هذه السياسة هي السبيل الأمثل لإسهام بلادهم في السلام العالمي.
د. رغم انعكاس آثار الحرب الباردة على معظم الدول، ومنها دول عدم الانحياز، إلا أن بعضها تمكن من تحقيق نفعاً محدوداً على المدى القصير، حيث تلقت بعض المعونات الاقتصادية من المعسكرين الشرقي والغربي، ولو لم تكن هناك حرب باردة، لكانت المساعدات التي تلقتها دول عدم الانحياز أقل بكثير مما حصلت عليه فعلاً. كما أن بعض دول عدم الانحياز استطاعت التمتع بميزة اقتصادية من جراء عدم ارتباطها العسكري بأي من الكتلتين، إذ أن بقاءها غير منحازة أدت إلى خفض نفقاتها العسكرية.
هـ. كان إسهام دول عدم الانحياز في الحفاظ على السلام العالمي والاستقرار محدوداً بعض الشيء، حيث لم يكن هناك جهوداً للتوسط في خلافات الدول الكبرى بفاعلية إلا عندما تكون الدول الكبرى راغبة في تسوية خلافاتها، حيث كان يجري التوصل إلى اتفاق من طريق الوسائل الدبلوماسية العادية دون الحاجة إلى وساطة، ويتحدد بذلك دور دول عدم الانحياز بالمشاركة في فرق المراقبة الدولية التابعة للأمم المتحدة.
و. كانت تتوقف درجة وحدة الكتلة الأفرو ـ آسيوية في سياستها الخارجية ضمن كتلة عدم الانحياز على أبعاد المشكلة المعروضة، حيث كانت تقترع هذه الدول كثيراً في الأمم المتحدة ككتلة واحدة لأنها كانت تتجاوب إما مع قضايا مناهضة الاستعمار، أو مع إقرار عام يتناول شؤون السلام، ولكن هذه الوحدة المرتكزة على عداء الاستعمار والرغبة في تحقيق السلام العالمي كانت تنهار وتظهر الاختلافات عندما تكون المشكلة مؤثرة على مصالح وصراعات محلية وإقليمية.
ثالثاً: الإطار الدولي لنشأة سياسة عدم الانحياز:
إن عدم الانحياز ليس مفهوماً سلبياً فهو ليس حياداً، ولم يكن سياسة القوى أو الانعزال، بل هو تعبير عن حركة دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تهدف إلى تحويل النظام الدولي بما يحتويه من صراعات إلى نظام يقوم على العدالة لخدمة مصالحهم القومية، من أجل بناء اجتماعي واقتصادي قوي، وكذلك إقامة نظم سياسية صالحة، ولقد كانت البيئة الدولية السائدة سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها ذات تأثير بالغ على نشأة سياسة عدم الانحياز، حيث تميز الوضع السياسي في المرحلة الأولى اللاحقة على الحرب العالمية الثانية، وخاصة في نهاية الأربعينيات وفترة الخمسينيات بالآتي:
1. ظهرت القوة النووية كأداة للصراع المسلح حيث ألقيت أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما في 6 أغسطس 1945م، وألقيت القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكى في 9 أغسطس 1945م ، وانعكس ذلك على أساليب الحرب، مما أدى إلى تسابق في تطوير وسائل التدمير، حيث أمكن التوصل لصناعة القنبلة الهيدروجينية عام 1952م.
2. انقسم العالم إلى معسكرين، وظهرت معالم الحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انقسم الحلفاء لاختلاف توجهاتهم الأيديولوجية، حيث كانت بداية انتشار الفكر الشيوعي في أوروبا الشرقية منذ عام 1949، وبدأت الثورة الشيوعية في الصين عام 1949م، وبدأت حركة التحرر الوطني في فيتنام ونشبت حرب كوريا عام 1950.
3. أدى تسابق المعسكرين الشرقي والغربي من أجل التسلح والسيطرة وإيقاف توسع المعسكر الآخر إلى وضوح معالم الحرب الباردة، والتي كانت عبارة عن صراع دولي غير مسلح يقوم على التهديد باستعمال القوة، وكان ينعكس ذلك على زيادة حدة التوتر التي تجعل من الصراع المسلح احتمال قريب الحدوث، ولقد تمثلت معالم الحرب الباردة في الإذاعات العدائية والدعايات المثيرة، وتناول الاتهامات والتصرفات العدائية بين الزعماء والقادة، وتوجيه الإنذارات والتهديدات بين الدول، وسرعة حشد القوات العسكرية في مناطق التوتر.
4. حققت الولايات المتحدة الأمريكية سبقاً نووياً في بداية الحرب الباردة حتى استطاع الاتحاد السوفيتي تحقيق تفجيره النووي عام 1953م، ثم تسابق الطرفان في تفجيراتهما الهيدروجينية عام 1954م، إلا أن الاتحاد السوفيتي حقق تفوق في الفضاء بإطلاق أول قمر صناعي عام 1957م.
5. ظهرت بعض الدول التي كان لها موقف خاص في بداية الحرب الباردة ومنها يوغسلافيا، حيث سعى جوزيف بروز تيتو منذ عام 1948م للمحافظة على استقلالية بلاده من النفوذ السوفيتي رغم توجهاته الشيوعية، وواجه عداء الكتلة الشيوعية، كذلك لم يقبل المساعدات التي عرضتها عليه الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد ساعد ذلك على تبلور سياسة الحياد وعدم الانحياز.
6. برزت معالم سياسة الأحلاف العسكرية خاصة بعد سلسلة المعاهدات التي أبرمها الاتحاد السوفيتي في عام 1943م، مع تشيكوسلوفاكيا، وفي عام 1945م مع يوغسلافيا وبولندا، الأمر الذي اعتبر قيام تجمع دولي يقوده الاتحاد السوفيتي، وتمثل الرد الغربي في معاهدة بروكسل للضمان الجماعي عام 1948م بين كل من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولكسمبورج، ثم كانت معاهدة حلف شمال الأطلسي بين دول معاهدة بروكسل وكندا وإيطاليا والدانمارك والنرويج والبرتغال وأيسلندا إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
7. مع تبلور معالم الحرب الباردة وآثارها عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إيقاف المد الشيوعي واحتوائه بسلسلة من الأحلاف والمعاهدات الدولية والتي تمثلت في الآتي:
أ. معاهدة شمال الأطلسي عام 1949م، وانضمت إليها كل من تركيا واليونان عام 1951م، ثم ألمانيا الغربية عام 1955م، وعمد هذا الحلف إلى تعزيز ودعم قوة أعضائه العسكرية حيث تبنى سياسة عسكرية تقوم على التسلح النووي.
ب. حلف البلقان بين تركيا واليونان ويوغسلافيا عام 1953م، وبهدف إيجاد تعاون دولي ضد الحظر الشيوعي. إلا أن هذا الحلف سرعان ما تفكك بسبب نبذ يوغسلافيا لسياسة الأحلاف
ج. حلف جنوب شرق آسيا، والذي سعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلاله حصار النجاح الشيوعي في الصين، وتعاظم حركات التحرر الوطني في آسيا، وتكون هذا الحلف من استراليا وفرنسا ونيوزيلندا وباكستان والفليبين وتايلاند والولايات المتحدة الأمريكية، ووقعت هذه الدول على معاهدة جنوب شرق آسيا للدفاع الجماعي في مانيلا عام 1954م.
8. اعتمد الأسلوب السوفيتي في التوسع على مساعدة الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا، وبوصولها للسلطة تعقد الاتفاقات معها، حيث تمكنت من توقيع معاهدات ثنائية مع كل من تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا خلال عامي 1943م ـ 1945م، كذلك قامت يوغسلافيا بعقد عدة معاهدات مع كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا والمجر وبلغاريا خلال عامي 1946م ـ 1947م، كذلك تمكن الاتحاد السوفيتي من عقد معاهدات ثنائية مع كل من رومانيا والمجر وبلغاريا وفنلندا عام 1948م. وتلاحظ خلال هذه المرحلة انفصال يوغسلافيا عن الكومنفورم الشيوعي، ومن ثم ألغى الاتحاد السوفيتي معاهدته معها عام 1948م.
9. إزاء قيام حلف شمال الأطلسي ونشأته ككتلة يضم ألمانيا ، بدأ الاتحاد السوفيتي في الشعور بأن المعاهدات الثنائية أصبحت غير مناسبة، لذا عمل على تكوين حلف وارسو عام 1955م، والذي تكون من الاتحاد السوفيتي وألبانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وبولندا ورومانيا، إضافة إلى إعلان الاتحاد السوفيتي عن مشروع مولوتوف للتعاون الاقتصادي مع دول شرق أوروبا لمواجهة مشروع مارشال، ثم أنشأ مجلس المعونة الاقتصادية المتبادلة "الكوميكون" عام 1949م للإشراف على مشروع مولوتوف. كذلك كون الكومنفورم.
10. كان نشأة عصبة الأمم عام 1920م بهدف تحقيق السلام الدولي ومنع الحروب وتنشيط التعاون بين الدول، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م واستمرارها لمدة ستة سنوات، حتى أمكن عقد مؤتمر سان فرانسسكو عام 1945م، لوضع نظام دولي جديد والتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م، والذي أوضح أهدافها في الآتي:
أ. حفظ السلم والأمن الدوليين.
ب. إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس المساواة بين الدول.
ج. تحقيق التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لكن رغم الآمال التي كانت معقودة على الأمم المتحدة كمنظمة دولية تستطيع القيام بدور فعال في حفظ السلام زادت حدة التوترات والصراعات الدولية ومنيت خلالها بإخفاقات متعددة.
رابعاً: الإطار العربي لنشأة سياسة عدم الانحياز:
لقد عانت المنطقة العربية من السيطرة الاستعمارية، حيث تقاسمتها العديد من الدول الاستعمارية بريطانيا ـ فرنسا، ونظراً لوضوح معالم الحركات الوطنية العربية المطالبة بالاستقلال، عملت القوى الغربية لإقامة الأحلاف الهادفة إلى فرض سيطرتها على المنطقة، ومن ثم عرضت أشكال مختلفة لهذه الأحلاف تختلف في الآتي:
1. مشروع قيادة الشرق الأوسط، على أساس إنشاء منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط تضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والدول العربية وإسرائيل وجنوب أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا، على أن تكون مصر مقر قيادة قوات المنظمة التي تخصصها الحكومات، إلا أن مصر عارضت هذه المنظمة عام 1951.
2. حلف بغداد، الذي تطورت الدعوة لإقامته عبر مراحل مختلفة، أولها كان عقد اتفاقات ثنائية بين العراق وتركيا في فبراير عام 1955م لإقامة حلف بينهما للمساعدة في الدفاع الجماعي عن النفس طبقاً لميثاق الأمم المتحدة، وانضمت المملكة المتحدة للحلف في مايو 1955م، وتبعتها باكستان في يوليه 1955م، ثم إيران في نوفمبر 1955م، وانضمت الولايات المتحدة للجنة العسكرية واللجان الأخرى في عام 1957م، وكانت هي المصدر الأساسي لتسليم أعضاءه ورسم إستراتيجيتهم.
3. مبدأ إيزنهاور، الذي أعلن أثر إخفاق العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، والذي يسمح من خلاله استخدام القوات الأمريكية في الشرق الأوسط إذا كانت هناك ضرورة، على أن يرتبط ذلك بتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية لدول الشرق الأوسط التي توافق على المبدأ ولقد قام مبدأ أيزنهاور على أساس عدة اعتبارات هي:
أ. ملء الفراغ الذي نتج في الشرق الأوسط بعد انتهاء الاستعمار الإنجليزي والفرنسي ويجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تشغل هذا الفراغ.
ب. عدم تحديد المقصود بالشرق الأوسط لذا اختلفت حدود منطقة الشرق الأوسط والتي شملت المنطقة من مضيق جبل طارق حتى بحر العرب ومن تركيا حتى المملكة العربية السعودية، كما قد تمتد لتشمل إثيوبيا وغيرها.
ج. تترك عملية تحديد ضرورة التدخل الأمريكي حسب تقدير السلطة الأمريكية.
ولقد قبلت المشروع كل من لبنان ودول حلف بغداد، وقد عارضه كل من مصر وسورية والأردن واليمن، وطرح جمال عبدالناصر نظرية الحياد وعدم الانحياز كبديل أساسي لنظرية الأحلاف التي سعت الكتلتين لفرضها على المنطقة.
المبحث الثالث : الإطار المؤسسي لحركة عدم الانحياز
اتسمت حركة عدم الانحياز منذ نشأتها بأنها تجمع اختياري حر للدول حديثة الاستقلال والتكوين، والتي سعت إلى الحفاظ على استقلالها وسيادتها، ومن ثم كانت معارضة أعضاء هذه الحركة لسياسة التكتل والأحلاف الدولية، ولقد تميزت سياسة عدم الانحياز بوجود إطار مؤسسي له خواصه ومميزاته التي تختلف عن التنظيمات الإقليمية والدولية التي اتصفت بالآتي:
1. وجود تنظيم إقليمي أو دولي له إطار مؤسس، ونظام للعضوية محدد يختص بالقبول والفصل والإيقاف، وأسلوب الإدلاء بالأصوات واتخاذ القرارات، واللوائح المنظمة للإجراءات.
2. كان الهدف الأساسي للتنظيمات الإقليمية والدولية هو توفير الحماية العسكرية للدول الأعضاء من خصومهم، وارتبط ذلك بالصراع والاستقطاب الدولي.
3. رغم أن التنظيمات الإقليمية والدولية تأخذ بقاعدة المساواة، إلا أنه من الناحية العملية تقوم على أسلوب الدولة القائدة، وبذلك يكون هناك اختلافات وتمايز بين أطراف التنظيم أو التحالف من حيث القوة الاقتصادية أو العسكرية أو النفوذ السياسي، وانعكس ذلك في أداء المنظمات الدولية والإقليمية.
لم يقنع بالاعتبارات السابقة مؤسسي حركة عدم الانحياز، حيث رأوا أن معظم أشكال وصور التجمعات الإقليمية والدولية ليست إلا دعوة للاستقطاب الدولي، الهادفة إلى فرض السيطرة الإقليمية أو الدولية، ولذلك وجهوا اهتمامهم إلى الأهداف والغايات أكثر من اهتمامهم ببناء الهيكل التنظيمي والمؤسسي، ولم يستقر على تحديد التوصيف منذ اللقاءات الأولى، من حيث كونه حركة أو جماعة أو تنظيم، واكتفي عند النشأة بتسمية مؤتمر كتعبير محايد عن نوعية اللقاء، وبذلك تكون حركة عدم الانحياز منذ نشأتها تفعبر عن اتجاه سياسي تمثل في الآتي:
1. إن سياسة عدم الانحياز تمثل التوجهات السياسية للدول النامية حديثة الاستقلال.
2. تطورت سياسة عدم الانحياز بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى مرحلة التأثير الدولي في ظل الحرب الباردة، وطورت من برامجها لتحقيق مبادئها في الاستقلال الشامل.
3. حظيت سياسة عدم الانحياز باهتمام التجمعات الدولية بعد أن كانت تعتبرها منذ نشأتها انتهازية، ورجع هذا الاهتمام بعد تعميق جذورها وتزايد عضويتها ودورها الذي تؤديه.
أولاً: نظام وقيود العضوية في حركة عدم الانحياز:
في المؤتمر التحضيري لحركة عدم الانحياز الذي عقد في القاهرة في 5 يونيه 1961م، وحضره 22 دولة، تحددت معايير العضوية في حركة عدم الانحياز، والتي على أساسها وجهت الدعوة للدول المشتركة في مؤتمر بلجراد، وتمثلت هذه المعايير الخمسة في الآتي:
أولاً: أن تكون الدولة قد انتهجت سياسة مستقلة مبنية على التعايش السلمي بين الدول ذات النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، وأن تكون قد أظهرت اتجاهات نحو هذه السياسة.
ثانياً: أن تكون الدولة مؤيدة باستمرار لحركات التحرر الوطني.
ثالثاً: ألا تكون الدولة عضواً في حلف عسكري متعدد الأطراف، في نطاق الصراع بين الدول الكبرى.
رابعاً: إذا كانت الدولة طرفاً في اتفاقية عسكرية ثنائية مع دولة كبرى، أو إذا كانت عضواً في حلف إقليمي، فإن الاتفاق أو الحلف يجب ألا يكون قد عقد في نطاق منازعات الدول الكبرى.
خامساً: إذا كانت الدولة قد سمحت بوجود قواعد عسكرية لدولة أجنبية كبرى، فإن هذا السماح يجب ألا يكون في نطاق منازعات الدول الكبرى.
وقد تميزت هذه المعايير بالمرونة بدرجة كبيرة، حيث إنها لم تستبعد الدول التي كانت بها قواعد عسكرية، ولكن اشترطت ألا تكون هذه القواعد في إطار سياسات القوى الكبرى، كذلك لم تؤكد على أهمية انتهاج الدولة سياسة مستقلة، بل اكتفت بأن تعلن الدولة رغبتها عن تبني هذه السياسة، كذلك يلاحظ أن هذه المعايير التي حفددت لم تكن مرنة في صياغتها فقط، بل كانت مرنة في إطار التطبيق العملي أيضاً، فلم تفثار التساؤلات حول العديد من الدول التي كان لها توجهات مخالفة لسياسة عدم الانحياز، وبعد تحديد هذه المعايير عفقدت لجنة على مستوى السفراء للدول المشتركة في المؤتمر التحضيري بالقاهرة يوم 21 يونيه عام 1961م، لتحديد الدول التي ستوجه الدعوة إليها لحضور مؤتمر عدم الانحياز، ولقد قامت كل من مصر ويوغسلافيا وإندونيسيا بالدعوة للمؤتمر الذي عفقد في بلجراد أول سبتمبر 1961م، واشتركت فيه 25 دولة بصفة عضواً، وهي مصر ويوغسلافيا والهند وإندونيسيا وأفغانستان والجزائر وبورما وكمبوديا وسيلان وكوبا وقبرص وإثيوبيا وغانا وغينيا والعراق ولبنان ومالي والمغرب ونيبال والمملكة العربية السعودية والصومال والسودان وتونس واليمن والكونغو، إضافة إلى ثلاث دول حضروا كمراقبين وهم بوليفيا والبرازيل والإكوادور.
أخذت عملية الانضمام لعضوية حركة عدم الانحياز عدة صور من خلال حضور مؤتمرات الحركة، فكانت الصورة الأولى مشاركة الدول كأعضاء عن طريق دعوة الدول ذات العضوية الدائمة، ويقوم بتوجيه الدعوة نيابة عنها إما مجموعة الدول الداعية أو الدولة المضيفة، وكانت تجرى كافة المراحل الإجرائية للانضمام للحركة خلال مؤتمر تحضيري، يعقد قبل عقد مؤتمر قمة الحركة، أما الصورة الثانية فكانت الحضور بصفة مراقب وكانت توجه الدعوة للدول التي تنطبق عليها معايير العضوية، ولكنها بمحض إرادتها لم تكن راغبة في الحضور، وكذلك الدول التي لا تنطبق عليها كافة معايير الانضمام، ولكنها ترغب في المشاركة، أما الصورة الثالثة للمشاركة فكانت الحضور بصفة ضيف، وفي مقدمة المشاركين في هذه الصفة حركات التحرر الوطني، إلا أنه يلاحظ عدم وجود معايير خاصة بالمشاركين بصفة مراقبين أو ضيوف، كذلك اختلف التوصيف بالنسبة لحركات التحرر، فكانت تدعى للحضور دون توصيف في مرحلة من مراحل الحركة الأولى، ثم يفجرى توصيفها كضيوف في مراحل تالية، حيث إن صفة المشاركة والعضوية لم تكن واضحة لقادة الحركة المؤسسين، وإنما تطورت بتطور الاجتماعات، إلا أن توجيه الدعوات للحضور والمشاركة كان يتقرر خلال المؤتمرات التحضيرية، التي كانت تسبق مؤتمرات القمة للحركة، ونظراً لأن حركة عدم الانحياز ظهرت وتطورت أساساً كحركة مناهضة لاختلال التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الدولي، لذا فإنها لم تضع قواعد ملزمة لعضويته، وكذلك لم تحدد حالات إيقاف العضوية أو فصل أحد أعضائها أو المطالبة بذلك، وكذلك حالة الانسحاب من الحركة.
لقد مرت عملية الانضمام للحركة بعدة مراحل، حيث كان هناك تزايد مستمر للدول الأعضاء في الحركة، ففي عام 1961م كان هناك ثلاث دول ذات عضوية دائمة في الحركة قامت بتوجيه الدعوة لعقد مؤتمر القمة الأول التأسيسي، لحركة عدم الانحياز في بلجراد واشترك فيه خمس وعشرون دولة بصفة عضو، كذلك شارك في المؤتمر ثلاث دول بصفة مراقب، وفي الفترة من 5 – 10 أكتوبر 1964م من خلال مؤتمر القمة الثاني للحركة الذي عقد في القاهرة ارتفع عدد الدول الدائمة العضوية إلى عشرة دول معظمها من أمريكا اللاتينية باستثناء فنلندا، وبينها دولة اشتركت في المؤتمر الأول ولم تشترك في المؤتمر الثاني وهي الإكوادور، واشترك في المؤتمر سبعة وأربعون دولة بصفة عضو، أما عدد الدول المشاركة بصفة مراقب كانت عشرة دول، وبذلك كان هناك زيادة اثنين وعشرون دولة في عدد أعضاء الحركة، ويلاحظ أنه من بين الدول التي انضمت للحركة خلال هذه المرحلة ستة عشر دولة أفريقية حصلت على استقلالها، إضافة إلى ستة دول عربية ودولة آسيوية، وتعتبر هذه المرحلة هي قمة المد التي وصلت إليها حركة عدم الانحياز في إطار تصديها للاستعمار في كل المناطق التي تنتمي للعالم الثالث، وقد شعرت الولايات المتحدة بخطورة حركة عدم الانحياز وتفاعلاتها الدولية في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا، التي كان الاستعمار الأمريكي يرى أنه الوريث الطبيعي للاستعمار الأوروبي فيها، ولقد تبلور موقفها في انقلاب البرازيل الذي سبق مؤتمر بلجراد، والذي كان هدفه منع اشتراك البرازيل كعضو عامل في حركة عدم الانحياز، واعتبر ذلك إنذاراً لكل دول أمريكا اللاتينية، ومن ثم كان أحد الأسباب التي جعلت دول أمريكا اللاتينية تكتفي بعضوية الحركة كمراقب فقط، ويلاحظ خلال هذه المرحلة أنه أمام شعبية قيادة الحركة ومواقفهم المناهضة للاستعمار، أصبحت هذه السياسة ذات جاذبية خاصة لدول العالم الثالث حتى أصبحت كل دولة تحصل على استقلالها لا تجد أمامها سبيلاً لتأكيد استقلالها سوى الإعلان عن انضمامها لحركة عدم الانحياز، وخلال هذه المرحلة فقدت الحركة قبيل عقد المؤتمر الثاني واحداً من أبرز قادتها وهو الزعيم الهندي نهرو.
في الفترة من 8 - 10 سبتمبر 1970م انعقد مؤتمر القمة الثالث في لوساكا عاصمة زامبيا، واشتركت فيه أربعة وخمسون دولة بزيادة سبع دول عن مؤتمر القمة الثاني، ولكن كان الانضمام الفعلي ثلاثة عشر دولة، حيث كان هناك دولاً لم تحضر المؤتمر الثالث رغم اشتراكها في المؤتمر الأول ببلجراد والمؤتمر الثاني بالقاهرة، وهذه الدول بورما ـ المملكة العربية السعودية، وكذلك كان هناك دولاً اشتركت في المؤتمر الثاني ولم تحضر المؤتمر الثالث، وهي الداهومي، كما أنه يوجد دولاً انقسمت إلى دولتين وهي الكونغو واليمن، ويلاحظ خلال هذه المرحلة غياب معظم قادة حركة عدم الانحياز، حيث لم يحضر مؤتمر القمة الثالث كل من نكروما وسوكارنو بسبب تعدد الانقلابات الداخلية في بلادهم، كذلك كان غياب جمال عبدالناصر بسبب أحداث سبتمبر ضد الثورة الفلسطينية في الأردن، كذلك سقط عدداً من دول عدم الانحياز في دائرة مناطق النفوذ الاستعماري وإن لم تعلن تخليها عن مبادئ الحركة، وأمام هذه العوامل بدأ شعور عام ينتاب دول عدم الانحياز بعدم فاعلية الحركة، وطرحت بعض الاقتراحات الهادفة إلى إنشاء جهاز ثابت يختص لمتابعة قرارات مؤتمرات القمة لدول حركة عدم الانحياز وتنسيق العمل بين دول المجموعة، إلا أن العديد من الدول عارضت فكرة إنشاء هذا الجهاز، إذ اعتبرته الأغلبية أنه سيكون رمزاً للتكتل الذي قامت المجموعة أساساً لتعارضه، واستقر الرأي على انتخاب أحد رؤساء الدول رئيساً للحركة خلال الفترة بين المؤتمرين، على أن يقوم بمتابعة قرارات وتوجيهات مؤتمرات الحركة، على أن يقوم ممثلو الحركة في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بالتعاون وتنسيق جهودهم لتنفيذ قرارات الحركة.
وفي الفترة من 5 - 9 سبتمبر 1973م انعقد مؤتمر القمة الرابع لحركة عدم الانحياز في الجزائر، وحضره ستة وسبعون دولة أي بزيادة إحدى وعشرون دولة عن المؤتمر السابق، ويلاحظ خلال هذه المرحلة اشتراك كل الدول العربية، كما أن مشاركة دول أمريكا اللاتينية عدا كوبا كانت بصفة مراقبين، كما أن شيلي اشتركت بوفد شعبي بعد أن أيدت الولايات المتحدة الأمريكية الانقلاب الذي انتهى باغتيال رئيس شيلي والاستيلاء على الحكم، وسفمح خلال هذه المرحلة بمشاركة حركات التحرير المختلفة، كما تقرر عقد مؤتمر وزاري سنوي في نيويورك خلال شهر سبتمبر من كل عام بهدف التنسيق بين دول حركة عدم الانحياز داخل الأمم المتحدة، كما تقرر تشكيل لجنة دائمة من سبعة دول أعضاء يفجرى انتخابهم سنوياً على أساس جغرافي في المؤتمر السنوي لوزراء الخارجية، وعملها الأساسي هو دراسة الأعمال التحضيرية لمؤتمر وزراء الخارجية في نيويورك.
انعقد مؤتمر القمة الخامس لحركة عدم الانحياز في كولومبو، الفترة من 16 ـ 19 أغسطس 1976م اشترك فيه سبعة وثمانون دولة أي بزيادة عشر دول، منهم سبع دول أفريقية نالت استقلالها، كما انضمت دولة من أمريكا اللاتينية هي بنما، كذلك تقرر اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية عضواً كاملاً في حركة عدم الانحياز، كذلك استمر حضور دول أمريكا اللاتينية بصفة مراقبين، وخلال الفترة من 3 – 9 سبتمبر 1979م انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز في كوبا، وقارب عدد المشاركين خلال هذه المرحلة مائة دولة كاملة العضوية، وبلغ عدد المراقبين اثنتي عشر دولة من دول العالم الثالث، وكان التوزيع الجغرافي للدول الأعضاء كالآتي 33% من آسيا، 55% من أفريقيا، 9% من أمريكا اللاتينية، 3% من أوروبا، وفي الفترة من 7 - 12 سبتمبر 1983م انعقد المؤتمر السابع لقمة حركة عدم الانحياز في ني ودلهي، بعد نقله من بغداد بسبب الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبلغ عدد الأعضاء خلال هذه المرحلة مائة وواحد عضواً، ومع تعدد مؤتمرات القمة لدول عدم الانحياز كانت هناك زيادة مستمرة في العضوية حتى كان مؤتمر القمة العاشر الذي عفقد في جاكرتا في الفترة من 1-6 سبتمبر 1992م، والذي وصل فيه عدد الأعضاء إلى مائة واثنتي عشرة دولة، وخلال مؤتمر القمة الثاني عشر والذي عفقد في الفترة من 2 – 3 سبتمبر 1998م في ديربان بجنوب أفريقيا، وصل فيه عدد الأعضاء إلى مائة وثلاثة عشر دولة بصفة أعضاء دائمين، ولقد وصل عدد الدول التي حضرت بصفة مراقب حوالي ثلاثة عشرة دولة.
ثانياً: الهيكل التنظيمي لحركة عدم الانحياز:
من السمات الرئيسية لحركة عدم الانحياز هي معارضتها في وضع هياكل تنظيمية وإطارات محددة تماثل الأحلاف والتكتلات الدولية، ومن ثم كان هناك عدة تقسيمات تطلق على الدول التي تبنت هذه السياسة، فكان يطلق عليها منذ النشأة مجموعة عدم الانحياز أو دول عدم الانحياز، إلا أنه منذ السبعينيات تحدد الاسم الذي يطلق عليها ليكون حركة عدم الانحياز، وعارضت الحركة لفترة طويلة الدعوة لإنشاء سكرتارية لها، خشية أن تتحول الحركة إلى تكتل دولي، إلا أنه في مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز والذي عقد في الجزائر عام 1973م جرت الموافقة على إنشاء مكتب للتنسيق والذي يعتبر الجهاز التنفيذي الدائم الوحيد للحركة، وكان عدد أعضاء هذا المكتب سبعة عشر عضواً، زاد عددهم في مؤتمر كولومبو عام 1976م ليكون 25 عضواً، وفي مؤتمر هافانا عام 1979م أصبح عدد أعضاؤه ستة وثلاثون عضواً جرى توزيعهم على أساس جغرافي بحيث شغلت الدول الأفريقية سبعة عشر مقعداً والدول الآسيوية اثنا عشر مقعداً، بينما شغلت دول أمريكا اللاتينية ستة مقاعد، أما المقعد الرابع والثلاثين فتناوب عليه كل من الدول الأفريقية والأوروبية المنتخبة لمدة سنة ونصف، وفي قمة نيودلهي أصبحت العضوية لمكتب التنسيق مفتوحة لكافة الأعضاء ولذلك أصبح يضم أربعة وسبعون عضواً، وقفصد بهذا العدد الكبير تحقيق توازن جغرافي في داخل مجموعة عدم الانحياز حيث خصص ستة وثلاثون مقعداً للدول الأفريقية وثلاثة وعشرون مقعداً للدول الآسيوية واثني عشر مقعداً لدول أمريكا اللاتينية وثلاثة مقاعد للدول الأوروبية.
تعقد اجتماعات مكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز إما خلال اجتماعاتها الدورية على مستوى المندوبين الدائمين، وتفجرى هذه الاجتماعات في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، أو قد تكون اجتماعات استثنائية وتفعقد في إحدى دول عدم الانحياز، ومعظم هذه الاجتماعات تكون على المستوى الوزاري، وتكون بهدف دراسة مشكلة محدودة. ولقد تقرر خلال مؤتمر قمة كولومبو عام 1976م تشكيل وتحديد اختصاصات مكتب التنسيق للحركة، حيث تحددت مهام المكتب في تنسيق عمل الحركة بين أعضائها في الفترة ما بين انعقاد مؤتمرات القمة، كما يكلف بتنفيذ البرامج والقرارات التي تتخذها مؤتمرات القمة، ويجري اختيار أعضاء مكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز من خلال مؤتمرات القمة، ويتولى رئاسة مكتب التنسيق ممثل الدولة التي استضافت القمة الأخيرة، ويكلف الرئيس بمهام دعوة المكتب للانعقاد للتنسيق والتشاور في نشاطات الحركة والقضايا السياسية والاقتصادية الهامة والتي ستطرح على الأمم المتحدة.
تحددت الخطوط الاسترشادية لمهام أعضاء مكتب التنسيق وأسلوب عملهم في الآتي:
1. لا يوجد تمييز بين الدول أعضاء مكتب التنسيق والدول غير الأعضاء فيه، من حيث طلب الكلمة وتحديد مواعيد ومقار الاجتماعات، والمشاركة في أعمال اللجنة الفرعية ومجموعات العمل وتقديم المقترحات الخاصة بالقضايا والمشاكل المعروضة.
2. من حق جميع الدول أعضاء حركة دول عدم الانحياز المشاركة في اجتماعات مكتب التنسيق وبحث القضايا التي تهمهم على قدم المساواة.
3. يحتفظ مكتب التنسيق بسجلات للاجتماعات الرسمية والاجتماعات العامة التي تعقد، كما يجري التقديم للاجتماعات التالية للتصديق عليها.
4. تقدم جميع القرارات التي يتخذها المكتب على مستوى المندوبين الدائمين في الاجتماعات العامة للحركة بناءً على طلب أحد الدول أعضاء الحركة.
ولم يتوقف تطوير الهيكل التنظيمي لمكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز، حيث أخذت تطور مفاهيمها وأبعادها كما طورت كذلك في إطارها المؤسسي وكذلك أسلوب عملها، (أفنظر شكل الهيكل التنظيمي لحركة عدم الانحياز).
ثالثاً: آلية صنع القرارات في حركة عدم الانحياز:
يجري اتخاذ القرارات في اجتماعات حركة عدم الانحياز من خلال توافق الآراء، حيث يجرى حوار ديموقراطي حر بين جميع الأعضاء، وإذا كان هناك اتفاق عام على تصور ما أو فقرة يجري إقرارها، ورغم إقرار دول الحركة لبياناتها بتوافق الآراء فيما بينها، إلا أنه لم يوجد مفهوم محدد لمعنى توافق الآراء، ولم يفطرح هذا الموضوع للبحث في إطار الحركة حتى عام 1973م، واختلفت الآراء حوله، حيث أكد بعض الأعضاء في الحركة إلى أن هذا المفهوم له صفة غير محددة وإن كان يعني بوجه عام وجود اتفاق في الرأي، كما يعني كذلك إمكانية وجود الاختلافات المتبادلة، إلا أنه يوجد حتمية العمل على أن يحقق القرار استيعاباً متبادلاً لوجهات النظر المختلفة والمتعددة من خلال عملية المواءمة.
لقد حددت مجموعة عدم الانحياز بعد إجراء العديد من المناقشات حول موضوع توافق الرأي أن مفهوم توافق الآراء منهج أفرو ـ آسيوي ولاتيني وعربي لاتخاذ القرارات في المجتمعات منذ القدم، والذي يتفق مع مفهوم الإجماع في الشريعة الإسلامية وليس الإجماع بمفهومه الحديث، إلا أن تحقيق توافق الرأي يعتبر عملية معقدة تستلزم مزيد من الجهد والوقت عن أي أسلوب آخر، وفي ذات الوقت كان إتباع أسلوب توافق الرأي للوصول إلى اتفاق عام من أسباب الحفاظ على وحدة حركة عدم الانحياز وتماسكها واستمرارها، كذلك أمكن تطوير مبادئها في إطار حكم الالتزام بالمبادئ والقيم الأساسية.
ولكي يمكن الوصول إلى توافق في الرأي، تجرى عدة مراحل سابقة يفدرس خلالها الموضوع في إطار المجموعات المصغرة، ثم يفنتقل بعد ذلك بالدراسة على مستوى المندوبين، ثم مستوى الوزراء، وفي النهاية تفعرض على مؤتمر القمة لدول عدم الانحياز، إلا أنه يظهر خلال هذه المرحلة دور رئيس المؤتمر، لأنه المسؤول عن إعلان الوصول لتوافق الرأي من عدمه، ولذلك تكون قدرات رئيس مؤتمر القمة من الأهمية لتحقيق الوفاق والتعاون والتضامن، ومن ثم تكون عملية اختيار الرئيس من خلال توفر هذه القدرات والإمكانيات حتى لا تكون سبباً لبث الفرقة والخصام، والتي بالقطع ستنعكس على الحركة وإضعافها وتفتيتها، كما يتحتم على رئيس المؤتمر تحديد التوقيت المناسب للوصول إلى توافق في الرأي بين الأعضاء، وقد يتدخل لدفعهم نحو هذا الاتجاه، أو قد يعلن صعوبة تحقيق توافق الرأي، ويجب إعلان ذلك، مع اقتراحه بتأجيل بحث موضوع الخلاف، ولقد وضح خلال مؤتمرات قمة عدم الانحياز أهمية تحديد المؤثرات والإجراءات المتبعة في حالة عدم تحقيق توافق الرأي، خاصة بعد تزايد عدد الأعضاء الذين لهم توجهات يسارية منذ عام 1979م، لذلك وفضعت مبادئ محددة يجري إتباعها في حالات الخلاف بين الأعضاء تمثلت في الآتي:
1. يفعلن عن عدم تحقيق توافق الرأي، وتأجيل عرض موضوع الخلاف إذا حدثت مواجهات واختلافات في الآراء، الأمر الذي قد يهدد الحركة نفسها.
2. يلزم على رئيس المؤتمر أو سكرتارية المؤتمر أو الرئيس أو الوفود المهتمة بالمساعدة في إنهاء النزاع القائم في الاجتماع.
3. يجب إجراء مشاورات غير رسمية مسبقاً بين أعضاء الحركة حول كل الموضوعات والمشاكل التي ستفطرح.
4. يمكن الاعتماد على مجموعات عمل مؤقتة يتم تكوينها غير مقيدة العضوية، بهدف المساعدة في التوصل لتوافق في الرأي.
5. في حالة عرض موضوع له اعتبارات جغرافية أو سياسية يجب إجراء مشاورات مسبقة بينهم للوصول إلى توافق في الرأي قبل عرض الموضوع ذات الحساسية الخاصة للأعضاء أو بعضهم.
6. في حالة وجود معارضة قوية عند عرض أحد الموضوعات، فإن ذلك يعتبر مؤشراً على أهمية وخطورة الموضوع، ولذا يجب إتاحة الفرصة لعرض مختلف وجهات النظر حتى يمكن دراستها والوصول إلى توافق في الرأي.
7. في حالة استنفاذ شتى المراحل السابقة ولم يتحقق توافق في الرأي، تفحدد نقاط الخلاف على الفقرة أو الفقرات وأسباب الاعتراض والتحفظات الخاصة بها، على أن يفضاف ملحق خاص بكامل نصوص التحفظات والاعتراضات.
أما في حالة الطرح الفعلي لأي موضوع فإنه قد يكون هناك تفاوت في مواقف الدول بشأنه، ويتمثل في الآتي:
1. وجود اتفاق للرأي بين الدول الأعضاء ومن ثم يفقر البند المطروح حول القضية.
2. وجود معارضة شديدة لا يمكن خلالها الوصول إلى التوافق المطلوب، ولذلك لا يقر البند المطروح دون أية إشارة أو تحديد لذلك، كما يمكن الإشارة بأنه جرى بحث الموضوع ولم يتحقق توافق الآراء بخصوصه، ومن ثم يقرر الاجتماع تأجيل بحث الموضوع إلى اجتماع تالي، أو قد يفحال إلى مستوى أعلى، وقد تفشكل لجنة خاصة لبحث الموضوع وعرضه.
3. أما في حالة وجود توافق غير كامل، أي وجود معارضة من دولة ما أو أكثر من دولة، يفسمح للمعترض بالتعبير عن موقف بأكثر من أسلوب كالآتي:
أ. الإعراب شفوياً في قاعة الاجتماع عن تحفظها أو معارضتها.
ب. الإعراب عن التحفظ مكتوب في صورة بيان، والذي يعتبر من وثائق المؤتمر.
ج. الإعراب عن التحفظ مكتوباً على فقرة أو عدة فقرات، ويعتبر هذا الأسلوب هو السائد.
د. الإعراب عن التحفظ مكتوب بصيغة عامة على البيان النهائي ككل، خاصة بالنسبة لأية بنود لا تتفق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع المبادئ والأهداف السياسية للدولة العضو.
مما سبق نجد أن حركة عدم الانحياز عند اتخاذها لأسلوب توافق الآراء والحوار والتشاور الهادف، من العوامل التي أدت إلى الحفاظ على استمرار وحدتها وتعاونها وتضامنها، كما أدى ذلك إلى تزايد أعضاء الحركة، وتنوع اتجاهاتها، خاصة مع تطور مبدأ أو أسلوب الإعراب عن التحفظات، مما انعكس في النهاية على وضوح خصوصيتها وذاتيتها في الإطار العام للحركة السياسية الدولية.
رابعاً: تقويم وتحليل معايير سياسة حركة عدم الانحياز:
كان وعي وفهم الشعوب الأفريقية والآسيوية وبعض دول أمريكا اللاتينية بطبيعة وأبعاد النسق الدولي، قد ساعد على ظهور العالم الثالث على الساحة الدولية خلال الفترة من عام 1959م إلى عام 1960م، والذي أدى إلى ظهور فكرة الحياد الإيجابي، وتحدد منهاجها في المؤتمر الأفرو ـ آسيوي الأول بباندونج عام 1955م، وفي المؤتمر التحضيري الذي عقد في القاهرة في يونيه 1961م توطئة لعقد المؤتمر التأسيسي الأول، ثم تحدد مفهوم عدم الانحياز والذي تبلور خلاله ثلاثة مبادئ أساسية تشترط الانضمام الدولي إلى حركة عدم الانحياز، وخلال انعقاد مؤتمر بلجراد التأسيسي عام 1961م وفضعت أول مقاييس ومعايير للدول غير المنحازة وهي ما أطلق عليها الإعلان الخماسي، ومن تحليل مقاييس ومعايير الإعلان الخماسي يتضح الآتي:
1. إن سياسة التعايش السلمي هي سياسة الحياد السياسي وليس الحياد القانوني، لأنه من الناحية السياسية فالتعايش السلمي لا يقوم على أية التزامات أو نص قانوني، كما أنه لا يرفض التحالفات والمعاهدات العسكرية، إلا أن هدف سياسة التعايش السلمي هو عدم اللجوء لاستعمال القوة في العلاقات الدولية، أما هدف عدم الانحياز هو المحافظة على السلم الدولي والتعايش السلمي عن طريق رفض الدخول أو الانضمام إلى الأحلاف العسكرية، ورغم هذه الفروق الواضحة بينهما فإن اعتبارهما كمقياس للدول غير المنحازة بهذه الصورة لا تفسر بوضوح سياسة عدم الانحياز كما لا تحدد الفروق بينهما في كثير من الجوانب.
2. إن حركة عدم الانحياز بتأكيدها على مساندة وتأييد حركات التحرر الوطني تكون قد اختلفت في توجهاتها عن دول الحياد التقليدي فيما يخص حركات التحرر الوطني والقومي، حيث تعتبرها دول الحياد التقليدي نزاعات داخلية، حيث يبنى موقفها على التمييز بين الوضع القانوني الداخلي، والوضع القانوني الخارجي وفقاً للقانون الدولي العام، الذي يعتبر عائقاً أمام حركات التحرر الوطنية، خاصة وأن هذا القانون من وضع الدول والقوى الاستعمارية.
3. إن معيار الامتناع عن الدخول في الأحلاف بمحض الإرادة يعني أن القبول المفروض مسموح به، بينما القبول دون ممارسة ضغوط خارجية معينة يعتبر مرفوضاً، ومن ثم يوجد في العديد من دول عدم الانحياز قواعد عسكرية لحلف شمال الأطلسي، كذلك كان يوجد العديد من الخبراء والمستشارين السوفيت في العديد من هذه الدول.
4. إن معيار رفض التحالفات الثنائية حدد هذه التحالفات بألا تفجرى مع دول كبرى، ولكنه لم يمنع قيام تحالفات فيما بين دول عدم الانحياز، ولقد كان هناك العديد من المعاهدات بين الاتحاد السوفيتي وبعض دول عدم الانحياز، التي كانت تؤكد أن إبرام هذه المعاهدات لا يعني تخليها عن سياسة عدم الانحياز، كما كان ينص عليها في المعاهدات نفسها، كذلك يؤخذ على هذا المعيار عدم تحديده الدقيق لنوع وطبيعة المعاهدات التي أشار إليها هذا المقياس.
5. يعتبر مقياس عدم الدخول في أية تحالفات عسكرية في إطار النزاعات بين القوى الكبرى، هو التوجه الأساسي لسياسة عدم الانحياز، ومن ثم تتضح أهميته، ويلاحظ الالتزام الواضح لدول عدم الانحياز بهذا المقياس حيث أنه لم يكن هناك دولة من دول عدم الانحياز عضو في الأحلاف العسكرية التابعة للقوى الكبرى مثل حلف شمال الأطلسي أو حلف وارسو قبل حله.