ذكرى يوم العـلم 16 أفريل
الحمد لله الذي فضل العلم على الجهل ، فقال : " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ "وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له العليم بمن يصلح لحمل العلم والدين ، والقائل ثناؤه : " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ " وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، القائل : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما . أما بعد.
مقدمة
لقد اعتدنا على الاحتفاء كل عام بمناسبة يوم العلم 16 من شهر افريل ، وكلما أظلتنا هذه الذكرى تمثلت أمام أعيننا صورة العلامة عبد الحميد ابن باديس رحمه الله ، تلك الصورة التي من الصعب أن تمحى من ذاكرتنا .
وفي البداية أود أن أوضح مسألة هامة تتعلق بجعل 16 من شهر افريل مناسبة للعلم ، ومعلوم أن هذا التاريخ يصادف وفاة العلامة ابن باديس رحمه الله ! وهنا يتساءل البعض :
-لِمَ اختير يوم وفاته يوما للعلــــم ؟
-وهل تحتفل الأمة بوفاة علمائها ؟
-أم أن العلم انطلق في الجزائر بوفاة ابن باديس ؟
-ولماذا لا يكون يوم مولده -مثلا - أو يوم تأسيسه لجمعية العلماء هو يوم العلم ؟
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة ومتنوعة ، والجواب المقنع – فيما أرى – هو كما يلي :
-أن ابن باديس قد تصدى بقوة للمخططات الفرنسية الهادفة إلى طمس هوية الأمة !
-وأنه قد دخل في سباق مع فرنسا فسبقها ، إذِ انقلبت على أعقابها خائبة لم تنلْ خيرا!
-ولما توفي ابن باديس أقامت فرنسا الأفراحَ ابتهاجا بموته ، وقال قائلها آن لفرنسا أن تطمئن على بقائها في الجزائر فقد مات ألد أعدائها !
-وأجاب قائلنا – وهو محمد العيد – مخاطبا ابن باديس بعد موته :
نم هادئا فالشعـب بعد راشــدُ يختط نهجك في الهدى ويسيرُ
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى فالـــــوارثون لما تركت كثيرُ ولا جرم أن ابن باديس إنما أحيى الجزائر وقهر فرنسا بالعلم ، وهذا العلم لم يمت بموت ابن باديس ، بل ورثه عنه كثيرون ؛ وعلى هذا الأساس اختير يوم وفاة ابن باديس يوما للعلم ، وكأننا بذلك الاختيار نقول لفرنسا : أنه لا داعيَ لئن تفرحي بموت ابن باديس ؛ لأن العلم الذي قهرك به لم يمت بموته ، بل ورثته الجزائر برمتها ، وعلى أسسه قامت الثورة التحريرية المباركة ، التي اقتلَعْت جُـــذورَ الخَـــــــــائنينَ الذين كان منهم كل العطب ، وَأَذاِقتْ نفُوسَ الظَّــــالـمِــينَ السـمًّ يُـمْـــزَج بالـرَّهَـبْ
.
فضل العلم ومكانة العلماء
أيها الإخوة الكرام: فاتخاذ يومِ وفاةِ ابنِ باديس يوما للعلم لا غرابة فيه إذْ هو يعبر عن انتقال التركة العلمية التي خلفها ابن باديس إلى الأجيال من بعده ، تلك التركة التي لولا ها لما استطاع أمتنا أن تحافظ على هويتها الوطنية ، ولما استطاعت أن تحقق نصرا أو تطرد عدوا ، فبالعلم ترتفع الأمم إلى أعالي الدرجات ، وبالجهل تهبط إلى أسفل الدركات ، وفي القرآن المجيد : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " و لا شك أن من يعيش في ظلمات الجهل لا يمكنه أن يدرك عظمة الله ، و لا يمكنه أن يعرف طريق الحق أو يهتدي إليه ؛ فأنى له أن يجلب لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضرا ؟! ولهذا أعز الله العلماء وأعلى منزلتهم ، وقرنهم بنفسه وملائكته في الشهادة له بالوحدانية ، فقال جل شأنه : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم "
وإعزاز الله للعلماء يقتضي منا أن نعظمهم و نوقرهم ونقدرهم حق قدرهم ، فالأمة التي لا توقر علماءها و لا تعرف لهم قدرا و لا فضلا ؛ أقل ما يقال فيها أنها أمة لئيمة ! ثم إن مصيرها إلى الخراب والاندثار ، لأن الحياة بدون العلماء ظلمات بعضها فوق بعض :
فــــ )العلم يبني بيوتاً لا عماد لها - والجهل يهدم بيوت العز والكرم (
ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول :
ما الفضلُ إلا لأهل العلم إنهـــمُ على الهدى لمنِ استهدى أدلاّءُ
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه والجاهـلون لأهل العلم أعـــداءُ
ففز بعلم تعـش حيـاً به أبــــدا الناس موتى وأهل العلم أحياءُ
و من هؤلاء العلماء الذين ينبغي أن نعرف لهم قدرهم : صاحب الذكرى عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس الصنهاجي ، االمولود بمدينة قسنطينة سنة (1889م) ، الذي كرس حياته لتعليم الأمة ، وإصلاح أوضاعها الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية...لقد أحيى - رحمه الله - أمة ، وكان وحده أمة ، واستطاع أن يؤثر في نفوس الجزائريين ويستميل قلوبهم إليه ، لا بعلمه الغزير فحسب ! بل بهمته وشخصيته المتميزة أيضا، وبأخلاقه الرفيعة التي من جملتها :
- الحرص على نفع أمته.
- والتواضع لمن يتتلمذون على يديه ويتعلمون منه.
وما أحوجنا نحن اليوم إلى هذه الأخلاق لأداء الأمان المنوطة بأعناقنا ، فالتعليم النافع السليم الذي يوتي ثماره هو : الذي يصدر من معلم متواضع لمن يعلمهم مع حرصه على ذلك ؛ لأن المعلم في أي مجال كان هو بمنزلة المنقذ أو الطبيب.
فالمنقذ لا يستطيع إنقاذ الغريق إلا إذا نزل إليه.
وكذلك الطبيب لا يستطيع أن يداوي مريضه إلا إذا انحنى إليه وفحصه ولو كان متعفنا ، وهكذا كان ابن باديس رحمة الله عليه ، وهكذا ينبغي أن نكون نحن إن أردنا تبرئة ذمتنا أمام الله وأمام التاريخ.
ابن باديس و جهوده في التربية والإصلاح
أيها الإخوة الكرام: لقد كان ابن باديس فعلا شمعة مضيئة في ظلام دامس قد تركه الاستدمار الفرنسي ، فقبل مجيئه كانت الجزائر تتخبط في أوحال الجهل و البدع والخرفات ، التى غرسها الاحتلال في أبناء وطننا ، إلى أن جاء شيخنا بعد تخرجه من جامع الزيتونة عام 1912م وبعد أدائه لفريضة الحج سنة ، فانطلق في إنقاذ أمته ، وكله حماسة وقوة و نشاط ، ورأى أن أول خطوة ينبغي القيام بها هى جانب الإصلاح وغرس العقيدة الصحيحة في أبناء شعبه ، فطفق يعلم الكبار والصغار والرجال والنساء .. .ليلا ونهارا سرا وجهارا سفرا وإقامة ...غربا وشرقا شمالا وجنوبا..وقد بلغت دروسه في اليوم والليلة خمسة وعشرين درسا .
وقال له أحد رجال الاستعمار ذات يوم: " إما أن تقلع عن هذه الأفكار و إلا أغلقنا المسجد الذي تنفذ فيه سمومكم ضدنا " فأجابه الشيخ قائلا : " لن تستطيع ذلك ! فأنا إن كنت في عرس علمت المحتفلين ، وإن كنت في مأتم وعظت المعزين ، أو في قطار علمت المسافرين... فأنا معلم مرشد في جميع الميادين وخير لكم أن لا تتعرضوا لهذه الأمة في دينها ولغتها "
فكان يتنقل بين المدن والقرى لتعليم الجزائريين وتقوية همتهم وإثارة نار الحماسة في قلوبهم .
ولم يكتفي بهذا فحسب ، بل كتب في العديد من الصحف والجرائد عربية كانت أو أجنبية ؛ للتعبير عن مطالب الشعب الجزائر ونظرته للاحتلال الفرنسي ، وارتقى بمشواره الدعوي إلى تأسيس أعظم جمعية أنداك ، وهي : جمعية العلماء المسلمين الجزائرين ، في 1931 م وعين رئيسا لها لجدارته ونشاطه ، ووضع لها أهدافا سامية ، منها :
غرس المبادئ والمقومات التى حاول المحتل الفرنسي أن يمحوها من أذهان أبنائنا ، وهي :العروبة والإسلام
فأنشد في ذالك أبياته الرائعة الخالدة :
شعب الجزائــــــــــر مسلم والى العروبة ينتسـب
مــن قال حاد عن اصلـــه أو قال مات فقد كذب
وظل رحمه الله يناضل من أجل دينه ووطنه وشعبه إلى أن توفاه الله في 1940 م . فانتقل إلى بارئه عن عمر يناهز الخمسين عاما ، ولقد تضافرت الروايات على أنه مات مسموما .
فرحمة الله عليك يا شيخنا عشت عالما ، و مت شهيدا ، فنحسبك عند الله مع الذين قال فيهم جل جلاله :" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"
الخاتمة
أيها الإخوة الكرام: بعد هذه الوقفة الموجزة مع ذكري يوم العلم نستخلص النتائج الآتية:
أولا : الأمة الجزائرية قد أريد لها أن تبتلعها الصليبية الماكرة إلى الأبد ، وقد وضع المحتل لذلك مخططات رهيبة ، واتخذ وسائل عدة لتحقيقها .
ثانيا : أن عبد الحميد بن باديس قد سابق فرنسا فسبقها ، فأحيى هذه الأمة الجزائرية وسلك مسالك شتى للمحافظة على أصالتها و هويتها ، فهو معدود بلا منازع ممن قال فيهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ."
ثالثا : أن الثورة التحريرية ما هي إلا ثمرة لجهود ابن باديس الإصلاحية ، إذ هيأ لها التربة الصالحة والمناخ الملائم ؛ بما غرس من عقيدة صحيحة في القلوب ، وبما أو قد من حماسة في النفوس ، وبما أرسى من وحدة في الصفوف ، وقد لمح لإشعال تلك الثورة بوصيته الخالدة التي عهد بها إلى الجزائريين من بعده :
مـــَنْ كَــــان يَبْغي وَدَّنَـــا فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحبْ
أوْ كَــــــانَ يَـــــبْغـي ذُلَّــنـَا فَلَهُ الـمـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ
هَــــذَا نِــــظـــامُ حَـيَـاتِـنَــا بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ
حتَّى يَعـــــودَ لـقَــــومـــنَـا من مَجِــدِهم مَــا قَدْ ذَهَبْ
هَـــذا لكــــُمْ عَـهْـــــدِي بِــهِ حَتَّى أوَسَّــدَ في الـتُّـرَبْ
فَــإذَا هَلَكْــتُ فَصـــَيْـحـتـي تَحيـَا الجَـزائـرُ وَ الْـعـرَبْ
رابعا: أن كل هذه الإنجازات العظيمة الت حققها العلامة ابن باديس عائدة في مجملها الى العوامل الآتية :
العامل الأول : الصدق والإخلاص قي الأقوال والأفعال .
العامل الثاني :العقيدة الإسلامية الصحيحة الخالية من الشرك و البدع والخرافات.
العامل الثالث : العلم بالقرآن والسنة والتمسك بهما ، والعلم بما يتصل بهما من علوم ، وفي طليعتها علم اللغة العربية التي لا يفهم الكتاب والسنة إلا بها .
العامل الرابع: الوحدة الوطنية .
فحافظوا أيها المؤمنون على هذه العوامل الأربعة ، فهي سر قوتكم ، وعماد نهضتكم ، وأساس وجودكم ، وسبيل نصرتكم.
جعلني الله وإياكم من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
للأمانة الموضوع منقول من موقع الشيخ العيد بن زطة مع بعض التنسيق.