مهنة الطب من أقدم المهن عبر العصور وأعرقها، واعتبرت من معايير تقدم الحضارات والممالك، فينسب التقدم والرقي لمن عُرف أطباء زمانه وذاع صيتهم، كما ينسب لممارسيها الحكمة وعلو الشأن، من هؤلاء أول طبيب جزائري في القرن التاسع عشر، أجحفه التاريخ وكتب عنه الشيخ عبد الرحمان الجيلالي في كتابه "تاريخ الجزائر العام"، ولد بن العربي "بلعرباي" بشرشال في 1850، ويعود أصله إلى عائلة تركية حسب أبحاث أحفاده، من عائلة محافظة عريقة متأصلة متمسكة بالدين والوطنية، كان لها الأثر الكبير على شخصه، وتتميز المنطقة التي نشأ فيها بالتجذر الرافض للوجود الاستعماري، درس بها إلى أن بلغ العاشرة من عمره، تربى تربية دينية، حفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وقد تمكن والده من تسجيل أبنائه في المدرسة الفرنسية، وسهر على إتمام دراستهم، فألتحق بمدرسة نابليون الثالث، وأكمل دراسته الثانوية في العاصمة، عُرف بذكائه وفطنته وتميز بين أقرانه، فاختار دراسة الطب مشوارا له، والتحق بكلية الطب بجامعة الجزائر، ثم انتقل لإتمام دراسته في باريس، محافظا على قيمه الوطنية بإمتياز، عرف بتواضعه وتمسكه بعروبته وإسلامه وتميز بلباسه التقليدي، وقد قال فيه الشيخ عبد الرحمان الجيلالي "كثيرا ما رأينا علماء الغرب يعجبون حين يرون شخصه، وهو في هيئته وزيه الجزائري العربي التقليدي المتواضع، بقلنسوة وعمامة وبرنس وعباءة، وتارة يرتدي الكبُّوت وينتعل الخف أو البلغة"، وعرف بباطسته ومحبة الناس له لكريم أخلاقه وطيبة أفعاله، كما كان يجيد عدة لغات أجنبية ولاتينية، وإلى جانب تفوقه في الدراسة أقام علاقات اجتماعية مع الكثير من الشخصيات والمثقفين والذي كان في مقدمتهم الكاتب المشهور "فكتور هيڤو"، الذي يقول بدوره صراحة أن "الوضع الاجتماعي من مرافقة محمد متأبطا ذراعه في شوارع باريس، علني أتشرف بمرافقة هذا الشاب المسلم..، وأبدى بعض الصحافيين تعجبهم من ذلك، رد عليهم: أنني تعلمت منه ما لم تعلمني إياه المدرسة الفرنسية"، وكذلك فإن محمد كان معجب كثيرا بهيڤو، وتأثر به كثيرا، قدم أطروحته هناك بعنوان: "أقصى أمد للحمل والأمراض المنتشرة في بلاد البحر الأبيض المتوسط" في 16 جويلية 1884 لنيل شهادته العليا، وكللت بالنجاح بتقدير "ممتاز"، عقب رئيس لجنة المناقشة بقوله "ها نحن أرجعنا لكم ما استلفناه من علوم عن أجدادك.."، وحضر المناقشة "هيجو" وأثنى على ما جاء فيها وهنأه بالنجاح الذي استحقه، وترجمها بعد ذلك الأستاذ علي بوشوشة في 1891 بعنوان "الطب العربي بعمالة الجزائر" طبعت ونشرت في نفس السنة بتونس، ونشرتها بعد ذلك مجلة الجراحة والطب الصادرة بباريس، كما عُرض عليه من الهيئة المختصة الانضمام إلى المجلس الطبي الفرنسي، لكنه فضل العودة إلى وطنه، بعد رجوعه مارس مباشرة مهنته في المدن الساحلية منها بوركيكة، احمر العين، العفرون، بالبليدة، ومنها دخل إلى العاصمة، حيث استقبل في احترام الكبار وبحفاوة كبيرة، زاول مهنته في عيادته الخاصة بالزوج عيون، حول جزء من منزله إلى حديقة وغرس فيها الأعشاب والنباتات الطبية التي استعملها في استخراج مواد صيدلانية، استعملها في ممارساته الطبية في كل ربوع الجزائر، وتفانى في ذلك، فقد عُرف بمساعدته للناس وعلاجهم بالمجان وقيامه بعمليات جراحية للجهاز العصبي، وعرف أيضا بكثرة سفره وتنقله، فكان يقدم خدمات جليلة للمجتمع الجزائري، هناك خاض غمار السياسة ولم يتخل عن مهنة الطب، حيث انتخب سنة 1888 عضوا في المجلس البلدي بالإجماع، وقاد الاحتجاجات التي اندلعت ضد مخططات السلطات الفرنسية الرامية إلى هدم المسجد الكبير والجديد لبناء فندقين ونجح في إبطال القرار، وكان من بين قادة الاحتجاج الرافضين استبدال المحاكم الشرعية الجزائرية التي يرأسها قضاة غير مسلمين بمحاكم الصلح وفق التشريع الفرنسي سنة 1891، حينها لم يتوقف عن تنظيم سلسلة الاحتجاجات وتعبئة المجتمع، ركز عمله على الكتاب والمثقفين والصحافيين حتى اهتز البرلمان الفرنسي، وفشل المشروع، حيث قدم برفقة محمد بن رحال -أصغر متحصل على شهادة البكالوريا بفرنسا عام 1874 وعمره 16 سنة- العرض، توج بوثيقة رسمية من 18 نقطة، وسميت آنذاك بإسم "عريضة الشيخين"، اشتملت على أفكار عالية ونيرة صاغها بحنكته السياسية، نقلها إلى باريس، وعين البرلمان مجموعة من النواب لمناقشتها، بعد تشكيل لجنة فرنسية للتحقيق بقيادة السياسي الفرنسي "جون فيري"، من نقاطها "الشريعة الإسلامية ومحاكمها، التعليم بجميع مراحله، مؤسسات الوقف التملك وأنواعه، المصالح العامة، المسؤولية الجماعية.."، انتهت بإلغاء القرار، وكان لا يتخلف عن المشاركة في الندوات والدروس والملتقيات، يناقش بكل عمق، وبمواقف شجاعة أحرجت السلطات الاستعمارية، كما كان يقود حركة ثقافية سخر نفسه وقلمه ومنابره للدفاع عن الإنسان وقضاياه، وكان يرى أن الثورة فعلا مستمرة بعدما وقع الركود في الفعل، فالجزائر كانت قادرة على أن تكون قوية ومتطورة ومنتجة ورائدة بأبنائها لأنها كانت تمول أوروبا بمنتجاتها، فقد اشتهر بلباسه الإسلامي الأصيل الذي كان يرتديه أينما حل، استطاع بفضل ثقافته الواسعة وتحكمه في اللغات الأجنبية، وعلمه المتين، وتميزه بالإيمان القوي والتواضع الكبير والأخلاق الحميدة والتحلي بالصبر والحزم وحب الناس والصراحة والشجاعة، علاماته المميزة، وكان أهل شرشال يصفونه بـ "الشيخ" لأنه موضع ثقتهم واحترامهم، مدحه الشيخ محمد سعيد الزاهري في مجلة المقتطف المصرية، والشيخ محمد بوقندورة مفتي الحنفية بالعاصمة في خطبته، ورغم عمله الطبي واجتهاداته اشتهر بالتواضع والصدق والإخلاص، مما جعله محل ثقة إخوانه الجزائريين، وظل مخلصا للعلم ولعمله ووطنه إلى أن التحق بالرفيق الأعلى يوم 20 أكتوبر 1939، عن عمر يناهز 89 سنة، ودفن في مقبرة القطار، في ميزان حسناته، رحمه الله.
بقلم الأستاذ #محمد_الطيب جريدة البصائر الجزائرية
بقلم الأستاذ #محمد_الطيب جريدة البصائر الجزائرية
0 التعليقات:
إرسال تعليق