تعتبر العملة والنظام
المالي والنقدي الدعائم الأساسية لأي دولة ذات سيادة ومعترف بها دوليا, ومن ثم فان
أي سلطة تسعى لبسط نفوذها المالي والضريبي وفرض عملتها على كامل أراضي الدولة وكان
لهذا الأمر أهمية اقتصادية مهمة ورئيسية,وقد يتجاوز الأمر ذلك بكثير حينما تصبح
العملة رمز من رموز الدولة ,فمن الأمور
المعروفة أن أي سلطة في التاريخ الإسلامي سعت للتأكيد على شرعيتها عبر أمرين مهمين هما الدعاء للأمير والخليفة على
أعواد المنابر إضافة إلى ضرب السكة
باسمه .
إن
كل النظم المالية والنقدية تعتمد اعتمادا جوهريا على العملة باعتبارها حجر الزاوية
في كل التعاملات وكلما زادت جودتها وجماليتها عبر ذلك عن الرقي والازدهار
الاقتصادي والسياسي للدولة, والدارس للتاريخ الاقتصادي لا بد أن يستعين بعلم
المسكوكات numismatique للتعرف على النظم المالية والنقدية والاقتصادية ومن ثم إبراز أهم التغيرات
الاقتصادية التي يمكن أن تأثر على القدرة الشرائية من جهة و كذلك تسمح لنا دراسة العملة والسكة من
جهة أخرى معرفة أهم التطورات ومجمل التغيرات التي مرت بها كما يعكس جودة العملة قوة الدولة والعكس
بالعكس.
ويبدو إن دولة الأمير
عبد القادر لم تشذ عن ذلك فقد حاول الأمير إيجاد عملة خاصة بدولته الحديثة التأسيس
وهو الذي كان يعلم جليا الأهمية الكبيرة والخطيرة لمثل هذا الإجراء الذي يعبر عن
شرعية دولته و كان القصد من هذا الإجراء
فرض نظام مالي خاص به في ظل الفوضى النقدية والمالية التي كانت تعيشها
الجزائر قبل الغزو الفرنسي من تداخل العملات المحلية والأجنبية وعمليات التزوير
إضافة إلى رداءة العملة العثمانية خاصة في أواخر العهد العثماني1
.
وقبل أن نستعرض الأسس
المالية والنقدية لدولة الأمير عبد القادر الجزائري وجب علينا بادئ ذي بدء التطرق
لموضوع العملة في أواخر العهد العثماني , وهي من الأمور التي سوف ترثها دولة
الأمير وتحاول التفاعل معها في حربها الاقتصادية والعسكرية ضد الاحتلال الفرنسي
-العملة في أواخر العهد العثماني I
لقد تطرق الأستاذ الباحث ناصر الدين سعيدوني
إلى مسألة النظام المالي بإطناب في كتابه القيم الموسوم ب " النظام المالي للجزائر في أواخر العهد
العثماني" هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ الجزائر والتي مهدت بمظاهرها السلبية
منها والاقتصادية إلى الاحتلال المبكر
للجزائر منذ جويلية 1830 ,فحكام
ايالة الجزائر ضربوا عملتهم الخاصة بهم بعدما أسسوا لها دارا للسكة قرب قصر الداي
,والتي انتقلت بعد ذلك إلى القصبة ابتداء من
1817. ولعل أهم
ما ميز العملة في ايالة الجزائر خلوها من صور الحكام والشعارات والرموز إضافة إلى
شكلها المستدير ,كل هذه الاستثناءات ميزت العملة العثمانية في الجزائر على النقيض
من العملات المغاربية التي امتازت بشكلها
المربع وهذا التقليد ظل متعاملا به منذ العهد الموحدي ,في الوقت الذي كانت فيه العملة الجزائرية تقلد فيه العملات التركية2,
وأما قيمتها فقد تعددت من عملات ذهبية ,فضية ,برونزية ونحاسية ولكن شح المعادن في الجزائر لأسباب عدة منها
عدم وجود مناجم كبرى كذلك لانقطاع ذهب السودان منذ القرن السابع عشر ,بعد تزايد نشاطات البرتغال في غرب
إفريقيا ,كلها عوامل اضطرت
حكام الجزائر الأتراك
إلى دعم دار
السكة مباشرة من المعادن
الثمينة المكدسة في خزينة الدولة , وان كان ذلك حسب رأينا لم يكن بالقدر
الكافي ,فالسؤال الذي يبقى مطروحا إلى يومنا هذا لماذا لم يستغل حكام الجزائر
الأتراك الوفرة المالية التي كانت تزخر بها خزينة الدولة من عائدات أعمال القرصنة
في بناء الاقتصاد الجزائري على أسس صحيحة وسليمة؟
أو على الأقل تقويم النظام النقدي والعملات المحلية في وقت عزت فيه العملات
حتى اضطر الناس الرجوع إلى نظام المقايضة البدائي ,بفعل النقص الكبير للعملة إلى
جانب فقدان الثقة في العملات النقدية بسب انتشار عمليات التزوير .ونحن لا نبالغ في
التضخيم من حجم خزينة الداي فرغم تضائل عائدات أعمال القرصنة في أواخر العهد
العثماني إلا أن الخزينة كانت مكدسة
بأموال وعائدات خيالية , كما يؤكد على
ذلك بيير بيان Pierre Péan في كتابه القيم » « main basse sur Alger3 ,هذه الكنوز التي ثم تحويل أكثرها
من طرف كبار الضباط مثل ديبرمون Du Bourmont""والعائلات الثرية إلى وجهات خاصة
في واحدة من أعظم عمليات النهب واللصوصية في التاريخ ,هذه الأموال التي سمحت ببعث الصناعة الحديدية والمعدنية الفرنسية 4.
وهذه نتيجة منتظرة لعقلية”
الاكتناز “thésaurisationالتي كانت تسيطر على عقول ونفوس حكام الجزائر, في وقت اعتمدوا فيه على
الحلول الترقيعية كشراء المعادن الثمينة من العامة بغية دعم العملة ,إلا أن ذلك ظل
غير كافي خاصة مع ندرة العملة ورواج عمليات التزوير, وهذا ما تسبب في فقدان الثقة واللجوء إلى
المقايضة, كل ذلك كان بسبب ما ألت إليه
الجزائر من تدهور للأوضاع الاقتصادية
والمعيشية ,في وقت تطورت فيه النظم المالية والنقدية الأوربية ,بعدما تأسست
المؤسسات المالية والبنوك وتطورت
المعاملات والتحويلات النقدية
باستعمال السندات والصكوك مع سهولة
انتقال الرساميل5.
هذه التطورات النقدية
والمالية التي كانت تمر بها أوربا أراد الأتراك في الجزائر استعمالها لصالحهم
,وذلك بفتحهم الباب على مصراعيه أمام تدفق العملات الأوربية والأجنبية في السوق
الجزائرية , وهذا ما ساعد على توفير النقود الضرورية في التعاملات التجارية ,ويبدو
إن هذه العملات تم الحصول عليها بشتى الطرق سواء بفضل نشاطات الشركات الأجنبية ,الإتاوات والهدايا
وإجراءات عتق الأسرى المسيحيين, إضافة للعلاقات المميزة العثمانية الاسبانية
,الشيء الذي سمح بهيمنة العملات الاسبانية بكثرة على السوق الجزائرية .ولم يكن ذلك
استثناء للقاعدة فقد استطاعت العملات الاسبانية من غزو السوق المالية العالمية في
ذلك الوقت من أمريكا إلى الصين بفضل ذهب
مستعمرات العالم الجديد6.
وهذا ما يفسر هيمنة العملات الاسبانية على السوق الجزائرية
,رغم أنها لم تكن العملات الوحيدة ,فقد نافستها في السوق الداخلية العملات
التونسية و المغربية وعملات كل الأقطار
العثمانية المشرقية وعملات الجمهوريات الايطالية والنمسا والبرتغال وفرنسا . وكانت
أشهر هذه العملات على الإطلاق المتداولة في الجزائر :
, وهو
الدينار أو ما يعادله ذهبا. EL DABLANالدبلون -1
2-الدوكة
DUCAT , وكانت تعادل دينار ذهبا .
3-
الكورونة COURROUNNE , التي
اشتهرت بكثرة وكانت من الفضة الخالصة
4-
الدورو الاسباني DOURO .
5-الريال REAL
المنتشر بكثرة.7
تم
تأتي بعد ذلك من حيث الأهمية العملات التونسية نظرا للعلاقات التجارية الكبيرة عبر
الحدود ما بين الجزائر وتونس وأهم هذه النقود.
1- الدرهم
الناصري
2- الريال
الفضي.
إضافة إلى رواج عملة »الزياني
الذهبي « وهو من بقايا العملة الزيانية كما تم تداول النقود المغربية في الغرب
الجزائري وذلك نظرا للنشاط
التجاري المتزايد عبر محور تلمسان -فاس
.ومن بين أهم هذه العملات المغربية البندقي العشراوي ,نصف البندقي العشراوي المثقال الموزونة، الفلس ، الريال ، الدرهم ، إضافة
إلى العملات التركية العثمانية
3-المحبوب ,زر المحبوب الذهبي ,نصف المحبوب8.
ورغم قوة العملات الأجنبية خاصة الاسبانية منها
إلا أنها ظلت ثانوية بسبب فقدان الثقة بها من طرف
العامة مقارنة مع العملات المحلية
التي كانت تمثل شرعية الدولة ورمز من
رموزها. وأهم العملات المحلية في تلك الفترة هي :
العملات
الذهبية
-السكة
أو السلطاني, نصف السلطاني, ربع السلطاني.
العملات
الفضية
-ريال
بوجو ,زوج بوجو,دورو الجزائر, العائمة,ربع بوجو,تمن بوجو,موزونة,زوج موزونة,الأسبر
الفضي.
العملات
النحاسية
-الخروبة
ريال,درهم صغير ,زوج دراهم صغار,الأسبر النحاسي ,الفلس9.
إلا أن أهم
ما ميز العملة الجزائرية في تلك الفترة من أواخر العهد العثماني, عدم استقرارها
وصعوبة تحديد قيمتها بسبب تذبذب الأحوال الاقتصادية والسياسية في البلاد ,ساعد على
ذلك ندرة المعادن الثمينة كما ذكرنا ,مما تسبب في تدني القدرة الشرائية رغم تدني
أسعار الغلال, زاد من ذلك رواج أعمال
تزوير العملة خاصة في بلاد القبائل , رغم عقوبة الإعدام حرقا التي كانت تطال
المزورين ,والعقوبات الجماعية ضد القبيلة التي يثبت تورط أحد أبنائها في عمليات
التزوير بعدما يكون محل بحث ولم تستطع الدولة الوصول إليه10.
كل هذه
العوامل مجموعة تسببت في ركود الاقتصاد و
عودة المعاملات بالمقايضة البائدة ,في وقت تطورت فيه المعاملات الاقتصادية في
أوربا كما ذكرنا أنفا . هذه الظروف كلها أسهمت في تدهور الأوضاع الاقتصادية
والسياسية في الجزائر,وزاد بعد الهوة بين الحكام الأتراك المستبدين, والغير مبالين
بشؤون العامة وبين بقية الشعب الذي فقد الثقة في هؤلاء الحكام, الذين اختزلوا
واجباتهم إزاء العامة في جمع الضرائب وبطريقة سادها الكثير من التعسف
والظلم, فكل هذه الأجواء الموبوءة, ساعدت
قوات الاحتلال الفرنسي من النزول في الجزائر ,واحتلال مدينة الجزائر من دون
عناء كبير .
-IIالنظام المالي والنقدي في دولة
الأمير عبد القادر
بعد استعراضنا لمجمل
الأوضاع النقدية و المالية في أواخر العهد العثماني ,وما كانت عليه الأمور من تداخل نقدي غير عادي بين العملات الداخلية
والأجنبية, وانعكاسات هذه الفوضى النقدية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الجزائر,
بسبب سلبية حكام الجزائر إزاء وضع إصلاحات نقدية ,فلا شك أن هذه العقلية اللامسؤولة لحكام الجزائر الأتراك سبب مباشر في الاحتلال المبكر للجزائر , هذا الاحتلال
الغير عادي في كل شيء ,في توقيته حتى قبل بروز الفكر والنزعة
الامبريالية في أوربا وتشكل كبرى الإمبراطوريات الاستعمارية, إضافة إلى
طابعه الاستعماري الاستيطاني الذي
قام باجتثات البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وحتى
العمرانية, لمسخ الجزائر وإفراغها من
محتواها العربي الإسلامي باستعمال مسوح التغريب و الفرنسة .
وأمام الفراغ السياسي
والأمني الذي تركه الأتراك باستسلامهم المهين للجيش الفرنسي, كان لزاما أن يكون
هناك ردة فعل من الجزائريين للوقوف ضد تهديدات المحتل ,و على أثر ذلك اجتمعت قبائل
الغرب الوهراني وبايعت الأمير عبد
القادر الجزائري الحسيني , ليضع بذلك هذا
الأمير الشاب الأسس الأولى للدولة الجزائرية الحديثة, وبذكائه الحاد ونظرته
الثاقبة حاول منذ البداية أن يبسط نفوذه على كافة مناطق الجزائر لكسب المزيد من
الشرعية ,وتوحيد الصفوف وتكثيف الجهود ,للذود عن حمى الوطن وقهر المحتل . وكان له
ما أراد بالتفاف الجزائريين حوله ,خاصة بعد
ما رأوه من نبل صفاته وصدق نياته, في دفع المعتدين عن” دار الإسلام « .
والملفت للانتباه أنه لأول مرة حسب علمنا في
تاريخ المغرب الإسلامي يتم مبايعة الحاكم وفق إجماع شبه كلي وطبقا
لمبادئ الشورى المطابقة لقواعد الدين الإسلامي ,وبدون إراقة دماء ,والأغرب من ذلك كله زهد محي الدين في الحكم وتزكيته لابنه الشاب لتولي
هذا المنصب الخطير في تلك الظروف العصيبة ,
بعد إلحاح الأعيان ومشايخ العلم والدين ورجالات التصوف11 ,بعدما أدرك الأمير
حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه,
بما أنها فرض من الفروض الكفائية
الواجب القيام بها على الفور .
رغم إدراكه جيدا صعوبة الموقف ,بعدما لاحظ في
أول لقاء له مع العدو في موقعة "خنق النطاح " الأولى والثانية التفاوت الكبير بين قواته وجيش
المحتل المتفوق عسكريا
وتقنيا ولوجيستيا,في وقت كان يعتمد الأمير على قبائل مستضعفة منهكة محدودة الموارد ضعيفة التسليح .
أ
-الضرائب في دولة الأمير عبد القادر
أهتم
الأمير كثيرا بتأسيس اقتصاد دولته
الفتية وفق أسس سليمة صحيحة , عبر إعادة تفعيل الحياة الاقتصادية ,وإعادة الثقة للتعاملات الاقتصادية والتجارية
,وتفعيل المقاومة والمقاطعة الاقتصادية للمحتل, وذلك بمراقبة تنقل السلع والتجار,
في وقت كانت تعاني فيه الحامية الفرنسية في منطقة وهران صعوبات كبيرة في التمويل,
من جراء الحصار الاقتصادي المضروب عليها, كإستراتيجية تعتمد على المقاطعة الاقتصادية للتشديد على
العدووذلك بمنع كل القبائل من التعامل بالبيع والشراء تحت أي ظرف كان .
كما سعى الأمير إلى زيادة مداخيل وموارد الخزينة للقيام بأعباء
الدولة وتمويل المجهود الحربي, وبتالي سعى إلى تأسيس اقتصاد حرب حقيقي ,ولم يتأتى له ذلك
إلا بفرض ضرائب على الرعية مع مراعاة الأحكام الشرعية, فالأميرلم يفته
إلغاء كل المكوس والدنوش والضرائب العثمانية
الغير شرعية12, ويبدو إن الأمير كان جد قلق من مسألة الضرائب
وهو الورع المتأله, حيث نجده يستفتي فقهاء فاس مخافة تعارض نظامه الضرائبي مع
الأحكام الشرعية13, وهكذا قام
الأمير بإلغاء الضرائب الغير شرعية مثل
"اللزمة" "الغرامة" و"العوائد" ,وعوضها بضريبتي
"العشور" و"الزكاة"
,وهذا ما أكسبه حب علماء الدين ومشايخ الصوفية وزعماء القبائل
,كما قام بإلغاء كل المطالب
المخزنية السابقة, وكل أعمال السخرة
,والمصادرة التعسفية والتغريم بغير وجه حق ,وكل إجراءات العقاب الجماعي ,كما ألغى كل الامتيازات
السابقة التي كان يتمتع بها "الكراغلة " 14
, بل فرض عليهم ما يتوجب دفعه بالإضافة إلى إرغامهم على المساهمة في المجهود
الحربي بمشاركتهم في المعونة وهي ضريبة استثنائية خاصة بالمجهود الحربي, يمكن
إلزام الحاكم الرعية بدفعها في زمن الحرب وقد استحدثت سنة 1839 ,و تزايدت
مع تطور الحرب حتى أصبحت تشكل عبأ على القبائل , وبالتالي زاد تهربهم من دفعها
وزاد مع تعاظمها تلكئهم في نصرة الأمير عبد القادر , رغم أن الأمير أوصى جامعي الضرائب و الزكاة
عدم ظلم وغبن الناس وعين قاضيا ينظر في شكوى الناس, إذا كان هناك تجاوز أو تعسف من
طرف العمال,كذلك لم يكن يتسامح مع ظواهر الرشوة والفساد والمحاباة , ولقد اضطر إلى
معاقبة أحد عماله لتقاضيه الرشوة كما أن عمال الأمير كانوا يتساهلون مع الرعية في دفع الضريبة نقدا أو عينا, وان
كانت المعونة تدفع في غالب الأحيان نقدا15.
رغم ذلك حافظ الأمير على بعض الرسوم والضرائب التي كان العمل بها في العهد
العثماني, مثل رسوم الأسواق وحقوق الجمرك
,وان كنا لا نعلم موقف فقهاء الدين من هذه الضرائب ,ولم نجد ما يثبت سؤال الأمير عنها كما كان الشأن بالنسبة للمعونة.
إلا أن موارد المالية لم تقتصر على المعونة
والعشور والزكاة, بل تعززت كذلك بالغرامات والخطية, التي كان يفرضها
على القبائل المتمردة إضافة إلى مصادرة
الأملاك بعد الغارات الحربية
الانتقامية ,وان كنا لا ندري التكييف
الفقهي للأمير في ما يخص أعمال المصادرة ’وقد كان قد سبق وأن سأل قاض فاس
عن حكم مصادرة أملاك البغاة وأجاب القاضي بالرفض واستثنى في ذلك الأسلحة 16. وقد سبق للأمير أن فرض خطية كبيرة على قبائل السبخة الساكنة سهل
شلف بعدما وقفوا ضده17.
كما اعتمد الأمير على المساعدات الخارجية التي
تلقاها مثل مساعدات السلطان المغربي عبد
الرحمان ,إضافة إلى أرباح احتكار تجارة المواد الأولية كذلك اشتراكات كبار الموظفين من الخلفاء والأغوات
والقياد والشيوخ أو ما يسمى" بحق البرنوس " لقاء
بقائهم في مناصبهم ,و هذا إضافة إلى مداخيل الأملاك العقارية18.
رغم إن الأمير عزز
خزينته بموارد لا بأس بها مستغلا أيام السلم بعد “معاهدة تافنة” ,إلا إن ذلك
ظل غير كاف وهذا راجع الى الحاجة الكبيرة لشراء الكبريت والبارود والذخيرة وكل مستلزمات الحرب ,الا أن الضربة
القاضية كانت بنهب محلته في 15ماي 1843 بعد نقض
معاهدة تافنة وتجدد الحرب , حيث كان ذلك بمثابة اختلال توازن خطير للنظام المالي
والضريبي لدولة الأمير , وهذا ما دفع به لإتباع سياسة التقشف ,بعدما رهن جميع أملاكه
العائلية والشخصية وباع حلي عائلته في أسواق معسكر سنة 1839 ,واقتطع لنفسه راتبا متواضعا لا
يكاد يكفيه هو وعائلته 19.
أما في ما يخص القطاع
التجاري فقد استفاد الأمير كثيرا من المعاهدات الدبلوماسية لإنعاش القطاع التجاري,
خاصة في زمن السلم بعد معاهدة تافنة ,وقد وكل الأمير اليهودي " حايم بن دران"
ليلعب دور الوسيط بينه وبين الطرف الفرنسي
, وهو ما سمح له بطريقة غير مباشرة وذكية في الحصول على البارود و الفولاذ والرصاص وكل
مستلزمات صنع الذخيرة ,مقابل رفعه الجزئي
للحصار الاقتصادي الذي كان يفرضه على مدينة وهران
حيث أن " بن دران " كان مكلفا بالتجارة الخارجية للأمير عبد
القادر 20.
ب -العملة في دولة الأمير
كان يلزم الأمير تقويم اقتصاد دولته الفتية عبر تأسيس نظام نقدي
خاص به ،ولم يتأتى ذلك له إلا بضرب السكة
وإصدار العملة, لما لهذه الخطوة من أهمية بالغة تتجاوز المصالح الاقتصادية ,بما
أن لها أهمية من الناحية الشرعية والسيادية ,كرمز من رموز الدولة . فبعد تنظيم شؤون الحياة الاقتصادية كان يجب
لزاما استحداث العملة لوضع حد للفوضى المالية والنقدية ,كما سبق وأن ذكرنا ذلك.
والحق يقال أن الدارس لموضوع العملة في عهد
الأمير يجد صعوبات جمة لقلة المادة فلولا اكتشاف
بالصدفة جرة صغيرة بها نقود أميرية من طرف عمال الحفر لإقامة قنوات الصرف الصحي في بلدية بوقادير سنة 1966 , لظل الأمر مجهولا إلى يومنا هذا
, حيث تم اكتشاف قطع نقدية نحاسية قام على
أثرها الأستاذ “عبد الرحمان الجيلالي” بنشر مقال قيم حول العملة الأميرية, انطلاقا مما تم اكتشافه ولكن أحسن دراسة حسب علمنا لهذا الموضوع كانت للأستاذ “منير بوشناقي” في أطروحته "العملة في دولة الأمير عبد القادر" بعدما درس بالتدقيق العملة
الأميرية على حسب المعطيات المتوفرة بعد الاكتشاف المشار إليه في السابق .
لقد حاول الأمير منذ البداية
على ما يبدو إحياء العملة العثمانية البائدة , ويتأكد ذلك بعد طلبه استرجاع آلات ضرب السكة العثمانية من
الفرنسيين بعد معاهدة تافنة ,لكن طلبه ظل
بدون جواب لمعرفة المحتل خطورة الأمر وهذا
الأمر يعطينا نظرة جيدة لعقلية الأمير البعيدة جدا عن التباهي وجنون العظمة بالمحافظة على العملة العثمانية وعدم إصدار
عملة جديدة تحمل اسم دولته الفتية ,رغم
علمنا بأهمية هذا الإجراء من الناحية الشرعية والسيادية وخاصة في تلك الظروف الصعبة21.
لقد جاءت عملة
الأمير بحلة جميلة ,بها نقوش لآيات قرآنية منتقاة في غالبها جيدا ,بما
أنها كانت توافق الظروف السياسية لتلك الفترة حيث كانت تدعو للجهاد وتحث على
الصبر ,وكان الغرض من هذا الإجراء توحيد
النظام النقدي في الجزائر ليشمل حتى المناطق الخاضعة لنفوذ المحتل الفرنسي .لكن
رغم ذلك فإن تغلغل العملة الفرنسية كان أسرع في الشرق مما هو عليه في الغرب
وبالتالي ظلت العملة الأميرية محصورة في مناطق
نفوذ الأمير .
لقد أسس الأمير دارا
لضرب السكة في” تقدامت” التي تبعد عن مدينة تيارت الحالية بحوالي 13 كيلومتر من الجهة الشمالية الغربية , وكان
لهذه المدينة أهمية إستراتيجية كبرى قبل أن تداهمها قوات الاحتلال الفرنسي و تكون بذلك الضربة القاضية للنظام المالي
والنقدي لدولة الأمير عبد القادر ,ولقد عين “السي قدور بن محمد بن
رويلة” -أمين سر خليفة مليانة
الذي سيصبح مستشار له فيما بعد- متكلفا بالسكة 22. وقد انقسمت هذه العملة إلى محمدية ونصفية
, كتب في مجملها العبارات التالية } لا اله إلا
الله {,وفي الوجه الأخر عبارة “ضرب من طرف السلطان الحاج عبد القادر” وفي قطعة أخرى
}حسبي الله هو نعم الوكيل{ وفي الوجه المقابل ›عبد القادر أمير تقدامت ‹ أو ›عبد القادر بن محي
الدين ضرب في تقدامت سنة 1256‹ اما في القطع الفضية التي كانت
نادرة فقد كتب على ظهرها الاية الكريمة }ربنا أفرغ علينا صبرا
وتوفانا مسلمين{ وفي أخرى }إن الدين عند الله الإسلام { وقد تكرر
الشكل الأخير مع اختلاف القطر
والأوزان والمعدن
إن هذا الوصف للعملة
الأميرية قد ذكره القنصل الفرنسي المقيم بمعسكر” “ Daumas رغم أن بعض الآثار لا تدل
على وضع الأمير اسمه على السكة على الإطلاق لأنه حافظ على نفس شكل العملة الذي كان
معتمدا لدى الأتراك والتي كانت تضرب باسم
السلطان محمود العثماني وهي نفس العملة
التي حافظ عليها الحاج أحمد باي باسم
السلطان محمود وفي الجهة الأخرى ضرب في[قسنطينة]سنة1254ﻫ23.
ولتقدير العملة
الأميرية وجب عرض قيمتها على السوق المالية في تلك الفترة لمعرفة حجمها الحقيقي في
تلك الظروف الاستثنائية فقد كانت على الشكل الأتي :
"دورو بومدفع 24"
يساوي” أربعة ريال” ,والريال يساوي” ثلاثة أرباع” , والربع يساوي ثمانية “محمدية” وهي عملة الأمير
والمحمدية تساوي اثنين “نصفية” ,و كان الريال العملة
المفضلة له بما أنها كانت أكثر العملات تداولا وشهرة وثقة, حيث كان يساوي 1.35 فرنك في الوقت الذي كان يساوي فيه الربع 0.45 فرنك , والمحمدية 0.05 فرنك والنصفية 0.025فرنك 52.
ونلمح جليا القيمة
المنخفضة للعملة الأميرية في سوق المال مقارنة مع الفرنك الفرنسي ,وهذا الأمر عادي
إذا أخذنا بعين الاعتبار حداثة العملة الأميرية وفوضى السوق النقدية الداخلية ,
والاقتصاد الهش والضعيف لدولة الأمير,وقلة المعادن الثمينة التي تعتبر أساس قاعدة
العملة وهو النظام المعمول به إلى يومنا
هذا ,خاصة إذا علمنا أن الاقتصاد الفرنسي
كان من الاقتصاديات الضخمة في العالم في تلك الفترة بعد أفول نجم الإمبراطورية
الاستعمارية الاسبانية
ويجب الاعتراف إن عملة الأمير ظلت مرفوضة من طرف
المتعاملين معه مثل ملك المغرب
الأقصى و فرنسا وفضلوا التعامل بالعملات الأجنبية
لشيوعها وقوتها إلا أن مبادرة
الأمير عبد القادر في بناء دولة جزائرية بمؤسسات سيادية وباقتصاد قوي وعملة جيدة
كلها , كانت مبادرة مهمة جدا في المجال السياسي والدبلوماسي , وتدل
على سعة أفقه وبعد مداركه وعظيم طموحه
الذي جاء في زمان غير زمانه ,جعله وان لم توفقه الظروف الداخلية
والخارجية بحق من أبرز الشخصيات والزعماء
الذين طبعوا تاريخ البشرية عل الأقل
في القرن التاسع عشر كما شهد بذلك الكثير من المفكرين والمؤرخين .
الهوامــش
1-ناصر الدين سعيدوني ,النظام المالي للجزائر في أواخر العهد العثماني, الجزائر, المؤسسة
الوطنية للكتاب,1979,ص 220
2- مرجع نفسه ص 191.
3 - PÉAN, Pierre., main basse sur
Alger, Paris, Plon, 2004.
4-Ibid, pp226, 227
.
5- ناصرالدين سعيدوني, مرجع
نفسه, ص211.
6- مرجع
نفسه ص 195.
7-مرجع
نفسه ص197.
8- مرجع
نفسه ص 200.
9-مرجع نفسه
ص 206.
10-مرجع
نفسه ص 219.
11-محمد بن
عبد القادر الجزائري, تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر,
تحقيق ممدوح حقي وبيروت, دار اليقظة العربية,ط الثانية,1964. ص 156,155 .
12-نصر
الدين سعيدوني , مايو/جوان 1983, النظام الضريبي في
دولة الأمير عبد القادر , مجلة الثقافة , وزارة الثقافة,العدد75, )ص123/132(,ص123.
13-المرجع
نفسه ص 125.
14- المرجع
نفسه ص123.
15- المرجع
نفسه ص124.
16-محمد
بن عبد القادر الجزائري, نفس المرجع,ص388.
17-ناصر
الدين سعيدوني, النظام الضريبي في دولة الأمير عبد القادر, ص127.
18- المرجع
نفسه ص 129,128 .
19- محمد بن عبد القادر الجزائري, نفس
المرجع,ص 125.
20- إسماعيل
العربي, العلاقات الدبلوماسية الجزائرية في عهد الأمير عبد
القادر , الجزائر,ديوان المطبوعات الجامعية ,1982,ص ص111,110 .
21 -Bouchnaki Mounir., la monnaie de l’Emir Abdelkader,
Alger, SNED, 1976, p118.
22-
Ibid, p30.
23-Ibid,
p 53.
24 - "الدورو" كلمة اسبانية تعني "صلب "أي dur" "باللغة الفرنسية
وهي العملة الاسبانية peso duro" “
وقيمتها أونصة من الفضة الخالصة.
25- Ibid, p78.
0 التعليقات:
إرسال تعليق