لقد خلف لسان الدين ابن الخطيب للمكتبة العربية تراثا
فكريا خصبا ، متنوع الفنون والأغراض ، موزع بين تاريخ وسياسة وطب وتصوف وفقه وأصول
وأدب ، إلا أنه – للأسف الشديد – ضاع معظمه ، حيث كان الحرق والاتلاف نصيب الكثير
من مؤلفاته .
ويعود
السبب في بقاء ما بقي من مؤلفاته سالما من العبث ، إلى ما كان يتصف به ابن الخطيب
من تواضع محمود ، وخلق كريم ، حيث كان بكتبه إلى علماء عصره لابداء رأيهم فيها ،
كالأستاذ أبي عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني المتوفى سنة 771هـ .
كما كان
يبعث من حين لآخر ما يصدر عنه من مصنفات إلى صديقه العلامة ابن خلدون ، هذا إذا
كانا متباعدين ، أما إذا اجتمعا في بلد واحد ، فإن ابن الخطيب يقرأ على صديقه
انتاجه ويتناقشان في مضمونه ومحتواه .
أضف إلى
ذلك ، أنه كان يبعث بمؤلفاته إلى حيث يظن الانتفاع بها والاستفادة منها ، والتعليق
عليها ، فقد أرسل نسخة من الإحاطة من أخبار غرناطة " و"روضة التعريف
بالحب الشريف " إلى مصر ، ووقفها على أهل العلم والمعرفة ، وجعل مقرها "
خانقاه سعيد السعداء" وقفا شرعيا على جميع المسلمين ينتفعون بها قراءة ونسخا
ومطالعة .
وقد أورد
ابن الخطيب ثبتا لمعظم مؤلفاته في آخر كتابه "الإحاطة" ، وأشار إلى ذلك
المقري " في نفح الطيب" و"أزهارالرياض" ، ومن خلال دراسة كتبه
المطبوعة المنشورة ، يمكن لنا أن نصنفه أديبا من الطراز الأول ، حيث كتب الشعر
والنثر ، فأجاد .
قال ابن
حجر العسقلاني ، وتولع بالشعر فنبغ فيه ، ففاق أقرانه" (1) . ، ووصفه ابن خلدون بقوله
" كان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النظم والنثر ، والمعارف والأدب
، لا يساجل مداه ، ولا يهتدي فيها بمثل هداه "(02) .
وقد أشاد به المعاصرون
،حيث وصفه مصطفى صادق الرافعي بأنه أشهر أدباء هذا القرن شعرا وكتابة وتفننا في
العلوم وبأنه كان نابغة المائة الثامنة وله في التواشيح بدائع كثيرة (03) .
أما أحمد حسن الزيات فكتب يقول :" له
شعر رقيق اللفظ ، رائع المعنى ، مقبول الصنعة ، وقد انتهت إليه زعامة العلم والأدب
في الأندلس ، كما انتهت إلى ابن خلدون معاصره أفريقية " (04) .
ومن أشهر
مؤلفاته في الأدب :
1-
جيش التواشيح : وهو عبارة عن مجموعة لطيفة مختارة من موشحات ستة عشر من
أئمة التوشيح بالأندلس ، أورد لهم لسان الدين ابن الخطيب في جيشه خمسة وستون ومائة
موشح ، وقد قام بتحقيقه ونشره الأديب العراقي الأستاذ هلال ناجي (05) .
2-
روضة التعريف بالحب الشريف : هو كتاب عارض به ابن الخطيب ديوان الصبابة
لابن أبي حجلة التلمساني الأديب الصوفي المتوفى سنة 776هـ ، تكلم فيه عن الفناء والوجود
والحلول والاتحاد ، مما أحدث ضجة وصدى كبيرين لدى معاصريه ، واتخذه خصومه وأعداءه
وسيلة للطعن في اعتقاده والعمل على نكبته وتصفيته جسديا وقد نشر الكتاب محققا
مرتين (06)(07).
3-
ريحانة الكتاب ونجحة المنتاب : يشمل هذا الكتاب عن مقدمات بعض كتبه عدد من
المقامات ورسائل في أغراض شتى ، من مخاطبات الملوك وطبقة الخاصة من الوزراء
والأمراء قادة الجند وعلية المجتمع ، ويقع هذا الكتاب في عدة أسفار .
4-
خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف : وهو عبارة عن رسالة كتبها بن الخطيب عام 748هـ ، يصف فيها رحلة قام بها السلطان
يوسف بن إسماعيل سابع ملوك بني الأحمر ، المكنى بأبي الحجاج ، وكان هذا السلطان من
جلة ملوك غرناطة فضلا وعقلا واعتدالا ، عالما شاعرا ، يحمي الآداب والفنون ، وهو الذي أضاف
إلى قصر الحمراء أعظم منشآته وأفخمها وقد نشرها الدكتور أحمد مختار العبادي في
كتابه له عن ابن الخطيب (08).
5-
نفاضة الجراب في علالة الاغتراب عبارة عن مذكرات شخصية ، سجل فيها
انطباعاته عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عاش في ظلها الشعب
المغربي في الفترة التي كان هو فيها موجودا بين ظهرانيه ، في ظل الدولة المرينية ،
قبل أن يعود ثانية إلى غرناطة لتسلم مهام الوزارة من جديد ، ويقع الكتاب في ثلاثة
أسفار كما أشار إلى ذلك بن الخطيب نفسه ، وقد قام بتحقيق ونشر الجزء الثاني
الدكتور العبادي (09) ، والجزء الثالث ما زال مخطوطا في الخزانة العامة بالرباط ، أما الجزء الأول
فلم يعثر له على أثر على ما أعلم .
6-
معيار الاختيار في أحوال المعاهد والديار : وهو كتاب فريد في نوعه ، يصفه
بن الخطيب أنه " كتاب غريب لم يسبق متقدم إلى غرضه" (10) ، يصف فيه مدن دولة بني الأحمر ،
كغرناطة ، مالقة ، لوشة ، وبعض مدن المغرب كسبتة ، سلا ، مراكش ، فاس ، وقد نشرته
مطبعة أحمد اليمني بفاس عام 1907م ، كما نشره الدكتور العبادي ضمن كتاب مشاهدات ابن الخطيب السابق الذكر ،
وتوجد عدة نسخ منه في الخزانة العامة بالربياط .
7-
الحلل المرموقة في اللمع المنظومة : وهو أرجوزة تقع في ألف بيت ، قام
بشرحها المؤرخ الكبير ابن خلدون .
8-
الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة ، أو
الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة كما ورد في نفح الطيب (11) .، وقد ألفه بن الخطيب و هو
بمدينة تلمسان ، حيث كان يقيم السلطان المريني أبو فارس عبد العزيز الذي آوى إليه
بن الخطيب بعد اليأس من الأندلس ، فنزل بجواره مطمئنا ، ووجد لديه كل حفاوة وإكرام
، وأخذ يستعد للرحلة الحجازية ، وأثناء انتظار الركب الحجازي ، فكر ابن الخطيب في
هدية يقدمها إلى العلماء والأدباء بالمشرق ، فلم يجد أفضل من بنات أفكاره ، فشرع
في تأليف هذا الكتاب ، ليأخذه معه ، هدية ، وتحفة ، وقسمه إلى أربع طبقات :
أ- طبقة الخطباء والصوفية
ب- طبقة المقرئين والمدرسين
ت- طبقة الكتاب والشعراء
ث- طبقة القضاة
وترجم لثلاثة ومائة منهم .
ومما يدل
على أن ابن الخطيب ألف هذا الكتاب في تلك المرحلة الحاسمة من حياته ، تغير رأيه في
خصومه السياسيين ، الذين كان يصفهم بصفات الإكبار والإعجاب ، عندما ترجم لهم قبلا
في كتابه " الإحاطة" ، فعاد إليهم ليصفهم بأقبح الصفات وأرذل الطبائع ،
وعلى رأس هؤلاء القاضي النباهي الذي أفتى بقتله ، وتلميذه الوزير أبو عبد الله
محمد بن يوسف بن زمرك ، الذي وصل إلى فاس على رأس وفديحمل عريضة اتهام ضد ابن
الخطيب بالمروق من الدين (12) .
وسوف
أتوقف عند نموذجين من كتابات بن الخطيب في النثر والشعر :
أ- مثلى الطريقة في ذم الوثيقة : وهي عبارة عن رسالة
صغيرة تقع في عشرين صفحة من الحجم المتوسط ، كتبها ابن الخطيب في أثناء إقامته
بمدينة سلا بأسلوب ساخر يهجو فيها الموثق ابن القباب ، والموثقين وصناعة التوثيق .
كتب يصنف
منزلة الموثق والتوثيق من سائر أصحاب المهن : " فما الفرق بينه وبين سائر
الفعلة من الأساكفة ،والخرازين والحاكة وأرباب أسواق المضغ من الخبازين والسفاجين
وكثير من أرباب المهن لانحطاطه في دركات الخسة ،وعرض عمله على المسيطر وربما يفضله
من ذكر الباعة بأمور منها : تهيؤ سقوط الحشمة
ورفع كلفة الرياء وخفة العقاب عند مواقعة الجناية ، فعقاب جنايته في الآخرة
أشد من عقاب سارق المضغة ومطفف الكيل .
ولقد
اكترثت بحال أحدهم ، كلما مررت به حال ظفره باكتتاب صداق ، حاسر الذراع ، يعالج
نفض الجير عن رقه ، فتارة ينشره ويلحسه بلسانه ، ويجهد أن يشمل سطحه بلعابه ، فيلعق
الكلس ببلل لحته وشفتيه ، ويطير الغبار إلى عينيه ، وتارة يدرجه إلى أن يصير يراعه
جوفاء ، وينفخ فيها كالنافخ في الآلات النفيسة وتارة يسوط بها جنب متوكئه وغلق
حانوته ، فكيف لا يعد من يبرز في هذا الطور حتى يشبه أخابث أهل الذمة ومجتنبي
المجذومين من أرباب المهن والمحترفين بأخس الحرف "(13).
من خلال النص
السابق نستشعر الوصف الكاريكاتوري الذي يعتمدالمبالغة والتعميم الذي يبلغ مستوى
الهجو ، لا الجدي المقذع المؤلم ، بل الهازل الساخر العابث لما يتخلله من النوادر
والحكايات الغرناطية .
إن ابن
الخطيب وبأسلوب شيق يصف الموثقين بالبخل الشديد ، حيث يبالغون في تقدير أجرتهم ،
ثم يلحون في طلبها مستعملين كل الوسائل والطرائق التي يقدرون عليها ، وحتى العنيفة
منها حيث بقول :" ولقد شهد بعض شيوخهم بمالقة على إمرأة من البادية ببعض
القرى ، فقصرت الإجارة عن غياب رضاه ، لخلو يدها عما يحسم طمعه ، وكان بيتها أحمال
تين ، فرفع فردا من التين وخرج به وأعياه ، فأغار على حمار كان مرتبطا بإزاء
البيوت وانصرف بالجميع "(14) .
وقد
أوردنا سابقا وصف ابن الخطيب لمنظرهم المضحك السخيف أثناء العمل ، فنرى الواحد
منهم "حال ظفره باكتتاب صداق حاسر الذراع يعالج نفض الجير عن رقه..." .
إن
القراءة المتأنية لرسالة " مثلى الطريقة في ذم الوثيقة" تدلنا على جوانب
مختلفة من الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في غرناطة خاصة ، وبمدن المغرب
الاسلامي عامة ، وذلك من خلال المصطلحات اللغوية ، ذات الاستعمال المحلي ، ثم إن
الرسالة تمس بعض ملامح الذوق الغرناطي وخاصة النكتة ، فهو ذوق لا يخلو من رقة ،
وإن كان يميل إلى الاسفاف السوقي ، ويجمع بين حب السلاسة والبساطة وبين التعلق
بالتكلف والزخرفة اللفظية واللغوية ، بين خفة الدم والمرح ، وبين التشاؤم والنقمة
، إلا أنه في نهاية المطاف يسمو دائما إلى مستوى الجد وإن بلغه بطرق فيها شيء من
الالتواء .
وتتعرض
الرسالة كذلك إلى الحياة في غرناطة ، فتصف أسواقها بما فيها من حركة وضجيج وبما
يصوت فيها من حيوان وبما يعبرها من صغير وكبير وبما يجري فيها من معاملات البيع
والشراء ، كتب يقول : " فإن قيل إتخاذ الدكاكين والاتنصاب في الأسواق فيه
تقريب على الضعفاء وتيسير على المحتاجين لايقاع الشهادة ، قلت هذا مما انعكس فيه
الفصل مع ما تقدم في أصل اتخاذه إذ صار مصيدة لهم ومعصرة لفلوسهم والأخذ بمخانقهم
ومقعدا لأولي البطالة والمشرفين على أسرارهم وحرماتهم " (15).
وتفرق
الرسالة تفريقا واضحا بين الطبقة الغنية التي ينتمي إليها الوثاق مبدئيا وعمليا ،
وكذلك بن الخطيب بدون ريب وبين الطبقة الشعبية الفقيرة التي لا يمكن للوثاق أن
يستغني عن الاتصال بها والتعامل معها .
وهذا
التباين يثير ضحك المؤلف ضحكا تغذيه طباع الأشخاص وأحاديثهم وحركاتهم ، والمواقف
التي يصف فيها ، كما تثير تعجب الطبقة الأرستقراطية الفضولي مما يقع تحت أعينهم
ويقرع أسماعهم ويخدش حساسيتهم تعجبا يشوبه شيء من الترفع والاشمئزاز ، كما صدر ذلك
عن ابن الخطيب بالذات أوعن تلك الفتاة من بنات دنون التي أبت خطبة وثاق حتى ينصرف
عن دكانه .
كتب ابن
الخطيب يقول :" ولقد خطب الفقيه العاقد بالمرية ، المعدود من مفاخرها الثلاثة
المعروف بابن الصائغ ، وهو شيخ العدول ومن أهل المالية احدى بنات ابن دنون من
أعيانها ، فقالت :" لا أرضاه حتى يتوب من التوثيق ، فإن الموثق ليس من أهل
الحشمة " فقيل لها في ذلك ، فقالت :" كل من يلازم أي دكان كان ، لأي شيء
كان ، فهو سوقي ، لا سيما ، إذا كان يعمل عملا بدرهم " (16) .
إن كبار
علماء المذهب المالكي كابن فرحون وابن الحاجب والأبهري البغدادي وابن خلدون يذهبون
إلى خلاف ما ذهب إليه ابن الخطيب باعتبار مهنة التوثيق من المهن التي تحوم حولها
الشبه ، يقول ابن خلدون :" ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس
عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للأشهاد وتقييده بالكتاب "(17) ، كما يذكرها غيره كابن بشكوال
وابن الأبار وابن تغري بردي والمقريزي في تآليفهم .
ب- الشعر
:
لقد عالج بن
الخطيب أغراض الشعر كافة فأجاد فيها ، ولم يكن ذلك خروجا عن المألوف ، فقدكان
القرن الثامن الهجري في الأندلس خاصة والمغرب العربي عامة قمة الازدهار الأدبي
والانتاج الفكري ، ولقي الأدباء عناية وتشجيعا ،من الأمراء والوزراء ، والولاة ،
والقادة ، ونال الشعراء خاصة –من العطايا والهدايا – الكثير .
وكان
العديد من قادة الأندلس والمغرب ، يقولون الشعر من حين لآخر ويتذوقونه ، ويحضرون
مجالس العلماء ، ويشاركون في المناقشة والمناظرة ، وإبداء الآراء ، أمثال السلطان
المريني أبي عنان فارس(18) الذي ثمن له بن الخطيب قصيدة رثى فيها حاجبه ابن أبي عمروالتميمي (19) والسلطان أبي حمو موسى الزياني ،
صاحب تلمسان الذي اشتهرت مجالسه العلمية ، وكان بلاطه منتدى الكثير من الأدباء
والعلماء ، وهو صاحب كتاب "واسطة السلوك في تدبير سياسة الملوك "
ويكفي أن
نلقي نظرة سريعة في كتب التاريخ والأدب في هذه الفترة كالإحاطة والنفاضة والكتيبة
الكامنة لابن الخطيب ونثير الجمان ، في شعر من نظمني وأياه الزمان لابن الأحمر ،
وكتاب العبر لابن خلدون ، وبغية الرواد
لأخيه يحيى ، تعطينا صورة جلية ، عما كان يزخر به هذا القرن من الشعراء والكتاب
العديدين وإن كان شعرهم متوسطا في غالب الأحيان
قصارى
القول ، إننا لا نجد في هذه الحقبة التاريخية شاعرا منقطعا للشعر دون سواه من
الفنون الأدبية الأخرى ، فابن الخطيب ، وابن الأحمر ، وابن زمرك ، كلهم كانوا
شعراء ، وكتابا في آن واحد ، وشهرتهم كشعراء تساوى شهرتهم ككتاب في آن واحد ،
وشهرتهم كشعراء تساوي شهرتهم ككتاب ونثريين ، بل ونجد بعضهم كابن الخطيب وابن
الأحمر اشتهرا بالكتابة والتاريخ ، أكثر من شهرتهما بالشعر ، فهؤلاء الأدباء ، لم
يتخذوا قول الشعر حرفة للاسترزاق والتكسب ، بل يرون الشعر من الملح التي يجمل أن
يتحلى بها كل أديب ، سواء كانت له موهبة الشعر أم لم تكن ، وإنما يتكلفها تكلفا ،
ويحشر نفسه في زمرة الشعراء حشرا ، مما أدى إلى قلة الجيد منه ، وابتذاله ، كأن
قول الشعر أصبح من مكملات ثقافة الأديب والفقيه والطبيب والمؤرخ ، فهذا ابن خلدون
يأخذ نفسه ويكرهها على قول الشعر ، مرغمة ، ويقول :" ثم أخذت نفسي بالشعر
فأنثال علي منه بحور ، توسطت بين الإجادة والقصور "(20).
وكتب ابن
الخطيب " ولما شرح "الشفاء" العياضي الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق
، وطلب إلى أهل العدوتين بالنظر في ذلك ، طما البحر من الشعر بين مجيد ومقصر ، قلت
إسعافا لغرضه "(21).
فهذا
الكم الهائل الذي وصل إلى ابن مرزوق ، حسب طلبه ، ليس جيدا ولا قريبا منه لأنه لم يصدر إلا إسعافا ومجاملة .
وإذا ما
درسنا شعر هذه الفترة ، نجد أن له نصيبا في كل غرض تناوله النثر ، وهكذا نراه ينزل
من القمة إلى صغائر الأمور ، وتوافه الأشياء ، كوصف فاكهة وزجاجة عطر ، وتقريض
كتاب ، وحفلة اعذار وختان .
وكانت
رسائل هذه الفترة – القرن الثامن- عادة ما تبتديء وتنتهي بمقطوعات شعرية صغيرة .
والسائد
الأعم من الشعر خلال هذه المرحلة ،شعر المناسبات كالأعياد والمواسم السنوية ،
والمناسبات السلطانية ، كيوم البيعة ، وما يتعلق بالدولة من فتوحات وانتصارات
وانكسارات وهزائم ، والاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، الذي كانت الأندلس تحتفل به
احتفالا رائعا ، حيث تجري الاحتفالات الدينية في المساجد والأماكن العامة والخاصة
، تتلى فيها آيات من الذكر الحكيم ، التي تمجد الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وآله وسلم ، وتورد بعض معجزاته ومواقفه الإنسانية وأخلاقه السامية الشريفة
نللإهتداء بها والأخذ عنها والسير على هديها ونورها ، ثم التطرق إلى مدح المسؤولين
والقائمين على شؤون الأمة من السلاطين والأمراء والقادة والوزاء والحجاب .
والملاحظ
على شعر هذه الفترة شغف الأندلسيين القوي بالطبيعة وجمالها ذلك جليا في شعر بن
الخطيب وغيره ، حيث يظهر الاهتمام بوصف الحدائق الغناء والأزهار ، والبساتين
والمنتزهات العامة والخاصة ، ولكنه كغيره يفتقد التجديد ، والابتكار، إنه مجرد
تكرار ، واجترار لما قاله الشعراء السابقون ، بخفوت أحيانا ، وبقوة وذكاء أحيانا
أخرى ، حسب ثقافة الشاعر وموهبته ، وخياله وإحساسه .
ولم يقف
لسان الدين ابن الخطيب –شأنه شأن غيره- حياته على الشعر ولا اتخذه مكسبا ، وحرفة ،
فهو يقوله إظهارا لموهبته ، أو إشباعا لرغبته أو رضوخا لمقتضيات زمانه ، الذي يحتم
عليه كعالم أو أديب أوفقيه قول الشعر ، كصديقه ابن خلدون ، وعودها على قرضه ، حتى
دان له ، وانقادت إليه ملكته بعد تمعن ، ومالت إليه بعد إباء ، وعطفت إليه بعد
إعراض ، فشعره في زمان صباه ، وأيامه الأولى يظهر عليه أثر التكلف وصعوبة القول ،
حتى كأنه ينحت من صخر ، ولكنه بعد تمرن وطول مراس ، وبعد تشبع من الثقافة العربية
في جميع أطوارها ، إلى عصره ، وبعد اطلاع واسع ،وحفظ لكثير من الشعر ، منذ
الجاهلية إلى عهده أصبح بعد كل ذلك شاعرا ، يبتكر المعاني ، ويختار الألفاظ
المشوقة ، والأوزان المناسبة لكل غرض من الأغراض ، حسب مقتضيات الأحوال ، ومراعاة
المقام ، فاشتهر بالشعر والكتابة على حد سواء ، حتى أننا لا نستطيع أن نفاضل بين
ابن الخطيب الناثر وابن الخطيب الشاعر .
ونلاحظ
إعجاب بن الخطيب بأدبه عامة وبالشعر منه خاصة ، واضحا في أغلب انتاجه ، ويظهر
اعتداده بنفسه جليا في معظم قصائده ، فيصف نفسه بأنه واسع الاطلاع ، عميق الأفكار
، وعانيه جواهر ثمينة ، تقلد في نحر وتنظم في عقد ، يقول في قصيدة هنأ بها
"محمد الغني بالله" يوم بيعته بعد مقتل أبيه ، يوم عيد الفطر ، من عام 755هـ :
محمد قد
أحييت ديـــن محمد وانجزت من نصر الهدى
سابق الوعد
ودونكها
من بحر فكري جواهرا تقلد في نحر وتنتظم
في عــــقد
ركضت بها
خيل البديهة جاهدا وأسمعت آذان المعاني
على بـــعد(22)
فجاءت
وفي ألفاظها لفف الكرى سراعا وفي أجفانها
سنة الســـهد
ويعتقد
بن الخطيب أن بدائعه ، تفوق سحبان وائل ، وقس بن ساعدة الأيادي ، فصاحة وبلاغة ،
وتجعل الشعراء العظام يقرون بالتقصير والعجز عن الاتيان بمثلها ، لأن الفصاحة حكمت
لها بالفوز ، والنجاح ، ولأن صاحبها نابغة في زمان قل فيه النبغاء ، ولا يضره أنه
لم يكن من قبيلة النابغة الذبياني ، الشاعر الجاهلي المعروف ، إذ المقصود الإجادة
والابتكار ، لا جمع الألفاظ وصوغها في قالب موزون :
خذها
أمير المسلمين بديــعة سحبت بدائعها
على سحــــبان
تطوي
البلاد مشارقا ومغاربا قسية
تثـــــــني بكل لسان
ويقر
بالتقصير عند سمــاعها رب القصائد في
بني حمـــــدان
قضت
البلاغة لي بفوز قداحها في الشعر يوم
تنازع الخصــــمان
ونبغت في
زمن أخير أهــله ما ضر أني لست من
ذبـــــيان
ما كل من
نظم القوافي شاعر أوكل
مصقول الغرار يمان (23)
إن لم
أدعها في امتــداحك فذة مثلا شرودا
لست من سلـمان
وعندما
يتغزل بن الخطيب ، فهو ينحومذهب جماعة من الفقهاء ، فلا يبيح الغزل بمعين ، وسار
على هذا الطريق في كل غزله ، فهو يشير ويرمز ، ويكنى ويضمر ، ولكنه لا يصرح ، ولا
يذكر اسما بعينه ، وإن ذكر صفاته ومميزاته ،وآثاره في نفوس المعذبين به ، وقصائده
الغزلية ، أصدق لهجة ، وأكثر حرارة ،وأبعد عن التكلف ، والصنعة ، ولا يرد في
الديوان غير عشر قصائد ، أما المقطوعات ذات البيتين والثلاثة ، فكثيرة ، متعددة ، متناثرة
، خلال الديوان .
كتب يقول
:
وحدت
شخصك في الفؤاد لعله ينجيه من نار الجوى
التوحيد
وجعلت
حبك مذهبا وشريعة قلدته ياحبذا التقـــليد
إن نالت
الشهداء جنات العلى ولهم نعيم عندها
وخلــود
فلقد
شهدت بأن قربك جنة حقا
وأني بالغرام شهيد(24)
ولأن ابن
الخطيب كان فقيها ، متمكنا من علوم الشريعة ، عارفا بأسرارها ، وأحكامها ، مطلعا
على أصول الدين ، ومؤلفا فيها ، وله فقه بالحديث النبوي الشريف ورجاله ، ومصطلحاته
، حافظا للقرآن الكريم ، ودارسا له ، تفسيرا وقراءة وأحكاما ، وكان سلوكه الشخصي ،
سلوك رجل متدين ورع ، عالما بالتصوف ورجاله ، جاءت في ديوانه عدة قصائد ، ومقطوعات
فيها الإنابة إلى الله عزوجل ، والخوف منه ، والتضرع إلأيه ، والتشوق إلى لقائه .
كتب
الخطيب يقول :
إليك
مددت الكف في كل لأواء ومنك عرفت الدهر
ترديد نعماء
ويسرتني
قبل ابتدائي ونشــأتي لشقوة بعدي أوسعادة
إدنــائي
تعاليت
يا مولاي عن كل مشبه فيا جل ما طوقت من
غـر آلاء
إذا
اعتبرت نفسي سواك بفكرتي فيا خسر أوقاتي
وضيحة آنـائي
وأني
أبصرت عيناي غيرك فاعلا فقد تهت للأوهام
في جنح ظلماء
بما لك
من سر بدأت به الورى وعلم محيط بالوجود
وأســماء
أعني
وطهرني وخلص حقيقتي إليك وأيد نور
سري ومعناء (25).
لقد وظف
بن الخطيب في شعره أغلب بجور الشعر العربي المعروفة ، على تفاوت فيما بينها ،
الدارس لديوانه الصيب والجهام ، يجد أن بحر الطويل كان أكثرها في الديوان استعمالا
، يليه الكامل ، ثم البسيط والخفيف ، وأقل منه المنسرح والمتقارب ، أما بحر الوافر
فلم ترد فيه إلا قصيدةواحدة .
وإذا ما
تجاوزنا العروض إلى الصور البلاغية ، وجدنا المغالاة ، والاسراف من مميزات قصائد
المديح ، وتكرار المعاني في القصائد المتعددة ، أو حتى في القصيدة الواحدة الطويلة
، واضح ملموس ، وخاصة قصائد المديح ، والمولديات ، والرثاء ، وأحيانا لا تقف عند
تكرار الفكرة أو الكلمة أو الصورة ، وإنما يعيد البيت كاملا.
ثم نرى
ثقافته التاريخية تطفو على كثير من شعره ، وهذا ليس بدعا ، لأن لابن الخطيب قدم
ثابتة في التاريخ ، وكتبه في هذا العلم عديدة معروفة ، لذلك فهو يأتي في القصيدة
الواحدة بأعلام تاريخية ، متباعدة في الزمان ، والمكان والشهرة ، فيذكر بشرا
الحافي من الصوفية ، والحجاج بن يوسف من القادة والولاة ، ويشير إلى أبي العباس
السفاح وأبي جعفر المنصور .
الهوامش :
1- ابن حجر العسقلاني ، الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة ، مطبعة
دائرة المعارف العثمانية ، حيدر آباد الدكي 1930م-1932م ، ج3 ،ص 469
2- ابن خلدون ، العبر وديوان المبتدأ والخبر ، أيام العرب والعجم والبربر ،
بيروت ، 1956م -1961م ، ج07، ص 959
3- الرافعي ، مصطفى صادق ، تاريخ آداب العرب ، تصحيح محمد سعيد العريان ،
لقاهرة 1940 ، ج3، ص 169 ، 310
4- الزيات ، أحمد حسن ، تاريخ الأدب العربي ، القاهرة بلا تاريخ ، ص 344
5- ابن الخطيب لسان الدين ، جيش التواشيح ، تحقيق الأستاذ هلال ناجي ،
مطبعة المنار ، تونس ، 14967م
6- ابن الخطيب لسان الدين ، روضة التعريف بالحب الشريف ، تحقيق الأستاذ عبد
القادر أحمد عطا ، ط01، القاهرة 1968م .
7- ابن الخطيب لسان الدين ، روضة التعريف بالحب الشريف ، تحقيق الأستاذ
محمد الكتاني ، الرباط 1970م
8- العبادي ، أحمد مختار ، مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب
والأندلس ، الاسكندرية ، 1958م
9- ابن الخطيب ، لسان الدين ، نفاضة الجراب في علالة الاغتراب ، القاهرة
1968م ، تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي .
10- المقري ، أحمد بن محمد ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، وذكر
وزيرها لسان الدين بن الخطيب ، القاهرة ،1947م ، ج9، ص 303
11- ابن الخطيب لسان الدين ، الكيبة الكامنة ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت
1963م .
13- ابن الخطيب لسان الدين ، مثلى الطريقة في ذم الوثيقة ، تحقيق وتقديم
عبد المجيد التركي ، الجزائر 1983م ، ص 95-96 .
14- المصدر نفسه ، ص104.
15- نفسه ، ص 113.
16- نفسه ص 97
17- ابن خلدون ، المقدمة ، بيروت 1967م ،ص 398
18- أبو عنان المريني ، هو فارس بن علي بن عثمان بن يعقوب المريني ، كان
يكنى بأبي عنان ، ويلقب بالمتوكل على الله ، واتخذ لنفسه لقب أمير المؤمنين ،
بينما اكتفى معظم ملوك المرينيين بلقب أمير المسلمين ، ولد بفاس الجديدة عام 729هـ
من جارية مسيحية اسمها شمس الضحى بويع له في حياة أبيه عام 749هـ ، قتله وزيره
الحسن بن عمر الفردودي في فراشه خنقا عام 759هـ/1358م ، راجع : ابن الأحمر ،
اسماعيل ، روضة النسرين في دولة بني مرين ، ص 27-29 ، مجهول ، الحلل الموشية ،ص
134-135
19- ابن أبي عمرو الحاجب : هو أبو عبد الله محمد بن محمد التميمي ، كان
والده معلم السلطان أبي عنان ، وقد تربى محمد بدار السلطان ، ولما تولى أبو عنان
الإمارة ولاه العلامة والحجابة ، وكان يعتمد عليه في مهمات الأمور ، لما كان يتصف
به من الإخلاص والصدق والوفاء ، بعثه واليا على بجاية عام 753هـ ، فأقام بها إلى
أن توفي عام 756هـ .
20- ابن خلدون ، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا ، تحقيق محمد بن
تاويت الطنجي ، القاهرة 1957م ، ص 72.
21- ابن الخطيب ، لسان الدين ، ديوان الصيب والجهام والماضي والكهام ،
دراسة وتحقيق الدكتور محمد الشريف قاهر ، الجزائر ، 1973م ،ص 378-379
22- المصدر نفسه ، ص 437
23- المصدر نفسه ،ص 593
24- المصدر نفسه ، ص 418
25- المصدر نفسه ،ص 241-242
0 التعليقات:
إرسال تعليق