المجاهدة الثائرة.. السيدة شامة بوفجي: رائدة نهضة المرأة الجزائرية
كثيرات هن بنات الجزائر وحرائرها اللائي أفنين شبابهن في خدمة وطنهن المفدى، بالغالي والنفيس، فتشعبت اهتماماتهن وتفرعت
همومهن في سبيل ذلك.. فهذه حاملة للبندقية بجانب أخيها الرجل في معارك
ضد المستعمر، وأخرى رافعة قلم العلم والمعرفة لتعليم النشء، وتلك تدافع عن
أصالة أمة في بيتها، وهذه تحمل "قفة الموت" لمحتل غاشم..
كثيرات ذكرن في كتب التاريخ ومؤلفات الباحثين، التي مرت كثير منها مرور
الكرام على نضال نساء جمعن جل أساليب الجهاد، فكن المجاهدات بالبندقية
والمحررات للعقول بالقلم والعلم والأمهات في البيوت. ومن هؤلاء المجاهدة
الثائرة ورائدة نهضة المرأة الجزائرية، السيدة شامة بوفجي براهم شاوش..
سيدة نساء الجزائر..
ولدت المجاهدة المرحومة شامة، أرملة الشهيد محمد الصغير براهم شاوش،
ببلدية بئر قاصد علي، شرقي برج بوعريريج يوم 13 مارس 1922، وسط عائلة دينية
محافظة مصلحة، من أبوين ينحدران من بلدة زمورة شمالي ولاية برج بوعريريج،
وهما بوفجي امحمد وشلابي برنية.
انتقل والدها بأسرته إلى العاصمة فسكن في القصبة، وعندما حل الشيخ الطيب
العقبي واستقر بنادي الترقي هناك، كان من أول الملازمين لدروسه والمتتبعين
لحركة الإصلاح والنهضة القومية، فأدخل ابنتيه "شامة وخضرة" مدرسة الشبيبة
الإسلامية، وهي أول مدرسة من مدارس جمعية العلماء المسلمين بالعاصمة.
خلال مدة قصيرة أظهرت البنت شامة، تفوقا ملحوظا في دراستها فاقت به جميع
أقرانها في المدرسة، فأقعدها والدها المنزل مع أختها خضرة، واستدعى لهما
طائفة من الأساتذة أمثال الأستاذ فرحات بن الدراجي، وعبد الكريم عقون،
فعكفتا على تحصيل العلم وحفظ القرآن العظيم والتفقه في الدين.
تأسيسها مدرسة "شريفة الأعمال"
دعت السيدة شامة إلى تأسيس مدرسة لتعليم البنات المسلمات بالقصبة،
بالجزائر العاصمة، فكانت أصغر معلمة في تاريخ الجزائر قاطبة. وتأسست
المدرسة فعلا سنة 1934، كأول مدرسة للبنت المسلمة وأشرفت عليها "البنت
شامة" وعمرها لم يتجاوز الـ12 سنة.
وفتحت المدرسة التي كان مقرها منزل والد السيدة شامة، بوفجي امحمد، قسما
داخليا للبنات القادمات من ضواحي العاصمة، كالشراقة، القبة وبئر خادم.
واستمر هذا النظام لسنوات، والقائم بشؤون إطعام البنات هما والدا شامة،
السيد امحمد بوفجي وزوجته برنية شلابي، وبلغ عدد المتمدرسات في أقل من
أسبوع فقط من بداية التسجيل 150 تلميذة.
ونتيجة لانتشار حركة التعليم وعجز المدرسة (بيت السيد بوفجي) عن استقبال
كل البنات، فكرت شامة في فتح ملحقات لمدرسة "شريفة الأعمال" في بولوغين
والشراقة وسيدي امحمد وبئر خادم والقبة والعناصر والسيدة الإفريقية.
وواصلت السيدة شامة مساعيها لتعليم البنت الجزائرية المسلمة (تحت غطاء
تعليم القرآن) إلى غاية عام 1952، عندما تفطنت سلطات الاحتلال لهذه المدرسة
فأغلقتها.
حسها الثوري وتبكيرها للجهاد
في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، أثناء تبلور المقاومة السياسية
والثقافية، لم تتأخر المرأة الجزائرية عن تسجيل حضورها وكان لها ذلك، بفضل
فتاة في بداية عقدها الثاني، هي المناضلة "العنيدة" شامة بوفجي (كما يصفها
المؤرخ محمد عباس). فقد تناولت الكلمة خلال نشاط لجمعية الشبيبة الجزائرية
بالقصبة سنة 1934 لتقول بكل عفوية: "أتمنى أن أصبح ذات يوم رائدة في مجال
نهضة المرأة بالجزائر الحرة" (أمنيتها تحققت). هذا الوعي الوطني المبكر فتح
أمامها باب سجن بربروس (سركاجي) الرهيب على مصراعيه، رغم أن سنها لم
يتجاوز يومها 12 سنة. وهو ما انبرت له فعليا بتأسيس "شريفة الأعمال" وما
أعقبه من تحديات كبرى في سبيل تعليم بنات الجزائر. (حسب دفاتر المؤرخ محمد
عباس)
وبعدما لعلع الرصاص واستعرت حرب التحرير الكبرى، بسنوات كانت السيدة
شامة قد استقرت ببرج بوعريريج، مع زوجها الشهيد محمد الصغير براهم شاوش،
ولكنها لم تتخلف عن الالتحاق بالثورة عبر العاصمة، بواسطة شبكة مختار
بوشافة، لتصبح بفضل ذلك نقطة اتصال هامة جدا بين الولايتين الثوريتين
الثالثة والرابعة.
كانت أول عملية خطيرة تقوم بها "سيدتي" شامة، تهريب شباب جزائري مجند
بثكنات العدو بناحية البرج، كما كانت تقوم بعمل مخابراتي مهم، بمراقبة
تحركات العدو ونشاط الخونة، ومتابعة سيرة الثوار في أوساط الشعب للحفاظ على
الثقة بين الجبهة والشعب، كما زج بها في سجن مجانة، إبان الثورة عقابا لها
على دعمها لإخوانها المجاهدين.
وتروي إحدى تلميذاتها بالبرج (كانت مقربة جدا منها وتقاسمها حياتها
ببيتها) أن جسد "سيدتي" مليء بآثار التعذيب بشتى أنواعه. وكثيرا ما استقبلت
الثائرة شامة ببيتها عشرات المجاهدين للتنسيق بينهم، وروى لنا بعض من
عايشوها في الثورة أنها كانت تحث النساء على مساعدة الثورة بخياطة الجوارب
للمجاهدين وجمع التبرعات، مذكرة إياهن بأن المجاهدين في الجبال والوديان
والشعاب يعانون الأمرين صيفا وشتاء، بينما هن ينعمن في بيوتهن، رغبة منها
لشحذ همة نساء منطقة البيبان.
ولم تكتف "سيدتي" بذلك، بل أهدت زوجها وابنه (ربيبها) شهيدين لوطنهما،
حيث كان زوجها سواء بالعاصمة أو بالبرج على صلة وطيدة جدا بالمجاهدين
والعمل الثوري. فلما كان بالعاصمة كثيرا ما نقل المجاهدين بسيارته من مكان
إلى مكان بكل ثقة وعزيمة، ناهيك عن تبرعه من ماله الخاص وجمع التبرعات
للمجاهدين. ولما حل ببرج بوعريريج واصل كفاحه "السري" بجمع التبرعات
واستقبال المجاهدين ببيته رفقة زوجته شامة، إلى أن ألقي القبض عليه فاستشهد
في السجن وتشير بعض الروايات والشهادات إلى أنه استشهد تحت تأثير التعذيب
الرهيب الذي مورس عليه من جلادي المستعمر، وهو نفس مآل ابنه عبد الحميد،
الذي عمل لصالح الثورة منذ عام 1956 كمسبل مهتم بتوزيع المناشير الصادرة عن
جبهة التحرير الوطني وجيشها، خاصة بمدينة برج بوعريريج، ليلقى عليه القبض
بمنزله بعد وشاية بعض الخونة، وأصبح منذ عام 1958 في عداد المفقودين، وحسب
شهادة ابنته فقد استشهد خلال ممارسة التعذيب عليه.. فرحم الله الشهداء.
اهتمامها بالمرأة ونهضتها
في سبيل تحقيق نهضة المرأة الجزائرية، لم تبخل السيدة شامة بجهد أو مال،
فبغض النظر عن تأسيس "شريفة الأعمال"، راحت ببرج بوعريريج خلال الثورة
التحريرية وبعدها تعلّم البنات والنساء في مختلف مجالات العلوم والمعرفة،
ولم تعتبر ذلك منفصلا عن تعليم المرأة فنون الطبخ والرقن على الآلة الراقنة
والخياطة. حيث فتحت نوادٍ خاصة بذلك، تمولها من مالها الخاص ومال بعض
الأثرياء بمدينة البرج، فهذه فرقة مسرحية وتلك مجموعة تتعلم الطبخ وأخرى
تسعى لتعلم اللغات الأجنبية.. وغيرها كثير.
وكانت "سيدتي" تحث على تعليم البنات وتثقيفهن تعليما سليما لا اعوجاج
فيه، وكثيرا ما آوت فتيات من خارج مدينة البرج ببيتها لسنوات طويلة، وتحملت
عبء تكاليفهن من أجل تحصيل العلم (وهن اليوم أساتذة ومديرات). ولم يكن
مبعث ذلك إلا إحساسها بمسؤوليتها تجاه بنات الجزائر، ووفاء بالعهد الذي
قطعته على نفسها وعمرها 12 سنة (أتمنى أن أصبح ذات يوم رائدة في مجال نهضة
المرأة بالجزائر الحرة). وكم هن كثيرات اللائي يتذكرن اليوم سيدتي شامة
بكثير من الدعاء والترحم ناظرين إليها نظرة الولد المحب لأمه.
صداقاتها في الجزائر وخارجها
جمعت سيدة نساء الجزائر صداقات كثيرة داخل الوطن وخارجه، مع سادة وسيدات
من مختلف الثقافات والمشارب الفكرية، حيث كان لها دور فعال في تأسيس اتحاد
النساء الجزائريات رفقة نساء من الرعيل الأول لمجاهدات الجزائر، وهو ما
جعل علاقتها ببعض المجاهدات والمثقفات وطيدة للغاية، نذكر منهن: زهور ونيسي
(مجاهدة ووزيرة سابقة)- صفية بن مهدي (مجاهدة)، جميلة بوباشا (مجاهدة
وتلميذة السيدة خضرة شقيقة شامة)، عقيلة شرقي (تلميذتها ورئيسة اتحاد
النساء لبرج بوعريريج)، أم ناصر (رئيسة مكتب ياسر عرفات ببيروت).. وأخريات
لا يسع المجال لذكرهن جميعا..
وعندما زار شيخ الأزهر متولي الشعراوي، مدينة برج بوعريريج في سبعينيات
القرن الماضي، نزل ببيت السيدة شامة وأقام ليلته هناك دون كل بيوت المدينة،
باقتراح من كثير من أعيان المدينة، نظرا لقيمة السيدة بين رجال مدينتها
ونسائها، ولأنها كانت تجيد إكرام الضيوف مهما كانت مناصبهم، ناهيك عن
ثقافتها الواسعة وتشبعها بقيم العروبة والإسلام، بعيدا عن "الحملات
التغريبية" للمرأة الجزائرية..
كما كانت للسيدة شامة رحلات كثيرة إلى بعض عواصم الدول العربية، في إطار
دورها كمؤسسة وعضو في اتحاد النساء الجزائريات، وأينما حلت أبلت البلاء
الحسن في خطاباتها المؤثرة المقنعة. وتذكر المجاهدة الوزيرة السابقة زهور
ونيسي، عن صديقتها السيدة شامة أنها كانت امرأة قوية وشجاعة، وبأنها كانت
تحس في حضرتها بالأمان، فهي مثل رجل قوي بمعطفها الطويل... (من كتاب عبر
الزهور والأشواك.. مسار امرأة).
وفاتها بعد مرض مفاجئ
بعد عقود من العطاء الفكري والجهادي وتسخير كل ما تملك خدمة للوطن
والنشء قاطبة، وبعد مشوار حافل بالإنجازات والتضحيات، بدأ نجمها يخفت
وعنفوانها ينضب، وما كان سبب ذلك تهاونا ولا تراخيا ولا تراجعا عن النهج
الذي سطرته لنفسها ووفقها فيه ربها، وإنما مرد ذلك إلى مرض مفاجئ ألم
بجسدها فلاحت على وجهها الجميل آثار ذلك، وقبل أن تسارع إلى اجتثاث ذاك
المرض كان القدر أقوى ففاضت روحها إلى بارئها منتصف شهر ماي من عام 1987 عن
عمر يناهز 65 سنة. ودفنت بمقبرة سيدي بتقة بمدينة برج بوعريريج، وشيع
جثمانها في جو مهيب بحضور شخصيات وطنية ومحلية، مخلفة وراءها أجيالا من
المتعلمين والمتعلمات وإنجازات يعجز عن تحقيقها الرجال لو اجتمعوا.
جمعية للسيدة بعد 26 سنة عن وفاتها
ظل اسم السيدة شامة على ألسنة الناس أكثر من عقدين، متذكرين خصالها
ونضالها بكثير من الحنين والحسرة على عدم انزال المرأة منزلتها الحقيقية
كمناضلة وطنية ورمز شامخ من رموز الجزائر.. إلى أن عقد شباب من برج زمورة
شمالي برج بوعريريج، العزم على إحياء مآثر المجاهدة البطلة، المعلمة
المثقفة سيدتي شامة، وإبراز دورها للأجيال الحالية والمقبلة. وكان ذلك
بتأسيس جمعية "السيدة شامة للثقافة والتراث" ربيع 2013، وهي اليوم تسعى بكل
عزم لتنفيذ ولو القليل مما كثر من أهداف الجمعية، وأولها التعريف بالسيدة
المرحومة شامة أحسن تعريف دون تحريف أو تزييف، راجين من وراء ذلك إعطاء اسم
المرأة حقه من الاهتمام، مبرزين بأن السيدة لم تنجب لا بنات ولا ولدا...
ولكنها أنجبت أجيالا للجزائر وما أدركه من وطن.