ابحث عن موضوعك في موقعي هنا

||

ترجمة/Translate

الجمعة، 31 أكتوبر 2014

جوانب من حياة شهداء عبيد الله



** ولا تحسبن الدين قتلوا في سبيل الله أمواتا. بل أحياء عند ربهم يرزقون**
جوانب من حياة الشهيد
عبيدالله يحي بن أحمد
1-البيئة التي ظهر فيها الشهيد :
كانت البيئة التي عاش فيها الشهيد كباقي نواحي الوطن تحت ظل الاحتلال من قمع واضطهاد وفقر عارم مس جميع الجزائريين.فقد نشأ الشهيد في أسرة متوسطة الحال تعيش من الفلاحة وتربية المواشي .في ظل الحصار المفروض على السكان من طرف المستعمر..عمل بالفلاحة مع والده حتى اشتد عضده.
2- ميلاده :
ولد الشهيد يحي عبيد الله بن أحمد وعروبة عبيد الله سنة 1935 بغسيرة دائرة أريس ولاية باتنة.ينتسب إلى قبيلة أولاد يحي عرش غسيرة.
3- نشأته و تعليمه :
نشأ الشهيد في أسرة متوسطة الحال تعيش من الفلاحة وتربية المواشي اللذان هما المصدران الرئيسيان للأسرة.في ظل الحصار المفروض على السكان من طرف المستعمر. تربى تربية تقليدية متواضعة .دخل المدارس القرآنية في صباه أين حفظ القران الكريم وتعلم القراءة والكتابة.عمل بالفلاحة مع والده حتى اشتد عضده.
4-حياته الاجتماعية :
تزوج الشهيد في سن مبكرة وعمره لا يتعدى 22 عاما بعد وفاة والده. من زوجة تسمى سليمان خرفية من نفس العرش.وأنجبت معه بنتا واحدة هي عبيد الله فاطمة. كان الشهيد يمتاز بالأخلاق الحسنة والإخلاص وحسن المعاملة داخل أسرته وفي وسط عرشه الذي ينتمي إليه.
5- مشاركته في الإعداد للثورة :
قبل بداية الثورة التحريرية كان مناضلا في حزب الشعب وساهم في الإعداد للثورة بكل ما كان يطلب منه.
6- التحاقه بالثورة ومسؤوليته فيها :
التحق الشهيد يحي عبيدا لله بالثورة التحريرية المباركة في سنة 1956 أين حمل الشهيد سلاحه وانظم إلى إخوانه المجاهدين
7-عملياته الجهادية :
حضر الشهيد في عدة معارك بجبل أحمرخدو بمنطقة غسيرة .ومع اندلاع الثورة المجيدة كان من السباقين في القيام بأعمال مشرفة كالحراسة ونقل البريد. ثم واصل الشهيد معاركه الجهادية بمنطقة عين مخلوف سنة 1961 بالمكان المسمى /عيسى نتسباط. وقد شهد له فيها بالشجاعة و الإقدام وذالك على لسان اللذين عايشوا معه المعركة منهم أحمد أغزال والسيدة ربعية (ربعية هاجنديث) كما استشهد مع البطل المسمى محمود بن العربي.
8- تنقلاته داخل الولاية وخارجها :
تنقل الشهيد في عدة مناطق بناحية  غسيرة .
9- استشهاده :
استشهد الشهيد عبيدا لله يحي في إحدى معارك التحرير بمنطقة عين مخلوف بالمكان المسمى عيسى نتسباط سنة 1961
رحم الله الشهيد واسكنه فسيح جناته . وقد شهد له فيها بالشجاعة و الإقدام وذالك على لسان اللذين عايشوا معه المعركة منهم أحمد أغزال والسيدة ربعية (ربعية هاجنديث) كما استشهد مع البطل المسمى محمود بن العربي.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.

!- الرواة :0
عدد من المجاهدين منهم /
عبيد الله مصطفى –مجاهد على قيد الحياة
سليمان الصالح – مجاهد على قيد الحياة




بطاقة تعريف بالشهيد عبيد الله يحي

اللقب /............................... عبيد الله
الاسم /............................... يحي
تاريخ الميلاد /....................... خلال 1935
تاريخ الالتحاق بهياكل الثورة /.....1956
قسمة /............................... غسيرة الناحية الأولى
منطقة /............................... أريس
الصفة /............................... شهيد
المسؤولية /...........................نقل البريد
تاريخ الاستشهاد /................... 1961
مكان الدفن/........................... عين مخلوف



















اقرأ المزيد

منابع "ثورية" تروي فيضان الذاكرة وعناوين الشهادة.. تــــالة مـقــر.. تاريـــخ "تحـت الضــوء"

يكتب التاريخ صفحات صانعيه مثلما يكتب أيضا صفحات خاذليه، هذه هي القاعدة الأولى المتعامل بها في ذاكرة الشعوب التي تعطي
لماضيها حقه  فتكرس به هويتها وشخصيتها الجماعية، ثم تستحضر منه الفخر والاعتزاز ليس فقط بالأسماء لكن بالقيم التي تحملها، قبل أن تمضي وتترك "شفرتها" لجيل بعده جيل، فيبحث بدوره ويمحص وينقد ليستخلص النتائج ومعها العبر....
في أحضان جرجرة، بعرش عمراوة السفلى على حافة وادي عمراوة، الذي يحمل اليوم تسمية وادي سيباو، تتربع قرية "تالة" مقر في صدر جبل أفحام بعينه الدافئة، تحتضن صفحات "ثورية" من تاريخ الجزائر الذي لطالما دوى به سجل العالم  كـ"مرجعية" لتحرر الشعوب، ولم تخذل تالة مقر التاريخ فسجلت نفسها منذ "الوميض" الأول للحركة الوطنية وقدمت أبناءها في أولى المعارك ضد الاستعمار الفرنسي بداية من تلك التي دارت في ضواحي ذراع بن خدة، التي كانت تسمى في ذلك الوقت "سوق السبت" أو "سبت الخوجة" نسبة إلى علي الخوجة، الذي تولى حكم الأتراك في المنطقة بعد تشييده لبرج سيباو سنة 1710 وأصبحت حصن الأتراك في المنطقة، ويعد هو المؤسس الفعلي لنفوذ الأتراك في منطقة القبائل، ولعل أبرز إنجازاته، إنهاء نفوذ أسرة بختوش التي تعد امتدادا لإمارة آل القاضي الشهيرة بمنطقة الزواوة إثر انتصاره على حند واعلي أوبختوش أيضا في ذراع بن خدة. وحسبما هو مدون في التاريخ، فقد ظل حوض وادي سيباو غير آهل بالسكان تستغله الأعراش المحيطة به كآث جناد وآث واقنون وآث يراثن وباقي قبائل عمراوة، وتفيد عديد المعطيات الواقعية بأن تالة مقر لم تخل من السكان منذ قرون بدليل تواجد عدد كبير من المقابر القديمة فيها وأيضا استنادا إلى الأسماء التي أطلقت على بعض المناطق والتي تشير إلى أسماء مرابطين من قبيل سيدي شعيب، سيدي سليمان وسيدي يحيى، الذي يعتقد أنه الولي الصالح الذي حدثت من أجله خلافات بين سكان المنطقة العليا بتالة مقر "شريط" نسبة إلى عائلة شريط ـ حسب إحدى الروايات ـ وسكان تالة مقر المحاذين للعين، حين ألح كل فريق على دفنه في مسجده، وفي آخر المطاف تذكر الرواية الأقرب ما تكون إلى الأسطورة أنهم وجدوا الولي الصالح في كلا المسجدين وقام كل فريق بدفنه بناحيته وانتهى بذلك النزاع. وتشير آثار الروايات إلى مقبرة في نواحي تالة نجلا (الجهة الغربية للقرية)  تسمى بوفاطمين وكانت هناك أخرى في سيدي شعيب ويرجح أن ناحية سيدي شعيب كانت مأهولة بل وتذكر بعض الشهادات الناقلة أنها كانت تجمع أقرب ما تكون لقرية (سكان مقهى..)، وأيضا في الخلوة، وتيمضلين (يعني المدفن بالقبائلية)، كما ارتبطت أسماء عدة بمكان في تالة مقر بالأعين المتواجدة بها، أو بأصحابها فمثلا نذكر تالة نجلاّ، ثالة تسكرين (عين الحجل)، ثالة أوعَمَّر (عين للملء)، تسمية "برنوسة واعلي" (والد أرزقي بن علي أوراجح) أو "زبوج عمر" منسوبة إلى صاحبيها من دار "أوراجح وبستاني". وظلت بعض الشهادات الناقلة تؤكد أنه عندما كان الناس يحفرون في بدايات القرن 20 وجدوا القرميد وآجر طيني، وكانت هذه مقبرة في مكان فوق المقبرة الحالية (سيدي سليمان) تدعى "الخلوة" وتعد هذه الأخيرة مقبرة العائلات الأولى بستاني ووانوغي ودار عثمان. وباستثناء مقبرة سيدي شعيب التي تروي فيها الشهادات الناقلة عن وباء قاتل مر بالمنطقة أتى على العديد من سكانها، فإن باقي المقابر يجهل حقيقتها ما إذا كانت مقابر عادية بمعنى طبيعية لموتى الذين استقروا بالمنطقة أم أنها نتيجة معارك مع الجيش الفرنسي عند دخوله كون المعروف أن معركة تاورقة 1871 كانت آخر حلقات المقاومة الشعبية المسلحة بالمنطقة، أو حتى مع الأتراك كون المنطقة كانت تفصل بين عروش القبائل وقبائل الزواف الموالية للأتراك وكذا على مقربة من برج سيباو العسكري الذي يتحصن به الأتراك.

سكان تالة مقر.. "توليفة" تكاملية

الظاهر من خلال الروايات السائدة حول أصول السكان وانتسابهم وهجراتهم أنهم قدموا من جهات مختلفة وأصول متباينة، وأن القرية عرفت مرور تحولات ديمغرافية وعدم استقرار في السكان لأسباب لا تنفصل عن تاريخ المنطقة وموقعها الحساس كونها تطل على الشريط الاستراتيجي للسهول الفيضية لوادي عمراوة الخصب وكذا على الخط الحدودي الفاصل بين المناطق التي تحصنت بها القبائل آخرها كنفدرالية عروش القبائل البحرية التي تضم عرش آث واقنون، عرش آث جناد وعرش إفليسن البحر (قراصنة البحر) والتي كونت جبهة صد ضد "دويلات المغرب الأوسط" (الموحدين والمرابطين) ثم ضد الأتراك وأخيرا ضد الاستعمار الفرنسي. واستنادا إلى أصول العائلات الأولى من الحقبة الأخيرة، فإن السكان الذين استقروا بالمنطقة من عائلات كراغلة أو مرابطين نظرا لسيطرة الأتراك على المنطقة، علما أن تالة مقر لا تبعد عن برج سيباو العسكري الذي أسسه علي خوجة في 1710 سوى بحوالي 7 كيلومترات  على الأكثر، كما أنها متصلة بقرية بورديم إحدى أقدم قرى القبائل السفلى، حيث تتواجد "بوابة الزواف" التي تنفذ منها قبائل الزواف (المخزن) المتعاونة مع الأتراك لجمع الضرائب من قرى ومداشر القبائل المتخذة قمم الجبال والتلال للاستقرار بها، وتسمى هذه البوابة اليوم ببوابة أعفير، كونها الطريق الذي يتخذها المسافر على الأحصنة نحو بلدة أعفير المتواجدة على طريق دلس مرورا بعين الأربعاء ثم امخلاف (مفترق الطرق). وبعد معركة تاورقة الشهيرة سنة 1871، حيث شارك عدد كبير من سكان المنطقة تحت راية الجهاد ضد الفرنسيين بعدما نقل النساء والأطفال والعجزة من معظم مدائر القبائل السفلى (المنخفضة) إلى الأربعاء ناث إيراثن، أعيد تشكيل الخارطة الديمغرافية بتالة مقر التي كان بها عدد محدود من العائلات تحسب على أصابع اليد. وتذكر المراجع التاريخية حول هذه الفترة، أن أهل المنطقة شاركوا مشاركة فعالة ونجح مجاهدو آث واقنون وبني ثور وبني سليـم، فـي محاصرة المركز العسكري الفرنسي بالمدينة لمدة شهر (17 أفريل ـ 18 ماي)، ولم يفك الفرنسـيون الحصار إلا بعد وصول إمـدادات من مدينة الجزائر بقيادة اللواء"لالمان" Lallemand، ورغم انتصار الفرنسيين فقد ظلت ذروة المقاومة متأججة في شكل تمرد قاده الشيخ محند أمزيان منصور (من بوخالفة، عرش عمراوة)، إلى أن استشهد بناحية دلس يوم 17 ماي 1877م، علما أن سكان هذه المنطقة قد تعرضوا لمصادرة أراضيهم عقب الثورة المذكورة. وحسب تاسعديث حداد زوجة اعمر أومسعود، من مواليد حوالي 1863 بقرية إحدادن بإفليسن البحرية (توفيت في 1947) وابنها الأكبر أكلي أومسعود مولود في 1882 بتالة مقر (توفي في 1917)، والتي نقل حفيدها اعمر أومسعود عنها  قولها إنها تتذكر "لما كان في عمرها حوالي 8 سنوات إلى 10 سنوات أنها شهدت ثورة 1971 ضد  فرنسا، حيث نقل الشيوخ، النساء والأطفال وغير القادرين على القتال إلى الأربعاء ناث إيراثن، وكانت هي ضمنهم، أما الرجال القادرين على حمل السلاح والقتال فاتجهوا إلى تاورقة للجهاد". وكان أولى القادمين الجدد من عرش إفليسن البحرية وقبيلة آث سعيد بآث واقنون لقربها من المنطقة وذلك عن طريق علاقة المصاهرة أو شراء الأراضي التي كانت معظمها تملكها عائلات بستاني وأوراجح (عائلة واحدة)، خليل، وانوغي وبن عثمان، ناصر باي (يرجح منهم الأصول التركية أو الكراغلة في أغلب الظن)، مزاري، ساحلي  (مرابطين) ثم عرفت في المرحلة الثانية وصول عائلات بعضها ممن اشتروا أراضي وعائلات أخرى منحت لها عن طريق المصاهرة والباقي اشتغلت لدى هذه العائلات التي تمتلك شبه إقطاعيات فعمل بعضهم كخماسين قبل أن يتحصلوا على قطع أراضي، وهذه الأخيرة من الأواخر الوافدين إلى القرية مع بداية القرن 20. ومن بين العائلات القادمة إلى تالة مقر بعد ثورة 1871، عائلة شعابني (دار علي علال) من الأصول الأولى في تالة مقر، ويرجح علاقتها بعائلة علال أحد القادة حاملي لواء الجهاد في معركة تاورقة، عائلة مهدي يرجح أنها من الأوائل، عائلة حداد (خمسة أو ستة إخوة)  قدموا من إفليسن البحرية، عائلة بوعلي من أبوعليثن (آث سعيد)، عائلة بوغروس كانت تملك قرب المسجد، عائلة نجار من إفليسن منحتهم عائلة بوغروس قطعة أرض قرب العين ليستقروا بها، عائلة مسعودي في حدود 1875 من سمغون، التي تعني بالقبائلية المنبت (آث واقنون)، عائلة  لوبشير من عطوش بعد 1880، منهم من حط ببورديم، ومنهم من فضل الاستقرار بتالة مقر، عائلة حداد من جمعة الصهاريج، عائلة أودير جاؤوا من آيت مصباح كفلاحين لدى أحمد فرحات (عائلة بستاني)، عائلة قشطولي من قبيلة إفليسن البرية، إحمادوش (حمداوي) من سمغون عمل لدى أحمد فرحات ثم لدى أحمد أومسعود قبل أن يصاهره (زوَّجهُ ابنته)، عائلة كريم من سمغون (الحاج أعمر كان ثريا)، عائلة واضح (مرابطين) من بني عنان، عائلة قاضي من زاوية سيدي علي موسى (معاتقة) من المرابطين.

الوجهة إلى تالة مقر لفض النزاعات

ولم يمض وقت كثير بعد ثورة 1871 حتى أصبحت تالة مقر ذات صيت في المنطقة من حيث سمعتها وعلاقاتها، وكانت في البداية كغيرها من قوى ومداشر المنطقة تعتمد على التنظيم السياسي والإداري المتعارف عليه بمنطقة القبائل، حيث تعتبر القرية الوحدة السياسية المعتمدة، مجلس القرية "ثاجمعت" هو السلطة المحلية المديرة لشؤون العامة، وفي تلك الفترة وخاصة بحلول القرن العشرين أصبحت تالة مقرا تفض النزاعات في المنطقة، حيث كانوا يأتون من عطوش ومن تاورقة وحتى من ميشلي (عين الحمام) ومناطق أخرى بعيدة لطرح مشاكلهم ويتم ذلك في مقهى عائلة "واضح" (عائلة مرابطة). ومن بعض القوانين السائدة في تالة مقر مثلا أن النساء يملكن الحق في الذهاب إلى العين للملء والغسل مرة في الأسبوع وذلك يوم الجمعة صباحا إلى الظهر، وتنصب الحراسة في نقاط محددة من أطراف القرية ولا شخص يملك الحق في الدخول إلى "الدشرة" إلى غاية الظهر، ويتزامن ذلك اليوم مع السوق في تيزي وزو، علما أن القرية في ذلك الوقت لم تكن متجمعة بل كانت منازل متفرقة. أما بخصوص العادات، فقد حافظت كل أسرة على ما ورثته من نسلها تحديدا في الأفراح والأعياد فمن قدم من عرش آث واقنون وإفليسن احتفظوا بعاداتهم ومن قدم من بني ثور وبني سليم أيضا احتفظوا بعاداتهم وهناك من أدمج بعضها مع بعض.

عُمر خليل أحد صانعي أرضية "حزب الشعب".. وعمار حداد "حربة" المنظمة الخاصة

ومع بروز النضال المنظم ضد الاستعمار الفرنسي، لم تتأخر تالة مقر في اللحاق بمجريات الأحداث، حيث ركبت الحركة الوطنية من رحمها وشارك عُمر خليل الذي عرف مسقط رأسه وطفولته بالقرية في تحضير الأرضية الأولى لتأسيس حزب الشعب الجزائري سنة 1937 بعدما طلب منه مصالي الحاج، لما كان بفرنسا، النزول إلى الجزائر والمساهمة في تحضير القاعدة النضالية للحزب، حيث كان لهذا الأخير مطعما بالقصبة وكان بمثابة مكتبا سريا للقاءات بين المناضلين وأصبح فيما بعد عضوا مؤثرا في اللجنة المركزية للحزب. ويعد أعمر حداد هو الآخر أحد صقور تالة مقر، حيث انضم مبكرا إلى حزب الشعب الجزائري في صائفة 1943 وبعد عامين من النشاط أصبح عضوا فاعلا وشارك في التحضير للثورة التي كان الحزب قد قرر تفجيرها ليلة 23 فيفري 1945 قبل أن يصل الأمر المضاد، وبعدها بحوالي ثلاثة أشهر شارك أعمر حداد في العملية التي نفذها عناصر حزب الشعب على الباشآغا آيت علي بتيقزيرت ومنذ ذلك الحين أصبح مطلوبا لدى العدالة الفرنسية، كما شارك أيضا في عملية بريد وهران التي أشرف عليها آيت احمد وكان أحد أبرز أبطالها رفقة سويداني بوجمعة كونهما كانا هما من اقتحما المكان وافتكا مبلغ 3.17 مليون فرنك فرنسي قديم، وأصبح يعرف بـالعيون الزرق "زيو بلو"، وتقلد عدة مسؤوليات تنظيمية بالمنطقة قبل أن يتم تسفيره إلى القاهرة رفقة محمد خيضر، ونشط خلال الثورة في التسليح والإمداد مكلفا باللوجيستيك في دائرة العقيد اعمران، وأشرف "الكومندوس" الذي كان مسؤولا على مركز طرابلس في إحدى العمليات على تهريب الذخيرة من قاعدة ويليس الأمريكية بليبيا لمدة سنة كاملة قبل أن يتفطن له الأمريكان، الذين تفاجأوا بالتخطيط والتنفيذ المحكم للعملية في 1958.

معاق صدم الإدارة الفرنسية برفضه سخاء "لا يرفض"

وفي مشهد "مشرف" لأحد أبناء تالة مقر، وهو محمد بن اعمر علي حداد، الذي كان معاقا، لكن ما في رأسه كان خارقا للعادة، وكان أيضا مناضلا حقيقيا وجزائريا أصيلا.. يعرف كيف يمشي وكيف يتكلم، مثلما يصفه أحد شاهديه، ويعتبر متمكنا نادرا آنذاك في المستوى الثقافي والدراسي..
في إحدى المرات قدم إليه "الشانبيط" من قرية زيمولا (يقال إنه كان مناضلا حقيقيا ومات في السجن) رفقة القايد أوصديق (ابحباح) الكائن مقره في ليتاما وأصله من ميشلي (عين الحمام)، في نهاية السنة، لينجز لهم التقرير السنوي كونه يتمتع بخط وتعبير لا تجده حتى عند الفرنسيين أنفسهم.. وعندما قرأ المسؤول الإداري بتيقزيرت (البلدية المختلطة بميزرانة) التقرير الذي أرسله قايد دوار سيدي نعمان، انبهر وسأل القايد: "أنت من كتب الرسالة؟" وأجابه :"لا سيدي"، .."إذن الشانبيط (الحارس البلدي)؟ " وأجابه الآخر إنه ليس هو أيضا فأخبراه بأن هناك شخصا معاقا من كتب هذه التقارير، فقام الإداري بزيارة تالة مقر وطلب رؤية اعمر بن علي حداد، فوضعوه على ظهر بغل وأحضروه إلى مقهى وسط القرية (مقهى دار الواضح)، لم يصدق الإداري لما رآه، وقال له "إذن ستعمل معي في تيقزيرت وسأمنحك فيلا ومكتب وسأكلف من يجلبك بسيارة إلى العمل ويعيدك إلى البيت"، لكن الرجل كان مفعما بالوطنية وأجابه رافضا العرض "لا، لا أستطيع"، وقام الإداري بعدها بتخصيص معاش "رمزيا" له احتراما لكفاءته.

إندلاع الثورة.. في الريادة مع الرعيل الأول

إحتضنت تالة مقر منذ بداية الجيل "الثاني" للحركة الوطنية عدة اجتماعات وضمت القرية خلايا ناشطة على عدة مستويات سواء منها التابعة للمنظمة الخاصة المعتمدة على الكفاءات النوعية، أو في الحزب الذي ضم عددا من المناضلين المتعاونين والمتعاطفين، وتذكر الشهادات التاريخية أن الخلية الناشطة بتالة مقر التي كان يقودها كل من أحمد خليل ومحمد مزيان حداد وشريف ابن سي بلقاسم الطيب، جندت أول خلية للشباب بحزب الشعب السري سنة 1952 بقيادة محمد السعيد حداد (موح السعيد واعلي) وكان من بين أعضائها المجاهد يحيى بابا علي الذي أصبح فيما بعد ضمن فرق الصاعقة الناشطة في مناطق القبائل الساحلية، وكانت القرية في النصف الأول من الخمسينيات حصنا منيعا للاجتماعات وكان يراودها كبار القياديين في حزب الشعب بمنطقة القبائل على غرار عمر بوداود، كريم بلقاسم، أعمر أوعمران، أكلي بابو، علي ربيع... وعرفت القرية تراجيديا كادت تتحول إلى "أزمة حقيقية" في حزب الشعب بعد حادثة اغتيال علي رابية، التي قيل إنها كانت بعد محاكمة وقيل إن أمر التصفية صدر من كريم بلقاسم، لكن الذريعة التي تأسست لقتله لم تكن مقنعة بالنسبة لمناضلي تالة مقر الذين قرروا الاحتجاج من خلال مقاطعتهم للاجتماعات وتوقيف الاشتراكات الشهرية إلى غاية محاسبة الفاعل والقصاص في حق المناضل ربيع علي، الذي كان يتداول بشأنه أنه خليفة بلونيس على رأس القبائل السفلى، وسرعان ما أثارت القضية قلق القيادة في العاصمة التي أرسلت مصطفى فروخي لتسوية القضية وهو ما تم بعد قبول علي لمقترحه بفتح تحقيق بشأنها، وتعود بذلك الأمور إلى مجرياتها.

عُمر حداد (عمر حمود)، محمد أمزيان حداد وأحمد خليل.. تقاسموا القيادة والشهادة

توقفت الإجتماعات التابعة لبقايا حزب الشعب الذي تحول فيما بعد إلى حزب جبهة التحرير الوطني عشية اندلاع الثورة بحوالي شهر وجاء الأمر بتجميد العمل السياسي من قبل كريم بلقاسم، وحينها كانت القيادة المحلية مسندة إلى الثنائي أحمد خليل ومحمد أمزيان حداد، حسب المصادر التاريخية بالمنطقة استنادا إلى الشهادات، ومعلوم أنه في تلك الفترة منطقة القبائل بأكملها كانت موالية لمصالي الحاج بما فيها مسؤولها الأول كريم بلقاسم وأعمر أعمران، الذي كان المسؤول المباشر للقادة في تالة مقركون منطقة القبائل السفلى كانت تحت قيادته. وعند اندلاع الثورة لم تكن الأمور مؤطرة على الصعيد التنظيمي وشارك كل من أحمد خليل ومحمد أمزيان حداد في العمليات الأولى بالمنطقة والتي استهدفت ليلة الفاتح نوفمبر مركزا للدرك في تادميت وأهداف أخرى في ذراع بن خدة وتيقزيرت، وحسب شهادة يحيى بابا علي مناضل خلية الشباب الأولى لحزب الشعب بتالة مقر، ثم ضمن فرقة الصاعقة التي كانت لها صدى كبير بمنطقة آث جناد، فإن مسؤولي التنظيم آنذاك رفضوا أن يزجوا بكل العناصر في العمليات الأولى مبقيين عليهم في "الاحتياط" وأخذوا على عاتقهم تفجير الثورة وقيادة مرحلتها الأولى. ويذكر المرحوم علي زعموم في إحدى شهاداته "بدأنا في وضع منظمة خاصة على نمط المنظمة السرية تظم أحسن المناضلين الشباب يكونون في صحة جيدة قادرين على تحمل المسؤوليات اختيروا ليكونوا الخلايا القاعدية للمنظمة والتي كان لها الدور الفعال في العمليات الأولى في الفاتح نوفمبر، وقد كانت هذه الخلايا مكونة من ثلاث أشخاص، كانت السيمة التي تميزت بها المنظمة فمثلا شخصين من عائلة واحدة ينتميان إلى خليتين مختلفتين الواحد منهما لا يعرف بأن الآخر منخرط في نفس التنظيم، وقد نفذ حكم الإعدام في كل شخص أقدم على إفشاء السر. وكانت الاجتماعات السرية تجرى بالقرب من ذراع بن خدة بحضور مسؤولي المنطقة الثالثة وكان يحضرها رابح بيطاط وقاسي عبد الله مختار اللذين كانا يلقنون صناعة القنابل، كما كان الكيميائي عبد الكريم تيجاني يعلمنا كيفية صناعة النتروغليسين، وأعطانا كل المعدات الكيميائية، وكان علينا الحصول على الصلصال الصيني وكذا زيت الخروع، ملح البارود، وكل هذا لصناعة القنابل". ويعتبر كل من أحمد خليل، عمر حداد المدعو "عمر حمود" ومحمد مزيان خليل من أبرز القيادات في الناحية الثالثة، حيث تقاسم الثلاثي القيادة برتبة "مساعد" adjudant وكان عمر حمود قائدا "عملياتيا" بمقاييس "كارزماتية" نادرة، مثلما يشهد له معاصروه، وكان نموذجا للصرامة والعدل، وتذكر له حادثة تنفيذ القصاص على أخيه الذي ثبت ضلوعه في مقتل رجل من القرية بعد خصام بينهما، فما كان له إلا وأن طلب الجاني أو لو كان شقيقه، ليظهر أن أخاه فعلا وراء مقتل الرجل (من تالة مقر هو الآخر)، فلم يتوان في تنفيذ القصاص في شقيقه شخصيا، وهو في حالة نفسية لا يحسد عليها، وذلك بعد استنفاذ طرق وسائل طلب التنازل وعدم رضا أهل الضحية بالعفو، وهذا مشهد قلما يحدث. وقد تولى عُمر حداد (عمر حمود) قيادة فرقة لعناصر جيش التحرير الوطني  بالقطاع الثالث من الناحية الثالثة (دوار سيدي نعمان)، تتكون الفرقة من ثلاثة أفواج أي ما يعادل 35 عنصرا ويضم كل فوج  11 عنصرا يقوده ضابط برتبة "عريف" Sergent ، واستشهد عمر حداد في معركة بطولية بتاورقة وهو يؤمر بالانسحاب لعناصره أمام الجيش الفرنسي وبأقل الخسائر. ومن جهته، تولى أحمد خليل القيادة السياسية (مساعد (adjudant وعرف أيضا بـ"الحقيبة والرشاش"، ويشهد لهذا الأخير دهاء وفطنة مرهفة خارقة للعادة، حيث كان ينشط بمفرده في المعاقل ولا يدع مجالا للسقوط في أيدي القوات الفرنسية، بما يصور حقيقة الوعي السياسي وإدراكه "حجم" الحقيبة السياسية الملقاة على عاتقه في التنظيم الثوري، علما أن الرجل من الرعيل الأول للحركة الوطنية في جيلها الثاني ويرجح أنه انخرط في حزب الشعب 1942 أو 1943، وكان أحمد خليل الرقم 1 المبحوث عنه في تالة مقر لدى القوات الفرنسية، وارتبط أيضا الرجل بحسه المرهف للحوادث فكان على إطلاع بكل ما يجري في القرية، فكان ينزل في بعض الأحيان ليلا إلى منزل أفراد ينتظرهم المصير الأسود في اليوم الموالي وكان له أن أنقذ شخصا من انتقام أحد "وسطاء" فرنسا ومنحه 5 آلاف فرنك ليغادر الجزائر مطمئنا إياه على عائلته "ما سيتغذى به أولادي، سيتغذى به أولادك"، ولم تتمكن فرنسا رغم جهودها من الوصول إليه إلا ميتا بعد سقوطه من مرتفع محاذي لشلال وادي "غرغور" في الجهة الغربية لتالة مقر. ويمثل محمد مزيان حداد هو الآخر عنصرا من الرعيل الأول للحركة الوطنية ويرجح انخراطه في حزب الشعب في الفترة نفسها رفقة أحمد خليل أو قد يفصل بينهما عام على الأكثر وعرف الرجل بشجاعته وقدرته على التنظيم والقيادة والمعروف عنه أنه لا يفارق سلاحه "الأرباعي" (Mausqueton) ويحمل هو الآخر رتبة مساعد adjudant.

صقور تالة مقر يُلقنّون الفرنسيين "أخلاقيات الحرب"

شهدت تالة مقر خلال فترة حرب التحرير محطات عسيرة، حيث تحولت منذ 1956 إلى محتشد حول إليه السكان الذين تم إسكانهم في مشاتي في مكان واحد وتسييجهم بالأسلاك الشائكة بهدف عزل الثورة، وأقام الجيش الفرنسي مركزا له وسط السكان حتى يحتموا من ضربات الثوار، ويعرف المركز بـ"poste1 ". ومع بداية الثورة تذكر الشهادات التاريخية أن الفرنسيين اتخذوا من  "مقر حرس الغابة "dar el garde معسكرا لهم قبل أن ينتقلوا إلى المخرج الغربي للقرية (صفصافة)، حيث نصبوا الخيام لكنهم سرعان ما أصبحوا يتلقون الضربات تلوى الأخرى ويسمى ذلك المكان بـ"آزكا تروميث" (مقبرة الفرنسية)، لينتلقوا بعدها إلى وسط القرية، حيث احتموا بالسكان بعد إقامتهم في محتشد مطوق بأسلاك شائكة. وتذكر الشهادات أيضا كيف تمكن عناصر جيش التحرير ببراعة من إسقاط مروحية بعد قصفها بقذيفة من معاقل أفحام التي شكلت جدارا مقابلا للطائرات المحلقة بحيث كانت أشبه بمنصة قصف مضادة للطائرات، وسقطت هذه المروحية في الجانب الشرقي للمحتشد على بعد لا يتعدى عشرات الأمتار من السكان. ولعل أشهر المعارك الدائرة بالمنطقة هي معركة أفحام ومعركة "معسّل" 1960 التي وظفت فيها قوات الاستعمار الفرنسي "ترسانة" من طائراتها وذخائرها، حيث ظلت تقصف المعاقل التي كان مجاهدوا جيش التحرير يرابطون بها واستمرت المعركة يوما كاملا، من نجا منها لم يكن ليصدق. لكن أبرز المحطات التي بقيت عالقة في تاريخ القرية وأذهان سكان المنطقة هي العملية "النوعية" التي قام فيها عناصر "فذة" من شباب جيش التحرير أمثال علي بن أحسن ويدير المدعو "علي ناحسن" وسعيد بن جوزي، الذين أذلوا الجيش الفرنسي وطعنوا السلطات الاستعمارية بجرأتهم واحترافيتهم في التخطيط والتنفيذ ومرغوا بكبريائها، حيث تذكر رواية الواقعة أنهم ترصدوا بالقوات الفرنسية ليلة أعياد الميلاد المسيحية التي علموا مسبقا أن الفرنسيين سيحتفلون بها "مخمورين"، وبالتعاون مع بعض من الجزائريين في صف المجندين مع فرنسا، تم تنظيم العملية التي بموجبها تم تجريد ثكنتين من الأسلحة والمعدات العسكرية مثل الساعات والمناظير في ليلة واحدة، وأمر قائد العملية بعدم التعرض للجنود الفرنسيين في نومهم، وعدم تجريد ملازمهم الأول من سلاحه احتراما لرتبته العسكرية، وكان هذا التخطيط "تكتيكي"، وحتى أن القائم على العملية لما رصد فرقة "كومندوس" من فرقة الصاعقة تشحذ خناجرها، رفض تقدمهم وطالبهم بالانصراف فورا، حسب رواية أحد عناصر "فرقة الصاعقة" يحيى بابا علي، وذلك ما حدث بعد إصراره، وفي الصباح الموالي صدم الفرنسيون لما حدث وعزموا على الانتقام من سكان القرية كونهم أيقنوا أنه المؤكد أن تكون لهم اليد الطولى في العملية، لكن الملازم الذي أبقوا على سلاحه حذر من أن يقترب أحد من عائلات الثوار، قائلا لهم "سأحترم أهاليهم مثلما احترموا رتبتي".

أسْر العريف فوشيي وتهريبه إلى غابة ميزرانة

وفي أوائل الستينيات، تمكن المجاهدون من عناصر جيش التحرير المرابطين بأفحام من أسر العريف فوشيي بعدما نصبوا له كمينا أثناء قيامه بدورية روتينية بمسالك تالة مقر وضواحيها لرصد تواجد "الفلاقة"، مثلما يذكره زميله العريف ميتيفييه في كتابه باللغة الفرنسية الذي يحمل عنوان  "تالة مقر"، وتمكن عناصر جيش التحرير من تنفيذ عمليتهم والفرار بأسيرهم إلى غابة ميزرانة رغم عمليات التمشيط الواسعة التي شنها الجيش الفرنسي ورغم استدعائه قوات إضافية من المراكز والمجاورة، وحسب التقارير التي لحقت بقضية فوشيي فإن هذا الأخير كان تستخدمه عناصر جيش التحرير في رقن وتحرير الوثائق تحت حراسة مشددة بغابة ميزرانة إلى حين لقي مصرعه على إثر قصف طائرات الاستعمار الفرنسي للمخبأ الذي كان يتواجد به في إحدى غاراتها بالمنطقة، وقد خلفت حادثة أسر فوشييه لدى الفرنسيين أثرا نفسيا عميقا جعلهم يرون أشباح الثوار في الظلال.

الجيش الفرنسي يعدم 9 شهداء فضلوا الموت على حمل سلاح الخيانة

لم تتوان تالة مقر خلال ثورة التحرير في تقديم أبنائها كعناوين للشهادة في سبيل الله والوطن والعرض والشرف، فبغض النظر عمن حمل السلاح في الجبال أو انخراط في فديرالية جبهة التحرير بالمهجر ومن كان خلف الإمداد والتسليح، ضرب سكان القرية المدنيون على من بقي منهم من أطفال ونساء ومسنين أروع الأمثلة في النضال، فكان الأطفال يقومون بنقل "الأمانة" إلى الثوار ويرصدون تحركات الجنود الفرنسيين بالقرية والمراهقين يتعاونون بشكل مطلق مع المجاهدين وبعض من العائلات من تفضل تحييد الصغار عن هذه المهام، حيث يقول أحد أبناء القرية إنه وقتها لم يكن يعلم بوجود مخبأ تحت أرضية بيتهم. وفي محطة أخرى، أقدم الجنود الفرنسيين في حدود منتصف عمر الثورة على جر حوالي تسعة أو عشرة أشخاص من ثمانية منهم من عائلة واحدة وهي عائلة حداد، التي كان أفرادها في طليعة الحركة الوطنية ثم ثورة التحرير، وخيرتهم بين حمل السلاح إلى جانب فرنسا أو الموت على يدها، وعند رفضهم قامت بإخراجهم من بيوتهم إلى مدخل الغابة لتعدمهم وتضع أمام كل واحد منهم سيجارة حتى توهم الناس أن المجاهدين هم من نفذوا فيهم حكم الإعدام بسبب التدخين.

اقرأ المزيد

ولاية برج بوعريريج كان يحيط بها جدار به أربع أبواب في العهد الاستعماري أرقى الأحياء بها للفرنسيين وأفقرها للجزائريين

المجاهد محمد خيار المولود سنة 1936 بحي 1 نوفمبر وسط ولاية برج بوعريريج والمعروف شعبيا باسم الجباس، من المجاهدين والفدائيين
الأوائل بولاية برج بوعريريج، قضى أكثر من 33 سنة في صفوف الجيش، حيث كان جنديا وعضوا بجيش التحرير الوطني من 1956 إلى غاية 1962، التحق بالجيش الوطني الشعبي سنة 1963 وأحيل على التقاعد سنة 1987، منخرط منذ أكثر من 20 سنة بالمنظمة الولائية لأبناء المجاهدين وهو حاليا نائب مكلف بالإعلام والثقافة.
عمي محمد تحدث عن الأوضاع التي كانت عليها ولاية برج بوعريريج خلال الحقبة الاستعمارية، وكذا حال الجزائريين وظروفهم المعيشية الصعبة التي كانوا يتخبطون فيها، حيث أكد أن ولاية البرج آنذاك كان يحيط بها جدار من كل الجهات بغية التضييق على الجزائريين ومنع أي محاولات أو تنظيمات عسكرية تجاه المستعمر الغاشم، هذا الجدار به أربع أبواب، الباب الأول كان في مكان مركز الشرطة الحالي وكان يسمى باب سطيف وفي الجهة الجنوبية كان هناك باب ثاني يسمى باب المسيلة، بالإضافة إلى الجهة الغربية أين كان يوجد الباب الثالث والذي كان يسمى باب الجزائر، أما الباب الرابع فقد أطلق عليه اسم باب زمورة الذي كان متواجدا بمتحف المجاهد حاليا، حيث كان خلال الاستعمار مركزا للتعذيب ومقرا للقوات الفرنسية، عمي محمد أكد أن الأوضاع داخل ولاية برج بوعريريج خلال الاستعمار كانت صعبة جدا خاصة بعد اندلاع الثورة التحريرية التي لم تصل إلى ولاية برج بوعريريج سنة 1954 بسبب عدم التحاق مسؤول الناحية آنذاك، بل وصلت مع أوائل سنة 1955، حيث كانت البداية بالخونة والحركى، مؤكدا صعوبة القيام بأي محاولات عسكرية أو عمليات فدائية بالنظر للأوضاع التي كانت تعرفها الولاية وبالأخص الجدار الذي كان يحيط بها، إذ كانت تقوم السلطات الفرنسية بمجرد حدوث أي شيء بغلق الأبواب الأربعة والقيام بعمليات تفتيش وتمشيط واسعة من أجل القبض على المجاهدين وأسرهم وتعذيبهم، وبالرغم من كل هذا، أكد محدثنا بأنهم كانوا ينسقون فيما بينهم ويقومون بعمليات عسكرية ويخفون أسلحتهم فيما بعد بأماكن خفية يصعب الوصول إليها، إلى أن جاءت سنة 1956 أين قاموا بفتح مخرجين على مستوى الجدار من أجل مباغتة المستعمر والهروب فيما بعد.
أما فيما يخص الأحياء التي كان يقطنها الجزائريون إبان الاستعمار، فقد أكد المجاهد محمد خيار بأنها من بين أقدم الأحياء وأكثرها فقرا وتفتقد لأبسط متطلبات الحياة الأساسية على غرار كل من حي دوار السوق ودوار الجباس، وحي الكوشة ولقراف وهي أحياء تحتوي على منازل مبنية بالطوب وغير لائقة تعرف انتشارا رهيبا للأوساخ بسبب غياب قنوات الصرف الصحي، كما تحتوي على منبع واحد خاص بالماء الشروب يعرف توافد الآلاف من المواطنين من أجل التزود بالمياه، حيث أكد بأن الجزائريين خلال الاستعمار عاشوا على حد تعبيره "الميزيرية" الحقيقية التي تذوقوا من خلالها طعم المعاناة وقسوة الفقر وسوء المعاملة، في الوقت الذي كان يقطن فيه الفرنسيون بأرقى الأحياء على مستوى الولاية آنذاك على غرار كل من حي الفيبور وبومرشي ولقار وينعمون فيها بكل سبل الراحة.
المجاهد تشبوبت محمد أمزيان المعروف ثوريا بـ "بوحو"
المجاهد تشبوبت محمد امزيان من مواليد منطقة أولاد سيدي إبراهيم ببرج بوعريريج، انخرط في صفوف جيش التحرير سنة 1956 ومارس جهاده كجندي في العديد من مناطق الولاية على غرار كل من منطقة ملوزة وبني يلمان والخرابشة وزرارقة وأولاد عبد الله والدريعات وكان معروفا ثوريا باسم بوحو، انتقل سنة 1959 للشرق الجزائري رفقة العديد من المجاهدين وبقي بالولاية الثانية بجبل سرج الغول إلى غاية توقيف القتال سنة 1962، انخرط بالمنظمة الوطنية لأبناء المجاهدين سنة 1964 وهو الآن مندوب المنظمة الولائية لأبناء المجاهدين بناحية بلدية المنصورة، المجاهد بوحو أكد من خلال حديثه الأوضاع المعيشية الصعبة التي كان يعيشها الجزائريون إبان الحقبة الاستعمارية والتي كان يطبعها الاضطهاد والظلم والحقرة والتهميش وذلك على عكس ما كانت تعيشه العائلات الفرنسية القاطنة بالجزائر، مؤكدا في السياق ذاته بأنه بالرغم من كل الظروف الصعبة هذه التي عاشوها، إلا أن إصرارهم بغية طرد المستعمر الغاشم واسترداد الاستقلال كانت أقوى من أن تقهر وتندثر والدليل على ذلك على حد تعبيره هو الاستقلال الذي ينعم به أبناء الجزائر حاليا.

اقرأ المزيد

ديغول - مدني شروك.. اللقاء الزلزال: "نريد الاستقلال يا جنرال... نريد أن نكون أحرارا"

بينما الحرب مشتعلة والأجواء ملتهبة بالولاية التاريخية الثالثة، وانطلاق عملية المنظار للجيش الفرنسي بالقبائل الكبرى، وبعد أشهر عن
استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس بجبل ثامر (المسيلة)، نزل الجنرال ديغول، "ضيفا ثقيلا"، استقبله أهالي زمورة وضواحيها بالإكراه والقوة، ذات جمعة 28 أوت 1959، قادما على متن طائرة مروحية عسكرية (banane)، حيث حطت به في منطقة ڤرياسين، ومنها استقل مروحية صغيرة (alouette ll) ليصل حيث الحشود المغلوب على أمرها تنتظر قدومه بأرض "الثنية الحمراء" التي تحتضن اليوم مقبرة الشهداء.
وتذكر التقارير الفرنسية وبعض المقالات المرتبطة بملف الزيارة عموما - التي قادت ديغول، في نفس الرحلة إلى سعيدة والأصنام ومتيجة وجبال المعاضيد وتبسة وتيزي وزو وتلاغمة وبرج بوعريريج- أن منقذ فرنسا من مخالب النازية الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، ارتأى زيارة المناطق الأكثر حساسية أمنيا، منها منطقة زمورة، ملقيا خطابا على جنرالاته وضباطه الذين التفوا حوله: "أنتم هنا من أجل فرنسا... أقدر مجهوداتكم الجبارة والمستحقة، كما أدرك كل التحديات الصعبة التي مررتم ومازلتم تمرون بها... لهذا سنضع السلام".
وفي خطابه للأهالي الذين جيء بهم من كل حدب وصوب، قال: "إنني أسعى لتعميم مشروع السلم (سلم الشجعان)، وقريبا ستختارون مصيركم بأيديكم من أجل حياة جديدة أفضل".
بعد اجتماعه بضباطه وخطابه إليهم، وقبله خطابه للحشود الحاضرة، طلب الجنرال ديغول ملاقاة رئيس بلدية زمورة، شروك مدني، وجها لوجه وعلى انفراد تحت خيمة عسكرية نصّبت ليستريح الجنرال تحتها.
لم يكن الحوار (السري) بين ديغول وشروك عاديا، بل شكل ما يشبه "زلزالا" في منظور مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، للحرب في الجزائر، خاصة وأن رئيس البلدية عرف بشجاعته وجرأته، كما قيل عنه الكثير بشأن مساعدته للمجاهدين والمسبلين قبل وأثناء إدارته شؤون البلدية، تحت إشراف الفرقة الإدارية المتخصصة (sas).
وحسب أحد أقرباء أول رئيس بلدية في تاريخ زمورة، أن "المير" روى لهم بالتفصيل أسرار لقائه بديغول وما جرى بينهما من حديث. ومن جملة ما كان من حديث بينهما في المقابلة التاريخية السرية، أن الجنرال الفرنسي سأل "المير": "ماذا يريد الشعب هنا يا ترى؟"، فرد شروك: "السلم والخبز أيها الجنرال؟"، فأضاف الجنرال: "كلنا نبحث عن السلم، فأي سلم تريدون؟"، صمت "المير" وخشي مصارحة الجنرال بما يضمره في نفسه، وبدت على ملامح وجهه علامات الارتباك والحرج (رغم جرأته وشجاعته)، كيف لا وهو يقابل زعيما عالميا يشهد له العالم بفضله على فرنسا وأوروبا. ولما رأى ديغول ما أحدثه سؤاله من ارتباك لدى "المير"، طمأنه: "أجب عن سؤالي بنيّ ولا تخشى شيئا، لأنني أريد معرفة ما تفكرون به وما ترغبونه".. فرد شروك بكل ثقة: "نريد الاستقلال يا جنرال... نريد أن نكون أحرارا في قراراتنا وأن نعيش في سلام على أرضنا...".
لم يصدق ديغول ما سمعه من رئيس البلدية وأحدث ذلك زلزالا في فكره، ونهجه المتبع في "الجزائر فرنسية"، غير أنه أقر لـ "المير" بأنه سيغيّر سياسته في الجزائر، وبأنه لا مناص من أن يدع الجزائريين يختارون مصيرهم بأيديهم.
وبعد عودة الجنرال إلى باريس، وبتاريخ 16 سبتمبر 1959 أطل في خطاب تلفزيوني (روّع بعض الجنرالات والمعمرين بالجزائر) ليقر بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وهو ما أطلق عليه بخطاب تقرير المصير.

اقرأ المزيد

واقعها لم يتغير منذ 1962: أحياء الحقبة الاستعمارية تنتظر الفرج.. قصور القصبة مهد الثورة: تحف معمارية عرضة للاهمال


ما الذي تغير في الأحياء الشعبية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية؟ سؤال جدير بالطرح في الوقت الذي تباشر فيه السلطات عملية ترحيل
واسعة، تمس أساسا سكان القصدير، وتستثني من قضوا نحبهم في بيوت شيدها الاستعمار وتكاد تسقط على رؤوسهم.
عدا بعض الأجزاء من "الجزائر القديمة" كشارعي ديدوش مراد، "ميشلي" سابقا، والعربي بن مهيدي "ديزلي" سابقا، التي ما تزال فيها العمارات تقاوم الزمان وبلغت أسعارها في سوق العقار مستويات مذهلة لوقوعها بقلب العاصمة، تعرف باقي الأحياء الشعبية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، وضعا يزداد سوءا فواقع سكانها لم يتغير منذ 1962، بل زاد تدهورا بفعل قدم البنايات التي تهدد الكثير منها بالانهيار.
ديار الشمس الاستثناء
ما يزال الآلاف من الجزائريين يقطنون في عمارات موروثة عن الاستعمار، كان يسكنها مستوطنون وانتقلت ملكيتها بعد استقلال البلاد إلى جزائريين، غير أنه بعد مرور عشرات السنين، صارت هذه المساكن لا توفر شروط العيش الكريم، وقد تم هدمها وترحيل سكانها، عدا عمارات ديار الشمس، التي شيدت إبان الاستعمار لإيواء العمال الذين أوتي بهم في مختلف المشاريع أثناء الاستعمار، وصارت بعدها تأوي عائلات جزائرية برمتها، انتفضت على مراحل لتستفيد من الترحيل منذ فترة قصيرة.
أما البقية فما يزالون يقبعون في مساكن العهد الفرنسي، وفي هذا الإطار يصعب تحديد حجم الحظيرة العقارية الموروثة من أيام التواجد الفرنسي، حيث يجب أن تضاف إليها المساكن الفردية المترامية عبر مختلف شوارع العاصمة وباقي المدن الجزائرية.
ففي العاصمة، كل الأحياء الشعبية تم تشييد أغلب بناياتها أيام التواجد الفرنسي، مثل أحياء حسين داي، محمد بلوزداد بلكور سابقا، باب الوادي، الحراش، القبة. ففي حي بروسات مثلا أين توجد أربع عمارات تأوي كل واحدة منها أكثر من 3 عائلات، تم تشييدها سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، نفس الشيء ببلكور.
بلكور وباب الوادي الأكثر تضررا
وإن كان وضع هذه العمارات في بعض الأحياء مقبولا نوعا ما، يبقى الأمر مخالفا في أخرى، فمثلا شارع محمد بلوزداد أو بلكور يعج بعمارات تهدد بالانهيار، فمنذ سنة تقريبا أو أقل انهارت عمارة وأدى الحادث إلى وفاة امرأة، ويقول أحد السكان "الوضع خطير جدا، فأغلب العمارات التي تشاهدونها مهترئة ويعود تاريخ تشييد بعضها لأكثر من مائة سنة ورغم هذا فلم يستفد السكان من الترحيل طيلة هذه الفترة، أي منذ الاستقلال، رغم الأخطار".
نفس الشيء بحي باب الوادي، أين تعرف العديد من العمارات "الاستعمارية" وضعا خطيرا، والدليل تضرر الكثير منها أثناء الزلزال الأخير الذي ضرب العاصمة، ونفس الشيء بالبلدية المجاورة، بولوغين.
السنين ليست المسؤول الوحيد عن هذا الوضع، بل أيضا انعدام الصيانة على مستوى هذه العمارات، فيقول أحد ممن تحدثنا إليهم "المسؤولية متقاسمة، فالصيانة أمر مهم بالنسبة لأية بناية، واضرب لكم مثلا بسيطا، نجد أن بعض العمارات مثلا في شارع ديدوش مراد، ما تزال فيها المصاعد القديمة تشتغل، في حين أنه في أحياء شعبية مثل حسين داي أو باب الوادي، فإنها تحولت إلى مساكن".
فتحويل سطوح الكثير من هذه العمارات وأقبيتها وحجر المصاعد إلى مساكن، ساهم بنسبة كبيرة في تدهور وضعها وتحولها لقنابل موقوتة.
وفي سياق آخر، وإن كان حي القصبة العتيق ليس موروثا من الحقبة الفرنسية، بل العثمانية، يمكن التساؤل والتحسر أنه بعد كل هذه السنين ما يزال يقطن فيها مئات العائلات الجزائرية، في الوقت الذي كان يمكن تحويله لحي سياحي وثقافي بامتياز، غير أن تفكير السلطات منذ الاستقلال لم يتجه نحو هذا الاتجاه على الإطلاق.

اقرأ المزيد

في ضيافة المجاهدة "بوقمبور خديجة" المدعوة (فريدة) يوميات أليمة يحذوها الأمل بالاستقلال بين جبال الشاوية مجاهدات تقاسمن الآلام والآمال.. الممرضة التي عالجت المجاهدين وأسعفت المصابين


برحابة صدر، وبقلب وسع حب كل الجزائر، استقبلتنا المجاهدة بوقمبور خديجة المدعوة "فريدة" في منزلها، لتروي لنا قصة كفاح ونضال
قادتها لسفوح الجبال ومغاراتها، تداوي الجرحى وتسعف المصابين، فعاشت بين الأحراش وتناولت الحشائش و(البلوط) رغم حداثة سنها الذي لم يتجاوز الـ15 سنة عند التحاقها بالجبل، بعد أن ساعدت المجاهدين وكتمت أسرارهم في منطقتها التي جعلها المستعمر منطقة محرمة.
نشأت المجاهدة خديجة بوقمبور بالناحية العسكرية الثانية بالضبط في دائرة العنصر التابعة لولاية جيجل، في أسرة كبيرة تعمل بالزراعة شأنها شأن الكثير من العائلات الجزائرية آنذاك، عادت المجاهدة في بداية لقائنا إلى سنوات طفولتها، حيث تربت المجاهدة بوقمبور في أسرة كبيرة أغلبها مجاهدون فترعرعت على حب الوطن وكره المستعمر الذي أخذ من عائلتها كل ما تملك، كما تسبب في إصابة والدتها واستشهاد الكثير ممن تحبهم.

تربية ثورية وتاريخ منطقة مجاهدة

تحدثت المجاهدة عن تاريخ أسرتها الثوري ومنطقتها التي كانت خير داعم للثورة التحريرية، خاصة وأن المنطقة كانت تمتلك الكثير من الخيرات والأراضي الزراعية، إضافة لتأخر وصول المستعمر الفرنسي لها، فقامت عائلتها وكامل (العرش) الذي تنتمي إليه بتوفير الغذاء والمأكل للثوار، فنشأت المجاهدة على معنى الثورة والشجاعة والإقدام، فلم تكن تخشى رؤية الجنود الذين صاروا يحومون حول المنطقة بعد أن بدأت القوات الاستعمارية بإنشاء ثكناتها العسكرية قرب منطقتها قصد مراقبة الوضع عن قريب، وهو ما بدأ يصعب من الاتصال بين المجاهدين والثوار.

إنشاء المنطقة المحرمة.. منعرج حاسم في حياة المجاهدة

بعد إضراب الثمانية أيام الذي شارك فيه أهلها، قامت القوات الاستعمارية بأكبر عملية تمشيط واسعة لمدة 15 سنة شملت الشمال القسنطيني، الغرض منه عزل الشعب عن الثورة، وأخذه للعيش في محتشدات تراقبهم فيها القوات الاستعمارية، من أجل قطع المساعدات والدعم عن جنود جيش التحرير الوطني، "أحرقت فرنسا أراضينا وأصيبت والدتي واستشهد الكثير من أفراد عائلتي، لم نعد نملك شيئا، لقد حاولوا قتلنا بأبشع الطرق، بحرق أغنامنا وأبقارنا في شهر جويلية داخل الاسطبل حتى نموت خنقا بتلك الرائحة بعد أن كنا من أغنى المناطق وأكثرها دعما للثورة، كل هذا عشته وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري".

"الجيش الفرنسي لم يقدر على مقاومة المجاهدين فحارب الشعب"

المنطقة المحرمة لم تكن فيها حياة، ودون مقدمات حتى نجد الطائرات تقصف بشكل عشوائي وما زال صوتها في أذني إلى غاية اليوم "بقيت في المنطقة المحرمة منذ 1956 إلى غاية 1958 كشعبية وفي سنة 1958 قال ضباط جيش التحرير الوطني إن من لديه مكان يذهب إليه فليفعل لأن الحياة استحالت في المنطقة المحرمة وبما أن عائلتي كانت لديها أملاك في منطقة ميلة ذهبنا إلى هناك، والذكريات السوداء تملأ ذاكرتي".

... الرحيل إلى ميلة وبداية النضال .. القادمون من المنطقة المحرمة تحت رقابة الجنود والحركى

ذهبنا لميلة وعشنا داخل مراكز خاصة، وكانت ميلة معروفة برموز الثورة، ما جعلها مكروهة لدى فرنسا، فقاموا بجلب الحركى والبياعين كما كان دخولنا وخروجنا إلى هناك بوصل يقدمه لنا المسؤول الذي عينته فرنسا، وكانت الحكومة الاستعمارية تسجل كل ساكن جديد، فقد قام والدي بتسجيلنا لديهم، وعندما علموا أننا جئنا من المنطقة المحرمة صاروا يكرهوننا ويقومون بمراقبتنا حتى أنهم كثيرا ما كانوا يجيئوننا ليلا للتفتيش، رغم أننا كنا نسكن في منزل صغير، إضافة إلى أن الثكنة تطل على فنائه، كانوا يشتموننا ويهينوننا وكانوا يقولون كلاما بذيئا لأنهم يعلمون أننا نفهم الفرنسية، كما كان الجنود يتعمدون لمس الفتيات لعلمهم أن الجزائري لا يقبل هذه التصرفات، كل هذا بعد أن أفهمهم "الحركى" أن الجزائري لديه الكرامة و"النيف".

خديجة بوقمبور .. مواصفات طفلة تحتاجها الثورة

في ميلة لم تتمكن النساء من النضال، فصعدن إلى الجبل لأنهن كن من عائلات معروفة، وأصبح المجاهدون بحاجة لمن يساعدهم شرط أن يكون عارفا بطرقات ميلة وقراءة الأرقام ولديه ملامح أجنبية ليتمكن من الحركة والمرور دون أن يثير الشبهات، وكنت الشخص المناسب وعمري تجاوز الرابعة عشر بخمسة أشهر، وبدأت بالتحرك بعد أن أخبرني والدي ودون علم أمي بالمهمة التي أوكلت لي، وصرت أنقل الأخبار للمجاهدين وأتنقل بين البيوت دون أن ينتبه لي جنود الاحتلال، وكانت هذه بداية نضالي مع الجيش السري.

"لازم تعاوني الخاوة وقريب تطلعي للجبل" قالها الأب ونفذتها الابنة

جاءت امرأة تدعى بومعزة فاطمة إلى ميلة، لا أدري من أين أصلها وكانت تعمل ممرضة في مستشفى فرنسي وتقوم بالتجول بين البيوت، وكانت تشك فينا بعدما علمت أن أمي مصابة وأن إصابتها كانت في المنطقة المحرمة، فصارت تشدد مراقبتها وأحسسنا بذلك، وبما أنني كنت كبيرة العائلة و"الحركى" بدأوا يشكون بي، قال لي أبي "قريب تطلعي للجبل"، وبعدما علم المجاهدون بهذه المرأة أرادوا قتلها وقبل ذلك أمروها بجلب السلاح، واختاروني لأذهب إليها وأعلمها بأمر المجاهدين.
كنت أتلقى التعليمات من فدائي اسمه شبوب رشيد عمره 17 سنة الذي استشهد ونكل بجسمه من أجل تخويفنا، هذا الشهيد الذي كنت أعمل معه إضافة إلى نساء مجاهدات أخريات خاصة الشهيدة عائشة لكحل التي كانت مسؤولة الدوار التي كانت متزوجة ولديها 3 أبناء، كنت أزورها وأتلقى التعليمات من عندها، هذه المرأة شجاعة.

... نقلت الأخبار للمجاهدين في العاشرة وصعدت للجبل في الخامسة عشرة

وفي أحد الأيام ذهبت للأخت عائشة وبدأت تشرح لي التعليمات وكيفية تنفيذها وفي ذلك اليوم لبست ثيابا بالية وذهبت إليها، وكان زوج أختها أكبر حركي في ميلة وكنا نتخوف منه، عندما ذهبت إليها كانت حضرت الخبز وكانت رفقة أختها زوجة الحركي، فتعاملت معي على أساس أنني متسولة وبصوت عالي حتى يسمع زوجها، وأعطتني الخبز ومعه الرصاص و وضعت لي الفلفل الأكحل حتى لا يشم الكلاب رائحة السلاح.

"الحركى" أخبروا العساكر عني والمرأة النفساء أنقذتني

وعندما كنت خارجة، سمعت العساكر وصوت جريهم، فوضعت احتمالين، إما أختها أخبرت عني أو زوج أختها اكتشف أمري وفي كلتا الحالتين يجب أن أهرب، وكانت التعليمات أن أدخل أول بيت أجد بابه مفتوحا، وفعلا جريت وكنت أشعر أنني لا أجري ودخلت أول بيت وجدت فيه امرأة نفساء اسمها سكينة بالعتروس مع رضيعها، فأخفتني تحت الخزانة وكنت أشاهد أحذيتهم وهم يتجولون في البيت، وكلما حاولوا فتح الخزانة تقوم سكينة بوخز الرضيع فيبكي بشدة، فغضب الجنود وشتموها، ثم خرجت من عندها وأنا أعلم الطريق التي ينبغي أن أقطعها جريت لمسافة 3 كيلومترات دون توقف، وعندما وصلت عند إحدى الأخوات التي تعودت العمل معها أعطتني اللبن والكسرة وقامت بقص شعري وقالت لي المكان الذي ستذهبين إليه لا يناسبه الشعر الطويل.

الليلة الأولى في الجبل.. بكاء وخوف من المجهول.. حينما قال لي المسؤول "حنا عايلتك"

وجاء المجاهد عمي النوار على بغله، وذهبت معه لمسافة 30 كيلومترا ووصلنا ليلا، ووجدت نفسي وجها لوجه مع المجاهدين ولم أكن قد رأيتهم من قبل، وكان هذا في سنة 1959، وجاء مسؤول القسم الشهيد أحمد شبيرة فوجدني أبكي و "ما عرفت نقعد ما عرفت نرقد"، فقال لي: "ماليوم قالي حنا هوما عايلتك"، وبقيت معهم يومين أو أكثر ثم قرروا نقلي للمنطقة المحرمة لأنني أعرفها جيدا وأعرف الحياة في الجبال، وعندما جاء المسؤول سألني إن كنت أعرف القراءة، فلم أستطع الجواب من شدة الرهبة التي كان يتمتع بها المجاهدون، فقال لي أعرف أنك تجيدين القراءة واكتشفت أنهم يعرفون عني كل شيء، فكل شيء عندهم مسجل وموثق ومع ذلك اختبرني ثم وجهني للتمريض وأخذني للمركز في اولاد رابح بالضبط في غار الذيبة، وهناك وجدت مجاهدة قوية جدا ووضعت لنا قطع "الكسرة" حسب عددنا.

تجريد الجنود من اللباس أول مهمة لنا

وفي الصباح توجهنا إلى مركز آخر، وجدنا فيه المجاهدة زهية قاوة مسؤولة المركز، وكنا ثلاث فتيات ننهض على الثالثة صباحا ومشينا مع المجاهدين وهناك شهدت أول اشتباك بين المجاهدين وجنود الاحتلال، وكانت مهمتي آنذاك رفقة المجاهدات بعد انتهاء الاشتباك الإسراع لتجريد الجندي من ملابسه وبسرعة البرق، وما زلت أذكر أول مرة عندما لمست رقبة الجندي الميت ووصلت برودة جسمه إلى رأسي، وهناك طريقة لم أكن أعرفها، وهي أن المجاهدات كنا يقمن برمي حجرة كبيرة على رأس الجندي حتى يضمن موته.

"أصبر نفسي" بنشيد "حيو الشمال" ونشيد "لا تنسوا الشهداء" يؤلمني

وفي السابعة صباحا بدأت الطائرات الحربية تحوم حول المنطقة للبحث عنا، وبقيت رجلي في الماء من السابعة صباحا حتى السادسة مساء والمجاهدات يمنعنني من الكلام حتى لا أتعب وتخور قواي،...ذلك اليوم طويل جدا وتعبت فيه كثيرا، فبدأت أنشد بيني وبين نفسي في "حيو الشمال" حتى أشجع نفسي و(نصبرها)، وعندما حل الليل وصلنا لبني صبيح فوجدنا المجاهدة في انتظارنا وكنت أضع لباس الجندي على كتفي، فأخذته وغسلته من الدم وجففته وغطتني به.

.. الطريق إلى بني فرقان... يوميات من المعاناة بين الصخور من أجل جلب الغذاء

وفي الصباح أرسلوني لبني فرقان من أجل ممارسة التمريض في المراكز الصحية التي أنشأها جيش التحرير الوطني في منطقة صعبة بين الصخور، حتى فرنسا لم تدخلها وهناك أقوم بالتمريض وكذا الذهاب إلى المركز من أجل جلب الأكل للجرحى، وكنت أبكي دائما لصعوبة المهمة والحياة بين الصخور وصغر السن وأحيانا الجوع خاصة في الصيف، حيث لا يوجد البلوط وفي فصل الشتاء تتمزق أحذيتنا، فنضطر للمشي حفاة، فالمنطقة التي كنت أعمل بها وعرة جدا وعندما يسقط الثلج أنتقل بواسطة الحبل فوق الوادي وكثيرا ما تجرح يداي من شدة البرد واحتكاك الحبل القوي "هو صراع دائم مع الموت" وكنت "أصبر نفسي" أننا جميعا نعيش نفس الوضعية.

يوميات بين الموت والحياة وغربة عن الأهل

وهكذا كانت أيامنا، نعيش على وقع المعارك ونتذوق طعم الموت كل يوم، إلى أن أرسلوني لمركز صحي قرب المنطقة التي يقيم بها أهلي... ومع ذلك لم أتمكن من الإتصال بهم ما عدا عمتي التي كانت مجاهدة هي الأخرى.
لولا الإيمان لما استطعنا التحمل والحياة كنا نحاول أن نروّح عن أنفسنا بالغناء بعد كل عملية ينجح فيها المجاهدون، وكذا نمازح بعضنا قصد التخفيف، وتقوم المجاهدات بارتجال الأناشيد التي تزيد من قوتنا وعزيمتنا، والنشيد الوحيد الذي لا أحتمل ترديده أو حتى سماعه هو نشيد "إخواني لا تنساوا الشهداء"، ولولا الإيمان لما استطعنا العيش في ظروف لا يعبر عنها بالكلمات، مضت أيام ثورتنا ومضى عمرنا معها، واجهنا الموت وعشنا معها لأيام.. كبرت ولا أدري كيف كبرت، انقطعت عن أسرتي.. لم أشاهد وجهي في المرآة، روائح النابالم، تكفلنا بالموتى، "ما كانش اللي يحن عليك"، كنا محميين، مازلت أحارب ذكريات بقيت راسخة ليس في ذاكرتي فقط وإنما في كامل روحي وكياني، ما زلت أذكر عندما خرجت رفقة مجاهدة لجلب الخضر من مزرعة أحد الجزائريين وبدأت الطائرة تقصف المكان دون أن تصيبنا لأنهم كانوا يريدوننا أحياء ورغم أنني لم أصب إلا أنني شعرت بالرصاص يخترق ظهري ثم اختبأنا تحت الصخور.
الاستقلال ولقاء الأهل بعد الفراق تحت راية الوطن
قبيل الاستقلال جاء قرار بتزويجنا، وفعلا هذا ما حدث، حيث تزوجت بأحد ضباط جيش التحرير الوطني، ولم ألتق بأسرتي إلا بعد الاستقلال وهناك عاشت أسرتي معاناة أخرى في البحث عني وعند لقائي لم يتعرفوا علي بسهولة.
تحية مجاهدة لحراس الحدود وحماة الوطن
وفي ختام لقائنا، أصرت المجاهدة بوقمبور خديجة على أن توجه تحية تقدير وشكر لحراس حدود الجزائر وحماتها الذين قالت إنهم أحفاد المجاهدين المدافعين عن الوطن الحبيب.

اقرأ المزيد

الشهداء المنسيون يعودون من منطقة "اللفايز" بالسطارة: جرائم جماعية في جبال السطارة بدأت تنكشف.. الرغبة في الاحتفال بذكرى إعلان الحكومة المؤقتة كلفتهم حياتهم



رغم قساوة المنطقة في السنوات الأخيرة للثورة التحريرية وتزامن ذلك مع خطة شال، التي ذابت كلما اقتربت من الشمال القسنطيني،
والتي اعتبرها الكثير كالكتلة الثلجية التي انطلقت من الغرب الجزائري باتجاه الشرق، يزيد حجمها وتزيد سرعتها في المنحدر، وبالأخص نحو الشمال القسنطيني، هذا الشمال الذي عرف بسالة لا نظير لها واستماتة أبهرت جنود الاستعمار الفرنسي نفسه، رغم الهمجية التي كان يضرب المنطقة بها خاصة بعد جعل منطقة كاتينا "السطارة" حاليا محتشدا جمع إليه أهالي المناطق الجبلية المجاورة في إطار فصل الشعب عن الثورة، وأنشأ فيها مكتبا من مكاتب التعذيب "صاص"، وهو ما جعل فرنسا كنقطة بداية لزيارة الرئيس الفرنسي شارل دوغول، إلى الأماكن التي تشهد تواجدا كبيرا للثورة، لكن هذا الأخير لم يجد ما يقوله بعدما رأى بأم عينيه بؤس الجزائريين ورفضهم القاطع للإستعمار إلاّ كلمته الشهيرة "الآن فهمت"، حيث حدثنا بعض من النسوة الذين أحضروا لهذه الزيارة مرغمين لا مخيرين، فأخرجوا من المحتشد ونُقلوا في شاحنات عسكرية إلى منطقة "الدبُّو" لاستقبال الجنرال دوغول، الذي قدم على متن طائرة مروحية عسكرية وكان متبوعا بمجموعة أخرى، لكن بؤس الجزائريين كان أكبر رسالة مقنعة له، وأكبر رسالة صادقة للكولونيل ترانكي الذي فضل كاتينا كبداية.

بعد هجومات الـ 20 أوت 1955 .. "أراقوا" برج علي حاليا تعلن أول منطقة محررة

إن المنطقة تعرف بقوة الضربات التي تلقاها جنود الاستعمار الفرنسي في عديد المرات، وأهمها ضربات هجومات العشرين من أوت 1955، التي وجهت للمعمرين الذين يسكنون المنطقة، فكانت هذه الضربات في قرية "أراقوا" "برج علي" حاليا كافية لتحرير المنطقة كلية، إلى درجة رفع العلم الجزائري فيها، هذا بعدما كانت المنطقة محرمة، وأعلنت كأول منطقة محررة في الوطن، فكانت هذه الضربات سببا قويا لارتكاب أبشع الجرائم.

جريمة بشعة قتل خلالها 12 مدنيا وطفلان لم يولدا بعد...

ورغم الهمجية الاستعمارية فلم تستطع فرنسا النيل من عزيمة سكانها الذين احتضنوا مجاهدي ثورة التحرير المباركة، وكانوا سندا لهم خفيا وعلنا وهو ما كان مقلقا للهمجية الفرنسية التي كانت ممركزة آنذاك على بعد حوالي 10 كيلومترات في محتشد "كاتينا" السطارة حاليا، الذي غرس في عمق الشمال القسنطيني، زاعمين بذلك قضائهم على الثورة والتوغل فيها، فكانت وقفة أهالي المنطقة في الاحتفال الأول لإعلان تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة بتاريخ 19 سبتمبر 1959، الذي أقامه القسم الثاني بالولاية الثانية المتمركزة في منطقة "البراكت"، فكان هذا الاحتفال أو مجرد التفكير في الاحتفال سببا كافيا لارتكاب مجازر جماعية طمست ملامحها مع مرور السنين والتي قضي فيها على 14 روحا منهم 02 امرأتين حامل في شهرهما الأخير، فكان الموتى من النساء والحوامل والأطفال وحتى الرجال، وذلك في المنطقة المسماة "باللفايز".

أكثر من 300 شخص داخل "غار دي بن عمار"

في صبيحة ذلك اليوم كان الجميع من الأهالي يستعدون لحضور الحفل، الذي سيقام بمركز الناحية "بالبراكت" المتواجدة في أعالي جبال "راقوا" وكان يشرف عليه الشهيد بيوض مسعود آنذاك، ويمتاز المركز بكثافة أشجار البلوط المحيطة حوله، وصعوبة المسالك الموصلة له، لكن ذلك ليس على أهالي المنطقة المدعوين لحضور الحفل. منذ الصبيحة والأهالي مع ضجيج المركبات العسكرية الفرنسية وهو ما دفعهم للهروب نحو "الغار دي بن عمار" وكان عددهم حوالي أكثر من 300 شخص، فاحتمى الأهالي بالغار، لكن سرعان ما خيل للأهالي أن الجنود الفرنسيين قد غادروا المكان، فقرروا الخروج لتسقط المجموعة الأولى منهم بين أيدي آلة الإرهاب الفرنسية، وكانت إجابتهم بلا نعلم عن سؤالهم: أين هم المجاهدين؟  سببا كافيا لإطلاق الرصاص عليهم، ليصيب البعض منهم على مستوى الأرجل، وعلى بعد عشرات الأمتار فقط بالمكان المسمى "لجنان دي بن اخريف" استطاع الجنود الفرنسيين القبض على مجموعة ثانية تتكون من إحدى عشرة "11" فردا، ومنهم امرأتين يقال شهودنا إنهن حوامل وفي أشهرهن الأخيرة. وهن: شريفة حمودي (حاملا)، بوجاجة عقيلة وإبنتها الزهرة، لفزة الدايخة (غير متزوجة وفي حدود 12 سنة)، لفزة نوارة بنت أحمد بن الساسي، لفزة المجيد بن أحمد بن الساسي، زوجة عمار بومنجل وإبنتها وإبن لها، زوجة لفزة علي المسماة الزهرة (حاملا) وإبنة زوجها الزهرة وإبنها المجيد. كانت كلمة "لم أر المجاهدين" كافية للمرة الثانية لإطلاق الرصاص على الجميع دون استثناء ودون تمييز بين المرأة الحامل والطفل والنساء والرجال، وهو ما أسقطهم جميعا دفعة واحدة، وحسب الشهود العيان الذين حدثونا عن هذه الهمجية، فقد أكدوا أن بعض الجنود الفرنسيين قد رجعوا إلى المجموعة الأولى لأنهم لم يجدوا أحدا منهم لأنهم فروا باتجاهات مختلفة، وهو ما دفع بهم لإعادة إطلاق الرصاص على المجموعة الثانية إمطارهم من جديد لتأكيد القضاء عليهم، وقد وقع ذلك في حدود منتصف النهار.

الثانية في أعالي السطارة .. قصف مركز "البراكث" مقر القسم الثاني من الولاية

وقد حدثنا شهود ممن عايشوا الحادثة أو كانوا على مقربة من المكان، أن الجيش الفرنسي قد علم بمرور بعض المجاهدين ممن قدموا من ضواحي منطقة "بني توفوت" عين قشرة حاليا، ومن منطقة "القفش" لحضور الاحتفال، وهو ما أدى إلى تتبعهم، وكان ذلك منذ صبيحة ذلك اليوم، حيث أكد محدثونا أن الأهالي كعادتهم توجهوا إلى غار المنقطة المسمى "الغار دي بن عمار"، وبعد خروجهم منه في حدود العاشرة صباحا وجدوا من طرف الجيش الفرنسي الذي كان مدججا بالسلاح، وكان يخترق المنطقة وآلاته العسكرية المختلفة "البلاندي"، والمغطى بأسراب من الطائرات، وبعد ارتكاب المجزرة، جمع كل الأهالي في منطقة "البلوطة" "القوارد حاليا" في انتظار تحويلهم إلى محتشد "كاتينا". ورغم التواجد الكبير للمجاهدين في مركز القسم الثاني بالبراكث، فقد وصل الجيش الفرنسي إلى المركز، وسط قصف كبير للطائرات العسكرية، كل ما كان موجودا بالمركز إلى خراب، خاصة أن المركز كانت تتواجد به حتى العائلات والأطفال والنساء اللاتي كانت تعد الوليمة بمناسبة الاحتفال، ولأجل القضاء على المجاهدين كان الجيش الفرنسي لا يجد حرجا في قتل الكل لتحقيق مبتغاه، فكان يقوم بقتل ما يجده أمامه للانتقام فحتى الحيوانات لم تسلم لأنها تستعمل لفائدة الثورة، وهو المنطق الذي كان يطبقه مسؤولي الجيش الفرنسي في الجهة باعتبارها من أصعب المناطق على فرنسا خلال سنوات الثورة التحريرية.

من يتحمل مسؤولية جريمة القتل الجماعي؟

لكن سؤالنا اليوم بعدما عاد هؤلاء الشهداء من جديد، وكان السبب في ذلك فتح طريق داخل منطقة "اللفايز" وهي نفس المنطقة التي وقعت فيها هذه الجريمة البشعة التي مر عليها 59 عاما، فكان هذا المشروع سببا في إحياء وفتح جراح المنطقة التي سارع أهلها فور اكتشاف رفات الشهداء إلى عين المكان، وكان الجميع يأمل في إيجاد آثار عائلته، خاصة بعد التعرف على صاحبة "الحلق" "الخرصة" للشهيدة الشابة شريفة حمودي والتي أخبرتهم بها واحدة من الشهود، إذا وبعد 59 سنة نتساءل: من المسؤول؟، ومن أعطى الأمر بقتل المدنيين والأبرياء؟ وأين موقع الكولونيل ترانكي، الذي سارع بالجنرال دوغول إلى هذه المنطقة؟ فأين موقعه ولمن أعطى الضوء الأخضر لضرب الشعب الجزائري في هذه المنطقة وغيرها بكل وحشية وقسوة؟، وهي الأسئلة التي تنتظر الإجابة من خلال البحث وتأريخ الثورة التحريرية لكشف كل هذه الجرائم.

اقرأ المزيد

بفضل تضحيات وبطولات تأبى أن تمحوها لامبالاة وجحود الكثيرين.. زمورة المجاهدة تخلد اسمها بأحرف من ذهب


في شمال مدينة برج بوعريريج، وعلى بعد 30 كلم، تتراءى لك بلدة زمورة، المعروفة رسميا ببرج زمورة، التي ارتبط ذكرها بأحداث بارزة في
التاريخ الحديث والمعاصر للجزائر قاطبة، وخلد اسمها بأحرف من ذهب، رسمها أبناؤها بفضل تضحيات جسام وبطولات تأبى أن تمحوها لامبالاة وجحود كثيرين..
على ارتفاع فاق 800 متر عن سطح البحر، وبسلسلة جبال البيبان، تقع بلدة زمورة المجاهدة، متربعة على سفح جبل قدرت مساحته بـ 170 كلم مربع، يسكنها أكثر من 10 آلاف نسمة، وإن بدا العدد ضئيلا، فالأمر له علاقة بالهجرة المستمرة إلى المدن الكبرى لأسباب تعددت وكانت نتائجها وخيمة على المنطقة.

نبذة تاريخية

لزمورة تاريخ عريق، لا يبدأ كما يزعم البعض بدخول الأتراك إليها في القرن السادس عشر ميلادي (1560) وبنائهم لهذه البلدة، بل إن تشييدها قد يعود إلى زمن التواجد الروماني بالمنطقة أو قبله، ونكتفي في ذلك بما ذكره مرمول كربخال، في كتابه "إفريقيا"، حيث جاء في ذكرها ما يلي: "زمورة.. مدينة شهيرة بمجدها القديم، بناها الرومان قريبا من مجانة (مدينة لها تاريخ مجيد)، عدد سكانها ألفان، متفرقون إلى أحياء مختلفة. وتوجد على مقربة منها ساقية عظيمة تجري من جهة المشرق، وفي جهة الجنوب يوجد حصن بناه منذ عهد قريب حاكم الجزائر (حسن باشا)، وهذه المدينة أكثر بلاد البربر حنطة وماشية، تقام بها سوق أسبوعية يوم الاثنين يقصدها العرب والبربر من سكان تلك الجهات لتصريف بضائعهم. وموقع هذه المدينة عند بطليموس سبعة عشر درجة في خطوط الطول وسبعة وعشرون درجة وخمسون دقيقة من خطوط العرض، ويسميها أزما.
(من كتاب إفريقيا ق 16 م).

زمورة منطقة "ساخنة جدا" (ضمن إقليم الولاية الثالثة التاريخية)

فيما تستعد الجزائر في الساعات القادمة للاحتفال بالذكرى الـ60 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، حقّ للجيل الصاعد أن يعرف عن بطولات أسلافه، آبائه وأجداده ولو قليلا من كثير، في كفاحهم المرير من أجل الأرض والعرض.
لذا تعرض جمعية "السيدة شامة" للثقافة والتراث، أبرز الأحداث التي شهدتها منطقة زمورة المجاهدة خلال الثورة التحريرية وأشهر ملاحم الشهداء وذكر أشهر معاركهم، فضلا عن أحداث فجرت تساؤلات كثيرة جدا طيلة أكثر من 5 عقود كاملة..
كانت زمورة منطقة "ساخنة جدا" (ضمن إقليم الولاية الثالثة التاريخية، التي تزعمها كريم بلقاسم، سعيد محمدي، العقيد عميروش، عبد الرحمان ميرة ومحند أولحاج)، حيث يقول مثقف فرنسي عايش ظروف وأحوال زمورة، خلال نفس الحقبة: "التحقت بالجزائر باحثا عن عمل وشاءت الصدف أن أجد نفسي بمدينة برج بوعريريج ومنها إلى بلدة تعرف باسم زمورة، الواقعة مع الحدود المتاخمة لمنطقة القبائل الصغرى. كانت زمورة خلال حرب الجزائر بؤرة ساخنة جدا، ومن حين لآخر كنا نسمع بعملية قام بها "الفلاڤة".. لم يكن بوسعي الخروج في هذه البلدة بمفردي، وكان لا بد من تواجد عسكري معي في كل تحركاتي، وإذا أردت قضاء عطلة نهاية الأسبوع بمدينة برج بوعريريج، فالأمر كان يلزمه بضعة جنود فرنسيين مدججين بالسلاح، يعملون على توفير الحماية لي طيلة الطريق، إلى قرية حسناوة، وهناك ألتقي بفرقة عسكرية أخرى تسهل لي الوصول إلى برج بوعريريج وتحديدا إلى حي "السيراج" (من أول الأحياء التي بناها الفرنسيون هناك)، وهناك فقط أستريح وأطمئن على سلامتي من أذى "الفلاڤة"... آه لقد كانت زمورة منطقة ساخنة جدا".

معارك ضارية ومئات الشهداء

ككل أرجاء الجزائر، جرت على أرض زمورة الطاهرة معارك ضارية، اضطرت فيها قوات الجيش الفرنسي إلى استخدام كل الوسائل والأسلحة المحظورة، منها الغازات السامة، بعدما فشلت ميدانيا في كبح جماح المجاهدين.
غير أن هذه المعارك، بذات المنطقة لا تعني بالضرورة أن مجاهدين من زمورة كانوا طرفا فيها، فقد يحدث أن تنصب كتيبة مجاهدين مارة بالمنطقة كمينا لجنود الاستعمار الذين ظهروا فجأة على بعد أمتار منهم، حسب شهادات المجاهد الكبير بمنطقة البيبان، فرحات زيداني، الذي أكد بأنه شارك في معارك كثيرة بالمنطقة وعلى تخومها، وهو ليس من أبناء هذه البلدة. ومن المعارك الكثيرة والطويلة:

معركة ولاد سيدي علي:

وفيها استشهد 14 مجاهدا وجرح ثلاثة منهم، بينما تكبد عسكر فرنسا خسائر بشرية فادحة بمقتل 56، وعدد كبير أصيب بجروح.

معركة القرت:

وفيها قتل عدد لا يستهان به من جنود المستعمر، بينما استشهد مجاهدان.

معركة لصفاح:

وفيها استشهدت السيدة بن عثمان كلثوم، بعد إصابتها برصاص الجيش الفرنسي، قرب قرية تيزي بأعالي بلدة زمورة، مع العلم أن المعركة اندلعت لما وصلت وشاية لجنود المحتل بوجود بعض "الفلاڤة" بالقرية متحصنين بمنزل هناك.

معركة جبل زمورة:

وامتدت رقعتها على مساحة شاسعة بضواحي قرية الرابطة، شرقي زمورة، واستمرت ست ساعات كاملة، واضطرت فيها قوات الاحتلال إلى الاستنجاد بالطيران الحربي والعتاد الثقيل، ناهيك عن مئات الجنود، غير أن ذلك لم يثن من عزيمة المجاهدين ولم يضعف إيمانهم بالقضية التي ثاروا من أجلها، فكبدوا جيش العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ومن جملة ما حطموه من عتاد حربي، ثلاث طائرات.

معركة قاع كاف:

بقرية ولاد عثمان، حيث لجأ عدد من المجاهدين إلى مغارة خلف مصب مائي، بين منابع ثالا عياش وبساتين القرية، ولما علم جنود الاحتلال بأمرهم (بعد وشاية) حاولوا إرغامهم على الخروج، خاصة وأنه لم يكن بوسعهم التوغل إلى المغارة بسبب صعوبة تضاريس المنطقة، فلجأوا إلى قصف المغارة بالمدفعية الثقيلة، غير أن ذلك لم يجد نفعا، ولم تفلح حتى قذائف الطائرات في إرغام المجاهدين على الخروج من تلك المغارة، ليلجأ جنود الاحتلال إلى خطة جهنمية بتسريب الغاز السام إلى داخل المغارة، وهو ما حتم على المجاهدين محاولة الهروب، وكانوا بذلك فريسة لجيش العدو، الذي حمل جثثهم وعددها أربع (حسب أكثر الروايات)، وتم عرضها بمنطقة الثنية الحمراء، ثم دعوا كل السكان للتفرج عليها حتى يكون ذلك عبرة لهم وشاهدا على جبروت وبطش فرنسا.
ولا يسع المجال لذكر كل المعارك التي شهدتها زمورة خلال سنوات الثورة، ولكن الأكيد أن عشرات بل مئات الشهداء سقطوا بها فداء لدينهم ووطنهم.

"الكوليج الرهيب"... مختار بلجودي أول شهيد تحت تأثير الطقوس الوحشية

قد يكون "الكوليج الرهيب" أبرز معلم كولونيالي بمنطقة البيبان على الإطلاق، حيث بني على أنقاض حصن بناه الأتراك، غداة دخولهم إلى زمورة في القرن 16 ميلادي. وشرع في بناء هذا الصرح الحجري فائق الروعة والإتقان عام 1936 وانتهي من بنائه العام 1939، وكان الغرض من وراء تشييده بتلك الهندسة الفريدة، منافسة بعض الآثار التركية والرومانية بالمنطقة، بينما الهدف الخفي هو جعله مدرسة لتعليم أبناء المنطقة اللغة الفرنسية، ليس حبا فيهم بل لمجابهة الإقبال الرهيب لكل أجيال المنطقة على تعلم وقراءة القرآن الكريم (هذا تفسير متداول بكثرة لدى كثير من مثقفي المنطقة، وقيل بأن السلطات الاستعمارية عمدت إلى بناء صرح مثله بمنطقة عين حمام بتيزي وزو لنفس الغرض)، ومورس بهذه المدرسة قبل اندلاع الثورة تعليم اللغة الفرنسية، ولكن سرعان ما أصبحت ثكنة عسكرية سنة 1955 أو 1956، حيث تم تجميد نشاط التعليم تماما، ليقتصر دور "الكوليج" على كونه ثكنة عسكرية ومركز تعذيب، إلى غاية نهاية سنة 1959، حيث عاد إلى دوره التعليمي (حسب تقارير الفرقة الإدارية المتخصصة آنذاك)، طابق أرضي للتعليم وعلوي استغل كثكنة عسكرية.
شهد هذا "الكوليج" أشد وأفتك أنواع العذاب الذي مورس على المجاهدين وأبناء المنطقة وكل القرى والدواوير القريبة والمحيطة بزمورة، وبه تمركزت القوة الرئيسية لجيش الاحتلال بقيادة النقيب أموريك. من دخل هذه الثكنة فهو حتما ليس آمنا على روحه، فما بالك بالتعذيب، ويروي كثير من شيوخ المنطقة أن صيحات المعذبين كانت تُسمع من مكان بعيد، لشدة ما لحق بهم من أذى، باستخدام كل الوسائل، بما في ذلك إرغامهم على شرب الأحماض وتسليط الكهرباء على مناطق جد حساسة من أجسادهم وشرب بول الجنود.
وليس هذا فحسب، بل كانت أجسام الذين يؤتى بهم إلى مركز التعذيب، تُقطّع بالسكاكين، ثم ينثر عليها الملح ليبقى ذلك الجسد تحت شمس حارقة أياما عديدة، ولعل أبرز من عانى هذه الويلات الشهيد مختار بلجودي، وهو من القرى القريبة من زمورة (تفرڤ) وهو أول شهيد فاضت روحه إلى بارئها بهذا المكان تحت تعذيب شديد لا يقوى عليه بنو البشر، وتقول روايات بعض أقارب الشهيد إن مختار بلجودي، عذب عذابا شديدا، باستعمال كل الوسائل ولما تيقن الفرنسيون من أنه لن يبوح بما يعرفه عن إخوانه المجاهدين، لجأوا إلى تبضيع جسده بسكاكين حادة، ونثر الملح على جسده، وعلق بمداخن المبنى على علو مرتفع جدا، وبقي على تلك الحال لأيام، تحت حر شديد (لا أكل ولا شراب) وكان المنظر مؤثرا جدا لكل من رآه آنذاك، إلى أن استشهد وهو مطمئن بشهادته في سبيل الله.
وعدد الذين استشهدوا تحت التعذيب هناك كثير، ذكر منهم تسعة في نصب تذكاري شيد بمدخل المبنى، وبقي عشرون آخرين مجهولي الهوية.. أما الذين ذكرت أسماؤهم في النصب التذكاري فهم: بلجودي مختار، بلعزوق عبد الله، بن أخروف موسى (استشهدوا سنة 56).
داود محمد الطيب، بن خليل البشير، بن ساسي قدور، بن ناصف الرشيد، مخلوفي محمد المسعود، زيتوني الطيب (استشهدوا سنة 57).

اقرأ المزيد

المجاهدة الثائرة.. السيدة شامة بوفجي: رائدة نهضة المرأة الجزائرية


المجاهدة الثائرة.. السيدة شامة بوفجي: رائدة نهضة المرأة الجزائرية

كثيرات هن بنات الجزائر وحرائرها اللائي أفنين شبابهن في خدمة وطنهن المفدى، بالغالي والنفيس، فتشعبت اهتماماتهن وتفرعت
همومهن في سبيل ذلك.. فهذه حاملة للبندقية بجانب أخيها الرجل في معارك ضد المستعمر، وأخرى رافعة قلم العلم والمعرفة لتعليم النشء، وتلك تدافع عن أصالة أمة في بيتها، وهذه تحمل "قفة الموت" لمحتل غاشم..
كثيرات ذكرن في كتب التاريخ ومؤلفات الباحثين، التي مرت كثير منها مرور الكرام على نضال نساء جمعن جل أساليب الجهاد، فكن المجاهدات بالبندقية والمحررات للعقول بالقلم والعلم والأمهات في البيوت. ومن هؤلاء المجاهدة الثائرة ورائدة نهضة المرأة الجزائرية، السيدة شامة بوفجي براهم شاوش.. سيدة نساء الجزائر..
ولدت المجاهدة المرحومة شامة، أرملة الشهيد محمد الصغير براهم شاوش، ببلدية بئر قاصد علي، شرقي برج بوعريريج يوم 13 مارس 1922، وسط عائلة دينية محافظة مصلحة، من أبوين ينحدران من بلدة زمورة شمالي ولاية برج بوعريريج، وهما بوفجي امحمد وشلابي برنية.
انتقل والدها بأسرته إلى العاصمة فسكن في القصبة، وعندما حل الشيخ الطيب العقبي واستقر بنادي الترقي هناك، كان من أول الملازمين لدروسه والمتتبعين لحركة الإصلاح والنهضة القومية، فأدخل ابنتيه "شامة وخضرة" مدرسة الشبيبة الإسلامية، وهي أول مدرسة من مدارس جمعية العلماء المسلمين بالعاصمة.
خلال مدة قصيرة أظهرت البنت شامة، تفوقا ملحوظا في دراستها فاقت به جميع أقرانها في المدرسة، فأقعدها والدها المنزل مع أختها خضرة، واستدعى لهما طائفة من الأساتذة أمثال الأستاذ فرحات بن الدراجي، وعبد الكريم عقون، فعكفتا على تحصيل العلم وحفظ القرآن العظيم والتفقه في الدين.

تأسيسها مدرسة "شريفة الأعمال"

دعت السيدة شامة إلى تأسيس مدرسة لتعليم البنات المسلمات بالقصبة، بالجزائر العاصمة، فكانت أصغر معلمة في تاريخ الجزائر قاطبة. وتأسست المدرسة فعلا سنة 1934، كأول مدرسة للبنت المسلمة وأشرفت عليها "البنت شامة" وعمرها لم يتجاوز الـ12 سنة.
وفتحت المدرسة التي كان مقرها منزل والد السيدة شامة، بوفجي امحمد، قسما داخليا للبنات القادمات من ضواحي العاصمة، كالشراقة، القبة وبئر خادم. واستمر هذا النظام لسنوات، والقائم بشؤون إطعام البنات هما والدا شامة، السيد امحمد بوفجي وزوجته برنية شلابي، وبلغ عدد المتمدرسات في أقل من أسبوع فقط من بداية التسجيل 150 تلميذة.
ونتيجة لانتشار حركة التعليم وعجز المدرسة (بيت السيد بوفجي) عن استقبال كل البنات، فكرت شامة في فتح ملحقات لمدرسة "شريفة الأعمال" في بولوغين والشراقة وسيدي امحمد وبئر خادم والقبة والعناصر والسيدة الإفريقية.
وواصلت السيدة شامة مساعيها لتعليم البنت الجزائرية المسلمة (تحت غطاء تعليم القرآن) إلى غاية عام 1952، عندما تفطنت سلطات الاحتلال لهذه المدرسة فأغلقتها.

حسها الثوري وتبكيرها للجهاد

في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، أثناء تبلور المقاومة السياسية والثقافية، لم تتأخر المرأة الجزائرية عن تسجيل حضورها وكان لها ذلك، بفضل فتاة في بداية عقدها الثاني، هي المناضلة "العنيدة" شامة بوفجي (كما يصفها المؤرخ محمد عباس). فقد تناولت الكلمة خلال نشاط لجمعية الشبيبة الجزائرية بالقصبة سنة 1934 لتقول بكل عفوية: "أتمنى أن أصبح ذات يوم رائدة في مجال نهضة المرأة بالجزائر الحرة" (أمنيتها تحققت). هذا الوعي الوطني المبكر فتح أمامها باب سجن بربروس (سركاجي) الرهيب على مصراعيه، رغم أن سنها لم يتجاوز يومها 12 سنة. وهو ما انبرت له فعليا بتأسيس "شريفة الأعمال" وما أعقبه من تحديات كبرى في سبيل تعليم بنات الجزائر. (حسب دفاتر المؤرخ محمد عباس)
وبعدما لعلع الرصاص واستعرت حرب التحرير الكبرى، بسنوات كانت السيدة شامة قد استقرت ببرج بوعريريج، مع زوجها الشهيد محمد الصغير براهم شاوش، ولكنها لم تتخلف عن الالتحاق بالثورة عبر العاصمة، بواسطة شبكة مختار بوشافة، لتصبح بفضل ذلك نقطة اتصال هامة جدا بين الولايتين الثوريتين الثالثة والرابعة.
كانت أول عملية خطيرة تقوم بها "سيدتي" شامة، تهريب شباب جزائري مجند بثكنات العدو بناحية البرج، كما كانت تقوم بعمل مخابراتي مهم، بمراقبة تحركات العدو ونشاط الخونة، ومتابعة سيرة الثوار في أوساط الشعب للحفاظ على الثقة بين الجبهة والشعب، كما زج بها في سجن مجانة، إبان الثورة عقابا لها على دعمها لإخوانها المجاهدين.
وتروي إحدى تلميذاتها بالبرج (كانت مقربة جدا منها وتقاسمها حياتها ببيتها) أن جسد "سيدتي" مليء بآثار التعذيب بشتى أنواعه. وكثيرا ما استقبلت الثائرة شامة ببيتها عشرات المجاهدين للتنسيق بينهم، وروى لنا بعض من عايشوها في الثورة أنها كانت تحث النساء على مساعدة الثورة بخياطة الجوارب للمجاهدين وجمع التبرعات، مذكرة إياهن بأن المجاهدين في الجبال والوديان والشعاب يعانون الأمرين صيفا وشتاء، بينما هن ينعمن في بيوتهن، رغبة منها لشحذ همة نساء منطقة البيبان.
ولم تكتف "سيدتي" بذلك، بل أهدت زوجها وابنه (ربيبها) شهيدين لوطنهما، حيث كان زوجها سواء بالعاصمة أو بالبرج على صلة وطيدة جدا بالمجاهدين والعمل الثوري. فلما كان بالعاصمة كثيرا ما نقل المجاهدين بسيارته من مكان إلى مكان بكل ثقة وعزيمة، ناهيك عن تبرعه من ماله الخاص وجمع التبرعات للمجاهدين. ولما حل ببرج بوعريريج واصل كفاحه "السري" بجمع التبرعات واستقبال المجاهدين ببيته رفقة زوجته شامة، إلى أن ألقي القبض عليه فاستشهد في السجن وتشير بعض الروايات والشهادات إلى أنه استشهد تحت تأثير التعذيب الرهيب الذي مورس عليه من جلادي المستعمر، وهو نفس مآل ابنه عبد الحميد، الذي عمل لصالح الثورة منذ عام 1956 كمسبل مهتم بتوزيع المناشير الصادرة عن جبهة التحرير الوطني وجيشها، خاصة بمدينة برج بوعريريج، ليلقى عليه القبض بمنزله بعد وشاية بعض الخونة، وأصبح منذ عام 1958 في عداد المفقودين، وحسب شهادة ابنته فقد استشهد خلال ممارسة التعذيب عليه.. فرحم الله الشهداء.

اهتمامها بالمرأة ونهضتها

في سبيل تحقيق نهضة المرأة الجزائرية، لم تبخل السيدة شامة بجهد أو مال، فبغض النظر عن تأسيس "شريفة الأعمال"، راحت ببرج بوعريريج خلال الثورة التحريرية وبعدها تعلّم البنات والنساء في مختلف مجالات العلوم والمعرفة، ولم تعتبر ذلك منفصلا عن تعليم المرأة فنون الطبخ والرقن على الآلة الراقنة والخياطة. حيث فتحت نوادٍ خاصة بذلك، تمولها من مالها الخاص ومال بعض الأثرياء بمدينة البرج، فهذه فرقة مسرحية وتلك مجموعة تتعلم الطبخ وأخرى تسعى لتعلم اللغات الأجنبية.. وغيرها كثير.
وكانت "سيدتي" تحث على تعليم البنات وتثقيفهن تعليما سليما لا اعوجاج فيه، وكثيرا ما آوت فتيات من خارج مدينة البرج ببيتها لسنوات طويلة، وتحملت عبء تكاليفهن من أجل تحصيل العلم (وهن اليوم أساتذة ومديرات). ولم يكن مبعث ذلك إلا إحساسها بمسؤوليتها تجاه بنات الجزائر، ووفاء بالعهد الذي قطعته على نفسها وعمرها 12 سنة (أتمنى أن أصبح ذات يوم رائدة في مجال نهضة المرأة بالجزائر الحرة). وكم هن كثيرات اللائي يتذكرن اليوم سيدتي شامة بكثير من الدعاء والترحم ناظرين إليها نظرة الولد المحب لأمه.

صداقاتها في الجزائر وخارجها

جمعت سيدة نساء الجزائر صداقات كثيرة داخل الوطن وخارجه، مع سادة وسيدات من مختلف الثقافات والمشارب الفكرية، حيث كان لها دور فعال في تأسيس اتحاد النساء الجزائريات رفقة نساء من الرعيل الأول لمجاهدات الجزائر، وهو ما جعل علاقتها ببعض المجاهدات والمثقفات وطيدة للغاية، نذكر منهن: زهور ونيسي (مجاهدة ووزيرة سابقة)- صفية بن مهدي (مجاهدة)، جميلة بوباشا (مجاهدة وتلميذة السيدة خضرة شقيقة شامة)، عقيلة شرقي (تلميذتها ورئيسة اتحاد النساء لبرج بوعريريج)، أم ناصر (رئيسة مكتب ياسر عرفات ببيروت).. وأخريات لا يسع المجال لذكرهن جميعا..
وعندما زار شيخ الأزهر متولي الشعراوي، مدينة برج بوعريريج في سبعينيات القرن الماضي، نزل ببيت السيدة شامة وأقام ليلته هناك دون كل بيوت المدينة، باقتراح من كثير من أعيان المدينة، نظرا لقيمة السيدة بين رجال مدينتها ونسائها، ولأنها كانت تجيد إكرام الضيوف مهما كانت مناصبهم، ناهيك عن ثقافتها الواسعة وتشبعها بقيم العروبة والإسلام، بعيدا عن "الحملات التغريبية" للمرأة الجزائرية..
كما كانت للسيدة شامة رحلات كثيرة إلى بعض عواصم الدول العربية، في إطار دورها كمؤسسة وعضو في اتحاد النساء الجزائريات، وأينما حلت أبلت البلاء الحسن في خطاباتها المؤثرة المقنعة. وتذكر المجاهدة الوزيرة السابقة زهور ونيسي، عن صديقتها السيدة شامة أنها كانت امرأة قوية وشجاعة، وبأنها كانت تحس في حضرتها بالأمان، فهي مثل رجل قوي بمعطفها الطويل... (من كتاب عبر الزهور والأشواك.. مسار امرأة).

وفاتها بعد مرض مفاجئ

بعد عقود من العطاء الفكري والجهادي وتسخير كل ما تملك خدمة للوطن والنشء قاطبة، وبعد مشوار حافل بالإنجازات والتضحيات، بدأ نجمها يخفت وعنفوانها ينضب، وما كان سبب ذلك تهاونا ولا تراخيا ولا تراجعا عن النهج الذي سطرته لنفسها ووفقها فيه ربها، وإنما مرد ذلك إلى مرض مفاجئ ألم بجسدها فلاحت على وجهها الجميل آثار ذلك، وقبل أن تسارع إلى اجتثاث ذاك المرض كان القدر أقوى ففاضت روحها إلى بارئها منتصف شهر ماي من عام 1987 عن عمر يناهز 65 سنة. ودفنت بمقبرة سيدي بتقة بمدينة برج بوعريريج، وشيع جثمانها في جو مهيب بحضور شخصيات وطنية ومحلية، مخلفة وراءها أجيالا من المتعلمين والمتعلمات وإنجازات يعجز عن تحقيقها الرجال لو اجتمعوا.

جمعية للسيدة بعد 26 سنة عن وفاتها

ظل اسم السيدة شامة على ألسنة الناس أكثر من عقدين، متذكرين خصالها ونضالها بكثير من الحنين والحسرة على عدم انزال المرأة منزلتها الحقيقية كمناضلة وطنية ورمز شامخ من رموز الجزائر.. إلى أن عقد شباب من برج زمورة شمالي برج بوعريريج، العزم على إحياء مآثر المجاهدة البطلة، المعلمة المثقفة سيدتي شامة، وإبراز دورها للأجيال الحالية والمقبلة. وكان ذلك بتأسيس جمعية "السيدة شامة للثقافة والتراث" ربيع 2013، وهي اليوم تسعى بكل عزم لتنفيذ ولو القليل مما كثر من أهداف الجمعية، وأولها التعريف بالسيدة المرحومة شامة أحسن تعريف دون تحريف أو تزييف، راجين من وراء ذلك إعطاء اسم المرأة حقه من الاهتمام، مبرزين بأن السيدة لم تنجب لا بنات ولا ولدا... ولكنها أنجبت أجيالا للجزائر وما أدركه من وطن.

 

اقرأ المزيد

أرسل أسئلتك في رسالة الآن هنا

http://abdenour-hadji.blogspot.com/

قناتي على اليوتوب

أعلن معنا... إعلانات الآن هنا ...


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More