رغم قساوة المنطقة في السنوات الأخيرة للثورة التحريرية وتزامن ذلك مع خطة شال، التي ذابت كلما اقتربت من الشمال القسنطيني،
والتي اعتبرها الكثير كالكتلة
الثلجية التي انطلقت من الغرب الجزائري باتجاه الشرق، يزيد حجمها وتزيد
سرعتها في المنحدر، وبالأخص نحو الشمال القسنطيني، هذا الشمال الذي عرف
بسالة لا نظير لها واستماتة أبهرت جنود الاستعمار الفرنسي نفسه، رغم
الهمجية التي كان يضرب المنطقة بها خاصة بعد جعل منطقة كاتينا "السطارة"
حاليا محتشدا جمع إليه أهالي المناطق الجبلية المجاورة في إطار فصل الشعب
عن الثورة، وأنشأ فيها مكتبا من مكاتب التعذيب "صاص"، وهو ما جعل فرنسا
كنقطة بداية لزيارة الرئيس الفرنسي شارل دوغول، إلى الأماكن التي تشهد
تواجدا كبيرا للثورة، لكن هذا الأخير لم يجد ما يقوله بعدما رأى بأم عينيه
بؤس الجزائريين ورفضهم القاطع للإستعمار إلاّ كلمته الشهيرة "الآن فهمت"،
حيث حدثنا بعض من النسوة الذين أحضروا لهذه الزيارة مرغمين لا مخيرين،
فأخرجوا من المحتشد ونُقلوا في شاحنات عسكرية إلى منطقة "الدبُّو" لاستقبال
الجنرال دوغول، الذي قدم على متن طائرة مروحية عسكرية وكان متبوعا بمجموعة
أخرى، لكن بؤس الجزائريين كان أكبر رسالة مقنعة له، وأكبر رسالة صادقة
للكولونيل ترانكي الذي فضل كاتينا كبداية.
بعد هجومات الـ 20 أوت 1955 .. "أراقوا" برج علي حاليا تعلن أول منطقة محررة
إن المنطقة تعرف بقوة الضربات التي تلقاها جنود الاستعمار الفرنسي في
عديد المرات، وأهمها ضربات هجومات العشرين من أوت 1955، التي وجهت للمعمرين
الذين يسكنون المنطقة، فكانت هذه الضربات في قرية "أراقوا" "برج علي"
حاليا كافية لتحرير المنطقة كلية، إلى درجة رفع العلم الجزائري فيها، هذا
بعدما كانت المنطقة محرمة، وأعلنت كأول منطقة محررة في الوطن، فكانت هذه
الضربات سببا قويا لارتكاب أبشع الجرائم.
جريمة بشعة قتل خلالها 12 مدنيا وطفلان لم يولدا بعد...
ورغم الهمجية الاستعمارية فلم تستطع فرنسا النيل من عزيمة سكانها الذين
احتضنوا مجاهدي ثورة التحرير المباركة، وكانوا سندا لهم خفيا وعلنا وهو ما
كان مقلقا للهمجية الفرنسية التي كانت ممركزة آنذاك على بعد حوالي 10
كيلومترات في محتشد "كاتينا" السطارة حاليا، الذي غرس في عمق الشمال
القسنطيني، زاعمين بذلك قضائهم على الثورة والتوغل فيها، فكانت وقفة أهالي
المنطقة في الاحتفال الأول لإعلان تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة بتاريخ
19 سبتمبر 1959، الذي أقامه القسم الثاني بالولاية الثانية المتمركزة في
منطقة "البراكت"، فكان هذا الاحتفال أو مجرد التفكير في الاحتفال سببا
كافيا لارتكاب مجازر جماعية طمست ملامحها مع مرور السنين والتي قضي فيها
على 14 روحا منهم 02 امرأتين حامل في شهرهما الأخير، فكان الموتى من النساء
والحوامل والأطفال وحتى الرجال، وذلك في المنطقة المسماة "باللفايز".
أكثر من 300 شخص داخل "غار دي بن عمار"
في صبيحة ذلك اليوم كان الجميع من الأهالي يستعدون لحضور الحفل، الذي
سيقام بمركز الناحية "بالبراكت" المتواجدة في أعالي جبال "راقوا" وكان يشرف
عليه الشهيد بيوض مسعود آنذاك، ويمتاز المركز بكثافة أشجار البلوط المحيطة
حوله، وصعوبة المسالك الموصلة له، لكن ذلك ليس على أهالي المنطقة المدعوين
لحضور الحفل. منذ الصبيحة والأهالي مع ضجيج المركبات العسكرية الفرنسية
وهو ما دفعهم للهروب نحو "الغار دي بن عمار" وكان عددهم حوالي أكثر من 300
شخص، فاحتمى الأهالي بالغار، لكن سرعان ما خيل للأهالي أن الجنود الفرنسيين
قد غادروا المكان، فقرروا الخروج لتسقط المجموعة الأولى منهم بين أيدي آلة
الإرهاب الفرنسية، وكانت إجابتهم بلا نعلم عن سؤالهم: أين هم المجاهدين؟
سببا كافيا لإطلاق الرصاص عليهم، ليصيب البعض منهم على مستوى الأرجل، وعلى
بعد عشرات الأمتار فقط بالمكان المسمى "لجنان دي بن اخريف" استطاع الجنود
الفرنسيين القبض على مجموعة ثانية تتكون من إحدى عشرة "11" فردا، ومنهم
امرأتين يقال شهودنا إنهن حوامل وفي أشهرهن الأخيرة. وهن: شريفة حمودي
(حاملا)، بوجاجة عقيلة وإبنتها الزهرة، لفزة الدايخة (غير متزوجة وفي حدود
12 سنة)، لفزة نوارة بنت أحمد بن الساسي، لفزة المجيد بن أحمد بن الساسي،
زوجة عمار بومنجل وإبنتها وإبن لها، زوجة لفزة علي المسماة الزهرة (حاملا)
وإبنة زوجها الزهرة وإبنها المجيد. كانت كلمة "لم أر المجاهدين" كافية
للمرة الثانية لإطلاق الرصاص على الجميع دون استثناء ودون تمييز بين المرأة
الحامل والطفل والنساء والرجال، وهو ما أسقطهم جميعا دفعة واحدة، وحسب
الشهود العيان الذين حدثونا عن هذه الهمجية، فقد أكدوا أن بعض الجنود
الفرنسيين قد رجعوا إلى المجموعة الأولى لأنهم لم يجدوا أحدا منهم لأنهم
فروا باتجاهات مختلفة، وهو ما دفع بهم لإعادة إطلاق الرصاص على المجموعة
الثانية إمطارهم من جديد لتأكيد القضاء عليهم، وقد وقع ذلك في حدود منتصف
النهار.
الثانية في أعالي السطارة .. قصف مركز "البراكث" مقر القسم الثاني من الولاية
وقد حدثنا شهود ممن عايشوا الحادثة أو كانوا على مقربة من المكان، أن
الجيش الفرنسي قد علم بمرور بعض المجاهدين ممن قدموا من ضواحي منطقة "بني
توفوت" عين قشرة حاليا، ومن منطقة "القفش" لحضور الاحتفال، وهو ما أدى إلى
تتبعهم، وكان ذلك منذ صبيحة ذلك اليوم، حيث أكد محدثونا أن الأهالي كعادتهم
توجهوا إلى غار المنقطة المسمى "الغار دي بن عمار"، وبعد خروجهم منه في
حدود العاشرة صباحا وجدوا من طرف الجيش الفرنسي الذي كان مدججا بالسلاح،
وكان يخترق المنطقة وآلاته العسكرية المختلفة "البلاندي"، والمغطى بأسراب
من الطائرات، وبعد ارتكاب المجزرة، جمع كل الأهالي في منطقة "البلوطة"
"القوارد حاليا" في انتظار تحويلهم إلى محتشد "كاتينا". ورغم التواجد
الكبير للمجاهدين في مركز القسم الثاني بالبراكث، فقد وصل الجيش الفرنسي
إلى المركز، وسط قصف كبير للطائرات العسكرية، كل ما كان موجودا بالمركز إلى
خراب، خاصة أن المركز كانت تتواجد به حتى العائلات والأطفال والنساء
اللاتي كانت تعد الوليمة بمناسبة الاحتفال، ولأجل القضاء على المجاهدين كان
الجيش الفرنسي لا يجد حرجا في قتل الكل لتحقيق مبتغاه، فكان يقوم بقتل ما
يجده أمامه للانتقام فحتى الحيوانات لم تسلم لأنها تستعمل لفائدة الثورة،
وهو المنطق الذي كان يطبقه مسؤولي الجيش الفرنسي في الجهة باعتبارها من
أصعب المناطق على فرنسا خلال سنوات الثورة التحريرية.
من يتحمل مسؤولية جريمة القتل الجماعي؟
لكن سؤالنا اليوم بعدما عاد هؤلاء الشهداء من جديد، وكان السبب في ذلك
فتح طريق داخل منطقة "اللفايز" وهي نفس المنطقة التي وقعت فيها هذه الجريمة
البشعة التي مر عليها 59 عاما، فكان هذا المشروع سببا في إحياء وفتح جراح
المنطقة التي سارع أهلها فور اكتشاف رفات الشهداء إلى عين المكان، وكان
الجميع يأمل في إيجاد آثار عائلته، خاصة بعد التعرف على صاحبة "الحلق"
"الخرصة" للشهيدة الشابة شريفة حمودي والتي أخبرتهم بها واحدة من الشهود،
إذا وبعد 59 سنة نتساءل: من المسؤول؟، ومن أعطى الأمر بقتل المدنيين
والأبرياء؟ وأين موقع الكولونيل ترانكي، الذي سارع بالجنرال دوغول إلى هذه
المنطقة؟ فأين موقعه ولمن أعطى الضوء الأخضر لضرب الشعب الجزائري في هذه
المنطقة وغيرها بكل وحشية وقسوة؟، وهي الأسئلة التي تنتظر الإجابة من خلال
البحث وتأريخ الثورة التحريرية لكشف كل هذه الجرائم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق