في شمال مدينة برج بوعريريج، وعلى بعد 30 كلم، تتراءى لك بلدة زمورة، المعروفة رسميا ببرج زمورة، التي ارتبط ذكرها بأحداث بارزة في
التاريخ الحديث والمعاصر للجزائر قاطبة، وخلد اسمها بأحرف من ذهب، رسمها أبناؤها بفضل تضحيات جسام وبطولات تأبى أن تمحوها لامبالاة وجحود كثيرين..
على ارتفاع فاق 800 متر عن سطح البحر، وبسلسلة جبال البيبان، تقع بلدة زمورة المجاهدة، متربعة على سفح جبل قدرت مساحته بـ 170 كلم مربع، يسكنها أكثر من 10 آلاف نسمة، وإن بدا العدد ضئيلا، فالأمر له علاقة بالهجرة المستمرة إلى المدن الكبرى لأسباب تعددت وكانت نتائجها وخيمة على المنطقة.
نبذة تاريخية
لزمورة تاريخ عريق، لا يبدأ كما يزعم البعض بدخول الأتراك إليها في القرن السادس عشر ميلادي (1560) وبنائهم لهذه البلدة، بل إن تشييدها قد يعود إلى زمن التواجد الروماني بالمنطقة أو قبله، ونكتفي في ذلك بما ذكره مرمول كربخال، في كتابه "إفريقيا"، حيث جاء في ذكرها ما يلي: "زمورة.. مدينة شهيرة بمجدها القديم، بناها الرومان قريبا من مجانة (مدينة لها تاريخ مجيد)، عدد سكانها ألفان، متفرقون إلى أحياء مختلفة. وتوجد على مقربة منها ساقية عظيمة تجري من جهة المشرق، وفي جهة الجنوب يوجد حصن بناه منذ عهد قريب حاكم الجزائر (حسن باشا)، وهذه المدينة أكثر بلاد البربر حنطة وماشية، تقام بها سوق أسبوعية يوم الاثنين يقصدها العرب والبربر من سكان تلك الجهات لتصريف بضائعهم. وموقع هذه المدينة عند بطليموس سبعة عشر درجة في خطوط الطول وسبعة وعشرون درجة وخمسون دقيقة من خطوط العرض، ويسميها أزما.(من كتاب إفريقيا ق 16 م).
زمورة منطقة "ساخنة جدا" (ضمن إقليم الولاية الثالثة التاريخية)
فيما تستعد الجزائر في الساعات القادمة للاحتفال بالذكرى الـ60 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، حقّ للجيل الصاعد أن يعرف عن بطولات أسلافه، آبائه وأجداده ولو قليلا من كثير، في كفاحهم المرير من أجل الأرض والعرض.لذا تعرض جمعية "السيدة شامة" للثقافة والتراث، أبرز الأحداث التي شهدتها منطقة زمورة المجاهدة خلال الثورة التحريرية وأشهر ملاحم الشهداء وذكر أشهر معاركهم، فضلا عن أحداث فجرت تساؤلات كثيرة جدا طيلة أكثر من 5 عقود كاملة..
كانت زمورة منطقة "ساخنة جدا" (ضمن إقليم الولاية الثالثة التاريخية، التي تزعمها كريم بلقاسم، سعيد محمدي، العقيد عميروش، عبد الرحمان ميرة ومحند أولحاج)، حيث يقول مثقف فرنسي عايش ظروف وأحوال زمورة، خلال نفس الحقبة: "التحقت بالجزائر باحثا عن عمل وشاءت الصدف أن أجد نفسي بمدينة برج بوعريريج ومنها إلى بلدة تعرف باسم زمورة، الواقعة مع الحدود المتاخمة لمنطقة القبائل الصغرى. كانت زمورة خلال حرب الجزائر بؤرة ساخنة جدا، ومن حين لآخر كنا نسمع بعملية قام بها "الفلاڤة".. لم يكن بوسعي الخروج في هذه البلدة بمفردي، وكان لا بد من تواجد عسكري معي في كل تحركاتي، وإذا أردت قضاء عطلة نهاية الأسبوع بمدينة برج بوعريريج، فالأمر كان يلزمه بضعة جنود فرنسيين مدججين بالسلاح، يعملون على توفير الحماية لي طيلة الطريق، إلى قرية حسناوة، وهناك ألتقي بفرقة عسكرية أخرى تسهل لي الوصول إلى برج بوعريريج وتحديدا إلى حي "السيراج" (من أول الأحياء التي بناها الفرنسيون هناك)، وهناك فقط أستريح وأطمئن على سلامتي من أذى "الفلاڤة"... آه لقد كانت زمورة منطقة ساخنة جدا".
معارك ضارية ومئات الشهداء
ككل أرجاء الجزائر، جرت على أرض زمورة الطاهرة معارك ضارية، اضطرت فيها قوات الجيش الفرنسي إلى استخدام كل الوسائل والأسلحة المحظورة، منها الغازات السامة، بعدما فشلت ميدانيا في كبح جماح المجاهدين.غير أن هذه المعارك، بذات المنطقة لا تعني بالضرورة أن مجاهدين من زمورة كانوا طرفا فيها، فقد يحدث أن تنصب كتيبة مجاهدين مارة بالمنطقة كمينا لجنود الاستعمار الذين ظهروا فجأة على بعد أمتار منهم، حسب شهادات المجاهد الكبير بمنطقة البيبان، فرحات زيداني، الذي أكد بأنه شارك في معارك كثيرة بالمنطقة وعلى تخومها، وهو ليس من أبناء هذه البلدة. ومن المعارك الكثيرة والطويلة:
معركة ولاد سيدي علي:
وفيها استشهد 14 مجاهدا وجرح ثلاثة منهم، بينما تكبد عسكر فرنسا خسائر بشرية فادحة بمقتل 56، وعدد كبير أصيب بجروح.معركة القرت:
وفيها قتل عدد لا يستهان به من جنود المستعمر، بينما استشهد مجاهدان.معركة لصفاح:
وفيها استشهدت السيدة بن عثمان كلثوم، بعد إصابتها برصاص الجيش الفرنسي، قرب قرية تيزي بأعالي بلدة زمورة، مع العلم أن المعركة اندلعت لما وصلت وشاية لجنود المحتل بوجود بعض "الفلاڤة" بالقرية متحصنين بمنزل هناك.معركة جبل زمورة:
وامتدت رقعتها على مساحة شاسعة بضواحي قرية الرابطة، شرقي زمورة، واستمرت ست ساعات كاملة، واضطرت فيها قوات الاحتلال إلى الاستنجاد بالطيران الحربي والعتاد الثقيل، ناهيك عن مئات الجنود، غير أن ذلك لم يثن من عزيمة المجاهدين ولم يضعف إيمانهم بالقضية التي ثاروا من أجلها، فكبدوا جيش العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ومن جملة ما حطموه من عتاد حربي، ثلاث طائرات.معركة قاع كاف:
بقرية ولاد عثمان، حيث لجأ عدد من المجاهدين إلى مغارة خلف مصب مائي، بين منابع ثالا عياش وبساتين القرية، ولما علم جنود الاحتلال بأمرهم (بعد وشاية) حاولوا إرغامهم على الخروج، خاصة وأنه لم يكن بوسعهم التوغل إلى المغارة بسبب صعوبة تضاريس المنطقة، فلجأوا إلى قصف المغارة بالمدفعية الثقيلة، غير أن ذلك لم يجد نفعا، ولم تفلح حتى قذائف الطائرات في إرغام المجاهدين على الخروج من تلك المغارة، ليلجأ جنود الاحتلال إلى خطة جهنمية بتسريب الغاز السام إلى داخل المغارة، وهو ما حتم على المجاهدين محاولة الهروب، وكانوا بذلك فريسة لجيش العدو، الذي حمل جثثهم وعددها أربع (حسب أكثر الروايات)، وتم عرضها بمنطقة الثنية الحمراء، ثم دعوا كل السكان للتفرج عليها حتى يكون ذلك عبرة لهم وشاهدا على جبروت وبطش فرنسا.ولا يسع المجال لذكر كل المعارك التي شهدتها زمورة خلال سنوات الثورة، ولكن الأكيد أن عشرات بل مئات الشهداء سقطوا بها فداء لدينهم ووطنهم.
"الكوليج الرهيب"... مختار بلجودي أول شهيد تحت تأثير الطقوس الوحشية
قد يكون "الكوليج الرهيب" أبرز معلم كولونيالي بمنطقة البيبان على الإطلاق، حيث بني على أنقاض حصن بناه الأتراك، غداة دخولهم إلى زمورة في القرن 16 ميلادي. وشرع في بناء هذا الصرح الحجري فائق الروعة والإتقان عام 1936 وانتهي من بنائه العام 1939، وكان الغرض من وراء تشييده بتلك الهندسة الفريدة، منافسة بعض الآثار التركية والرومانية بالمنطقة، بينما الهدف الخفي هو جعله مدرسة لتعليم أبناء المنطقة اللغة الفرنسية، ليس حبا فيهم بل لمجابهة الإقبال الرهيب لكل أجيال المنطقة على تعلم وقراءة القرآن الكريم (هذا تفسير متداول بكثرة لدى كثير من مثقفي المنطقة، وقيل بأن السلطات الاستعمارية عمدت إلى بناء صرح مثله بمنطقة عين حمام بتيزي وزو لنفس الغرض)، ومورس بهذه المدرسة قبل اندلاع الثورة تعليم اللغة الفرنسية، ولكن سرعان ما أصبحت ثكنة عسكرية سنة 1955 أو 1956، حيث تم تجميد نشاط التعليم تماما، ليقتصر دور "الكوليج" على كونه ثكنة عسكرية ومركز تعذيب، إلى غاية نهاية سنة 1959، حيث عاد إلى دوره التعليمي (حسب تقارير الفرقة الإدارية المتخصصة آنذاك)، طابق أرضي للتعليم وعلوي استغل كثكنة عسكرية.شهد هذا "الكوليج" أشد وأفتك أنواع العذاب الذي مورس على المجاهدين وأبناء المنطقة وكل القرى والدواوير القريبة والمحيطة بزمورة، وبه تمركزت القوة الرئيسية لجيش الاحتلال بقيادة النقيب أموريك. من دخل هذه الثكنة فهو حتما ليس آمنا على روحه، فما بالك بالتعذيب، ويروي كثير من شيوخ المنطقة أن صيحات المعذبين كانت تُسمع من مكان بعيد، لشدة ما لحق بهم من أذى، باستخدام كل الوسائل، بما في ذلك إرغامهم على شرب الأحماض وتسليط الكهرباء على مناطق جد حساسة من أجسادهم وشرب بول الجنود.
وليس هذا فحسب، بل كانت أجسام الذين يؤتى بهم إلى مركز التعذيب، تُقطّع بالسكاكين، ثم ينثر عليها الملح ليبقى ذلك الجسد تحت شمس حارقة أياما عديدة، ولعل أبرز من عانى هذه الويلات الشهيد مختار بلجودي، وهو من القرى القريبة من زمورة (تفرڤ) وهو أول شهيد فاضت روحه إلى بارئها بهذا المكان تحت تعذيب شديد لا يقوى عليه بنو البشر، وتقول روايات بعض أقارب الشهيد إن مختار بلجودي، عذب عذابا شديدا، باستعمال كل الوسائل ولما تيقن الفرنسيون من أنه لن يبوح بما يعرفه عن إخوانه المجاهدين، لجأوا إلى تبضيع جسده بسكاكين حادة، ونثر الملح على جسده، وعلق بمداخن المبنى على علو مرتفع جدا، وبقي على تلك الحال لأيام، تحت حر شديد (لا أكل ولا شراب) وكان المنظر مؤثرا جدا لكل من رآه آنذاك، إلى أن استشهد وهو مطمئن بشهادته في سبيل الله.
وعدد الذين استشهدوا تحت التعذيب هناك كثير، ذكر منهم تسعة في نصب تذكاري شيد بمدخل المبنى، وبقي عشرون آخرين مجهولي الهوية.. أما الذين ذكرت أسماؤهم في النصب التذكاري فهم: بلجودي مختار، بلعزوق عبد الله، بن أخروف موسى (استشهدوا سنة 56).
داود محمد الطيب، بن خليل البشير، بن ساسي قدور، بن ناصف الرشيد، مخلوفي محمد المسعود، زيتوني الطيب (استشهدوا سنة 57).
1 التعليقات:
السلام عليكم. أشكرك استاذ على الإشادة ببطولات شهداء ثورة التحرير المباركة. الشهيد بلجودي مختار هو خالي، وقد روت لي أمي نفس التفاصيل التي وردت في موقعك. رحم الله كل شهداء الثورة
إرسال تعليق